رغم ما بدا عليها من سلبيةٍ شكلاً، فإنّ لخطوة قيادة الجيش السوداني بالامتناع عن المشاركة في لقاء جنيف ما يُسوّغها. ورغم هذه المقاطعة، أصرّت الولايات المتّحدة على عقد اللقاء في زمانه (14 أغسطس/ آب 2024)، ومكانه (جنيف)، وبحضور ممثّلي قوّات الدعم السريع، وبرعاية أميركية وسعودية، وبحضور الاتّحاد الأفريقي ومصر والإمارات والأمم المتّحدة بصفة مراقبين، مع غياب جامعة الدول العربية أو تغييبها.
وعَزَت قيادة الجيش السوداني عزوفها عن المشاركة في اللقاء إلى سبب رئيس، يتمثّل في الحاجة إلى تنفيذ قرارات إعلان جُدَّة (مايو/ أيّار 2023) قبل عقد أيّ لقاء جديد. وأوضح بيانٌ صادرٌ عن رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، أنّ إعلان جُدّة يُلزم قوّات الدعم السريع بالخروج من منازل المواطنين والأعيان المدنية، في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار ودارفور، وكذلك من المؤسّسات الحكومية، وهو ما لم تمتثل له تلك القوّات، كما لم تلتزم بتنفيذ قرار مجلس الأمن الصادر في 13 يونيو/ حزيران 2024، القاضي بإنهاء حصار الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور، ووقف قصف المدنيين وقتلهم وتدمير المستشفيات.
ومن أسباب أخرى للامتناع عن المشاركة أنّ مجلس السيادة طلب أن يسمّى “وفد السودان” أو “وفد الحكومة السودانية”، غير أنّ الداعين إلى لقاء جنيف اكتفوا بتسمية الوفد “الجيش السوداني”، وهو ما اعتبره مجلس السيادة محاولةً لوضع قيادة الجيش في كفّة مساويةٍ لكفّة قوّات الدعم السريع، وهو ما رُفِض. وهكذا، عُقِد اللقاء بمشاركة طرف واحد، هو “الدعم السريع”. وكانت قيادة الجيش قد وافقت على فتح معبر أدري في الحدود مع تشاد ثلاثة أشهر لغايات إنسانية، ومن باب التجاوب مع الدعوات الأممية إلى فتح معابرَ، علماَ أنّ التحفّظ على فتح معبر أدري مردّه الشكوك الرسمية بأنّه معبر لتهريب أسلحة.
وقد صدر عن اللقاء بيانٌ الثلاثاء الماضي (20 أغسطس/ آب 2024)، رحّبت به الدول الخمس، مع الأمم المتّحدة والاتحاد الأفريقي، بقرار فتح معبر أدري الحدودي من تشاد إلى شمال دارفور للأشهر الثلاثة المُقبلة، وتابع البيان “ستمكّن هذه القرارات البنّاءة من كلا الطرفَين دخول المساعدات اللازمة لوقف المجاعة، ومعالجة انعدام الأمن الغذائي، والاستجابة للاحتياجات الإنسانية الهائلة في دارفور وخارجها”. وذكر البيان أنّ “على الأطراف التواصل الفوري والتنسيق مع الشركاء في المجال الإنساني لتفعيل هذه الممّرات بكفاءة للوصول المستدام للمساعدات من دون عوائق”. ولفت مُوقّعو البيان إلى أنّه “على المجتمع الدولي والمنظّمات الإنسانية اغتنام هذه الفرصة لنقل المساعدات، وإنقاذ الأرواح، وخصوصاً للفئات الأكثر ضعفاً”. غير أنّ البيان لم يلامس لُبّ المشكلة المتمثّل في النزاع المسلّح الذي أزهق أرواح 18 ألف ضحيةٍ مع عشرات آلاف من الجرحى وملايين النازحين، وبينما ترتدي المساعدات أهمّيةً بالغةً مع بدء تفشّي المجاعة وانتشار وباء الكوليرا، فإنّ مواجهة هذه التحدّيات الجسيمة تستلزم إنهاء النزاع المسلّح وتجنيب المدنيين خطرَ الموت بنيران الحرب.
