قد يكون في تشبيه معتقل سدي تيمان الإسرائيلي بمعتقل غوانتنامو الأميركي كثير من التعسّف على بلاغة التشبيه، لأن ما رشح، وهو نزرٌ يسير، من ممارسات إجرامية تُرتكب في السجن الإسرائيلي ضد المعتقلين الفلسطينيين تفوق في بشاعتها تلك الجرائم التي ارتكبت في حقّ نزلاء “غوانتنامو”. ولنكتف فقط بهذه المقارنة المُفزعة بين وحشية السجنين كما سجلها الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي في عموده في صحيفة هآرتس العبرية عندما كتب إن تسعة فقط ماتوا خلال 20 عاما داخل المعتقل الأميركي، بينما قُتل 60 فلسطينيا في عشرة أشهر فقط داخل المعتقل الصهيوني!
ما يحدث داخل هذا المعتقل الذي أقامه الجيش والمخابرات الصهيونيان في صحراء النقب، عقب هجوم السابع من أكتوبر، كشفت عنه شهادات مروعة لمعتقلين فلسطينيين أفرج عنهم، وفضحته تقارير صحافية لوسائل إعلام إسرائيلية وغربية وعربية، ووثّق جزءاً من فظائعه الوحشية تقرير أسود نشرته منظمّة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية، تحت عنوان مٌفزع “أهلا بكم في الجحيم”، كشف عن انتهاكات جسيمة بل ووحشية سادية من تعذيب وضرب واغتصاب وثّقته كاميرات المراقبة وبثته قنوات عبرية، وخلاصة التقرير أن ما يتعرّض له المعتقلون انتقام سادي لنظام عنصري حاقد ومريض.
لكن ما هو أفظع مما يقع داخل هذا السجن وغيره من السجون الإسرائيلية التي تسود فيها الممارسات السادية نفسها هو هذا الصمت المريب الذي يخيّم على المنظّمات الحقوقية الدولية، وعلى الحكومات الغربية، وعلى الرأي العام العالمي، ناهيك عن هذا المَوَات العربي المخيف، ولا مجال هنا للمقارنة مع ردود الفعل العالمية عندما اكتشف العالم عام 2002 فظائع معتقل غوانتنامو، وانتفاضة المنظّمات الحقوقية الدولية المندّدة بما كان يحدُث، وموجة الغضب التي اجتاحت العالم محتجّة ضد تلك الانتهاكات المُخزية، ومطالبة بإغلاق المعتقل سيئ الذكر. فهل طَبَّع العالم مع مثل هذه الممارسات السادية التي تقع اليوم في سجن سدي تيمان، تُنقل فظاعاتها مباشرة على شاشات التلفزة وضحاياها ما زالوا أحياء يشهدون ويحملون آثار كل ألوان التعذيب البشع الذي تعرّضوا له؟ أم هي الحصانة الصهيونية التي تضع دائما إسرائيل فوق كل القوانين، وتجعلها كل مرّة في منأى عن كل محاسبة أو عقاب؟
من غريب المصادفات أن يتزامن الكشف عن بعض من هذه الجرائم الإسرائيلية التي ترتكب داخل سجن سدي تيمان مع تداول خبر تراجع واشنطن عن الاتفاق على الاعتراف بالذنب لثلاثة معتقلين في سجن غوانتنامو الأميركي سيئ الذكر، ليَتذكَّر العالم أن ثمّة حوالي 30 شخصاً ما زالوا محتجزين، من دون أن توجّه إليهم أية تهم رسمية، وبدون محاكمات منذ زهاء 22 سنة داخل السجن الذي يرمز إلى الفظائع الأميركية في زمن حربها العالمية على الإرهاب.
سيبقى سجن غوانتنامو الذي لم يتجاوز عدد معتقليه نحو 700، أُفرج عن أغلبهم أو سُلّموا إلى بلدانهم في فترات متفاوتة، رمزاً للأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في بداية هذا القرن، وأكثر من ذلك شاهداً على بشاعة التعذيب الممنهج وغير المسبوق الذي كان يتعرّض له نزلاؤه تحت إشراف أقوى جيش في العالم وبمشاركة المخابرات المركزية الأميركية، وهو ما كشفت عنه عدة تقارير حقوقية دولية، زكّاها التقرير الذي أعدّه مجلس الشيوخ عام 2014، الذي كشف أن “الممارسات” التي كانت تُرتكب داخل ذلك السجن أضرّت بصورة الولايات المتحدة بشكل دائم. ومع ذلك، يبقى هذا السجن، رغم فظاعة ما كان يجري داخله، أرحم بكثير من نظيره الإسرائيلي الذي يعود بالبشرية إلى العصور المظلمة من تاريخها، زمن البشاعات البشرية والإبادات الجماعية يغذّيان الشر الجماعي لمرضى مهووسين بالقتل وسفك الدماء.
معتقل سدي تيمان اختزال للسجن الكبير الذي تمثله الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة وداخل سجون الاحتلال، فإسرائيل باتت اليوم أكبر سجن في العالم، ليس فقط بعدد السجناء، حيث دخل سجونها منذ 1967 أكثر من مليون فلسطيني، وفقا للأمم المتحدة، أي خُمس الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، وحتى قبل هجوم السابع من أكتوبر كان يقبع داخل هذه السجون نحو تسعة آلاف سجين فلسطيني، انضاف لهم نحو 9840 سجينا اعتقلوا في الشهور العشرة الماضية فقط. وقد وصفت منظمة بتسيلم تقريرها بأنه ليس مجرّد تقرير عما يحدث في مرافق السجون الإسرائيلية، وإنما هو عن إسرائيل نفسها، يعرّي “ديمقراطيتها” المزعومة، ويكشف عن وجهها الإجرامي البشع.
لا تعيد إسرائيل فقط ارتكاب الأخطاء نفسها التي ارتكبتها حاميتها أميركا في حربها ضد الإرهاب، عندما غزت بلديْن واحتلت أراضيهما وفتكت بشعبيْهما ودمّرت بنياتهما، وإنما أصبح وجودها اليوم أكبر خطأ، ليس لأنه قام على خطيئةٍ كبرى، تمثلت في نكبة الشعب الفلسطيني وسرقة أرضه وتحويل أكثر من نصفه إلى لاجئين مشرّدين والنصف الآخر إلى محتلين ومضطهدين ومعتقلين ومطاردين ومستهدفين فوق أرض أجدادهم، وإنما لما بات يمثّله من خطر على المنطقة وشعوبها، وما أصبح يشكّله من تهديد على القيم الكونية التي تأسّست عليها الحضارة الإنسانية. وإذا كانت فظائع “غوانتنامو” التي جرى الكشف عنها قد أفقدت أميركا في العالم سمعتها وقيمها، فإن “سدي تيمان” سيجعل إسرائيل، التي لا قيم لها، دولة مارقة، سوف يأتي اليوم الذي يستيقظ فيه الضمير الجمعي العالمي ويحاسبها على ما اقترفته من جرائم فظيعة وانحرافات خطيرة في معتقلاتها الرهيبة.