هناك من بات يعتقد أن المقاومة الفلسطينيّة المتمثّلة بحماس والفصائل الأخرى بدأت تخسر ورقة الأسرى الإسرائيليّين بصفتها ورقة رابحة وربّما أخيرة، يمكن من خلالها الضغط على إسرائيل لإنجاز صفقة تضمن وقف حرب الإبادة والانسحاب من قطاع غزّة مقابل الإفراج عن الرهائن الإسرائيليّين.
ويتعزّز هذا الاعتقاد في ضوء النجاح المتراكم لنتنياهو في تعطيل عوامل الضغط المحلّيّة (إسرائيليّة) والأميركيّة الّتي كانت أو كادت تكبّل يديه، وتمنعه من استمرار حربه الدمويّة على غزّة حتّى تحقيق ما يسميه بـ “النصر المطلق” ولو بثمن التضحية بحياة الأسرى الإسرائيليّين، الّذين لم يهتمّ بمصيرهم منذ بداية الحرب.
لقد نجح نتنياهو وسط حالة التعبئة والحشد الشعبويّ الّتي خلقها السابع من أكتوبر وأجواء الحرب على غزّة، وفي ظلّ غياب معارضة سياسيّة إسرائيليّة قويّة وحركة جماهيريّة قادرة على تجنيد الشارع الإسرائيليّ وحشده حول قضيّة تحرير الأسرى وتحويلها إلى هدف سامي لا يمكن تجاوزه، نجح نتنياهو عبر الخطاب “الحربجي” واقتناص إنجازات من خارج ساحة المعركة الدائرة في غزّة، مثل اغتيال هنّيّة والعاروريّ وشكر في قلب بيروت وطهران، في جرّ الشارع الإسرائيليّ الّذي ينضح بكراهيّة العرب والفلسطينيّين نحو موقفه، وتمكّن من استعادة مكانته السياسيّة الّتي زعزعتها عمليّة السابع من أكتوبر.
وبما يتعلّق بالعامل الآخر المتمثّل بالضغط الأميركي، فإن اجتماع الرغبة الجامحة لدى إدارة بايدن في تقديم الدعم اللّا محدود لإسرائيل في حربها ضدّ الفلسطينيّين والعرب مع الضعف الّذي يضرب رأس هرم هذه القيادة، مكّن نتنياهو الّذي يمتلك العديد من أوراق القوّة في الأروقة الأميركية، من تطويع هذه الإدارة وجرّها إلى ملعبه وحتّى تحويلها إلى مجرّد ألعوبة بيده بشكل أفقدها الكثير من الاحترام الذاتيّ.
وما المقترح الأميركي “المحدث” بشروط نتنياهو والّذي عرضة بلينكين، خلال زيارته الأخيرة، ولحس فيه مقترح الرئيس بايدن من الثاني من يونيو وقرار مجلس الأمن الّذي وافقت عليه حماس، إلا دليلًا إضافيًّا على خسارة هذه الإدارة لما تبقّى لها من مصداقيّة واحترام ذاتيّ وانبطاحها أمام نتنياهو والتواطؤ معه في مخطّط استمرار حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطينيّ والتضحية بالأسرى الإسرائيليّين.
في ضوء هذا التطوّر يبدو من المستغرب تمسّك الوسطاء العرب بوساطة تجري تحت مظلّة “وسيط أعلى” ليس فقط انّه غير نزيه ومنحاز بشكل كامل لإسرائيل وشريك في عدوانها على الشعب الفلسطينيّ فقط، وهي أمور معروفة مسبقًا، لكنّه يغيّر مواقفه ومقترحاته بما يتلاءم مع الطلب والموقف الإسرائيليّ المتطرّف المنسجم مع توجّهات سموترتش وبن غفير، ما يعني أن الاثنين لا يتحكمان بموقف نتنياهو فقط، بل بالموقف الأميركي أيضًا.
وعلى أمل أن يكون صحيحًا ما تناقلته بعض وسائل الإعلام حول رفض الجانب المصريّ تسلّم الخرائط الّتي تحدّد مواقع تموضع القوّات الإسرائيليّة على محور فيلادلفيا، وهو ما يخالف اتّفاقيّات كامب ديفيد ذاتها، فإن الانسحاب من المفاوضات هو الحدّ الأدنى المطلوب من مصر بعد كلّ الإهانات الّتي لحقت بها باحتلال محور فيلادلفيا وتدمير معبر رفح، وهي ترى التواطؤ الأميركي المكشوف مع مطالب نتنياهو، رغم وعيه بأن هدفه هو تفجير الصفقة وتحميل مسؤوليّة إفشالها لحركة حماس.
ويبدو أن نتنياهو يستعين بالموقف الأميركي لفرض وقائع جديدة على الأرض في غزّة، وفي مقدّمتها فرض تواجد عسكريّ إسرائيليّ على محور فيلادلفيا، لإعادة السيطرة على حدود قطاع غزّة مع مصر، مستغلًّا ضعف موقف النظام المصريّ الّذي أرخى الحبل لإسرائيل في انتهاك مبادئ اتّفاقيّات كامب ديفيد عندما تسامح مع تدمير معبر رفح وانتشار الجيش الإسرائيليّ على محور فيلادلفيا.
وإذا ما أخذنا بما يقوله محرّر صحيفة “هآرتس” ألوف بن، فان هدف نتنياهو هو احتلال دائم لقطاع غزّة أو السيطرة الأمنيّة الإسرائيليّة عليها، ولا شكّ أن السيطرة على محور فيلادلفيا تمكّن إسرائيل من محاصرة قطاع غزّة من الجهات الثلاث وعزلها عن مصر، كما أن السيطرة على محور “نتسريم” يقسم قطاع غزّة بين شمال وجنوب، حيث يسعى نتنياهو إلى السيطرة على شمال قطاع غزّة وإخلاء ما تبقّى من سكّانه وحشر جميع أهالي القطاع في جنوبه، وهنا يتبلور حلّ اليوم التالي الّذي يسعى إليه نتنياهو وحكومة المستوطنين الّتي تحلم بعودة الاستيطان وزرع شمال قطاع غزّة بالمستعمرات.
جدير بالذكر أن نتنياهو لا يحتاج إلى حماس لإتمام هذه الصفقة، في حال تنازل عن الأسرى الإسرائيليّين، بل إلى مصر فقط، بل هو يفضّل تحييد حماس وإدارة المفاوضات حول هذه الترتيبات أمام مصر، كما أن حماس وحدها لا تستطيع إحباط هذا المخطّط دون مصر، ويبدو أننا أمام محاولة إسرائيليّة لقطف نتائج الحرب على غزّة وفرض ترتيبات سياسيّة جديدة في قطاع غزّة برعاية أميركية تتجاوز الاتّفاقات الدوليّة الّتي وقعت مع الفلسطينيّين والعرب، وفي مقدّمتها اتّفاقيّات أوسلو واتّفاقيّات كامب ديفيد الّتي جرت برعاية أميركية.