وبينما كانت الحاجة قائمةً للبناء على إعلان جُدَّة (رعته السعودية وأميركا) وضمان تنفيذه، فقد تم الانتقال أو القفز إلى صيغةٍ جديدةٍ هي صيغة لقاء جنيف الموسّع، وهو ما فشل الجانب الأميركي في تبريره، كما تذكُر تصريحات صادرة من مجلس السيادة. وقد وصفت الولايات المتّحدة مباحثات جنيف بشأن الحرب في السودان بأنّها “نموذج جديد تريد مواصلة البناء عليه”، مُؤكّدة أنّ هدف المباحثات “توسيع نطاق إيصال المساعدات وإعادة فتح الممّرات الإنسانية”، ووصف المبعوث الأميركي إلى السودان توم بيرييلو في مؤتمر صحافي بجنيف الاثنين الماضي (19 أغسطس) المحادثاتِ بأنّها “نموذجٌ جديدٌ” لمحادثات السودان، قائلاً: “نريد مواصلة البناء على ذلك”. وهو ما يعيد إلى الأذهان السلوك الأميركي تجاه الحرب على غزّة، فقد دأبت واشنطن في الأشهر الأولى للحرب على التصريح بأهمّية إيصال المساعدات الانسانية إلى القطاع، الذي كان يشهد أشدّ الفصول دمويةً من حرب الإبادة، وبدلاً من العمل على وقف إطلاق النار نقطةَ انطلاقٍ لأعمال الإغاثة، وتسهيل وصول المساعدات، اكتفت واشنطن بالحديث فترةً طويلةً عن المساعدات. وفي المحصّلة، وصل النزر اليسير من هذه المساعدات بفعل العرقلة الاسرائيلية، وجرت مسرحية الرصيف العائم، فيما تواصلت المجازر اليومية بحقّ المدنيين (وما زالت). شيء من ذلك تكشف عنه المُقاربةُ الأميركيةُ للنزاع في السودان، فهناك فصلٌ مُتعمّد بين وجوب إيصال المساعدات ووجوب توقّف النزاع المسلّح وذلك من أجل أن تصل المساعدات، ولكي تنشط أعمال الإغاثة، في أجواء آمنة، ولكي يتمكّن ملايين النازحين من العودة إلى ديارهم، وإعادة بناء ما هدّمته الحرب من بيوتٍ ومرافقَ حيويةٍ وبنيةٍ تحتيةٍ.
والخشية الآن أن تسعى واشنطن لإدارة الأزمة في السودان، وإلى أمد طويل، وفق ما تسمّيه “النموذج الجديد”، وذلك بالتركيز الأحادي على الجانب الإنساني والممّرات الإنسانية، وإغفال الجانبين، السياسي والعسكري، أو وضعهما في مرتبةٍ مُتأخّرةٍ من الاهتمام، مع تجاهل أنّ قوّات الدعم السريع (أو الجنجويد)، لا تحظى بأيّ شرعيّة، وما ارتكبته هذه القوّات من تعدّياتٍ جسيمةٍ على المواطنين والمرافق المدنية والحيوية يزيد من لا شرعيتها. وعدا ذلك، يتجاهل “النموذج الأميركي” الجديد القوى السياسية والاجتماعية السودانية، ورؤاها نحو الحلّ المنشود، ويُهدّد بتفكيك المؤسّسة العسكرية والدولة السودانية. ولعلّه من المفيد هنا الإصغاء لشهادة فائقة الأهمّية للروائي السوداني، عبد العزيز بركة ساكن، الذي قال : “أولاً أنا مع شعار (العسكر للثكنات والجنجويد ينحلّ)، وهو شعار معظم السودانيين وشعار المرحلة، وأيضاً ضدّ الحرب، ومع الوقف الفوري لهذه المأساة”. وأضاف “من المنطقي أن نحافظ على الجيش السوداني. نعم، بكل سوءاته، وهو جيشٌ تاريخه وسمعته في السودان ليست حسنة، فقد أدار الحروب في بقاع السودان كلّها، وارتكب كثيراً من المجازر في الجنوب ودارفور وجبال النوبة، ولكنّه رغم ذلك يظلّ المؤسّسة العسكرية التي يجب أن نبني عليها في المستقبل جيشاً عقيدته القتالية وطنية، جيشاً غير مُؤدلَج وبعيداً من السياسة والانقلابات، وموقعه هو الثكنات، وليس غرف الوزارات والعمل في التجارة وإدارة المعارك السياسية والانحيازات”. وختم “إذا فرّطنا في هذا الجيش لمصلحة مليشيات الجنجويد ذات التكوين القبلي فإنّنا سنفرط في دولة المستقبل، فالمليشيات لا يمكنها أن تصبح جيشاً وطنياً، ولا نواةً لجيش وطني، نسبة لتكوينها القبلي المُعقّد. إذن، يجب أن تتوقّف الحرب الآن، وتُسلّم السلطة لجماهير الشعب، ويُكّون جيش واحد يضمّ جنود الحركات المسلّحة كلّهم، وأيضاً مليشيات الجنجويد، ويتم تأهيل الجميع بعقيدة قتالية وطنية”.