عادت أجواء محاولات التقارب بين تركيا وسوريا، وهي ليست بجديدة لو علمنا أن الاختراق الأول للأزمة بين البلدين حصل في عام 2022.
حينها، شهدت العلاقات لقاءات على المستوى الأمني، ودعوات رسمية من الجانب التركي، إلى لقاء بين الرئيس رجب طيب أردوغان والرئيس بشار الأسد، إلا أن مسار التطبيع تجمد بسبب تمسك الطرفين بشروط محددة، وعدم الرغبة في تقديم تنازلات قبل اللقاء.
حينها ذكرت في مقال بعنوان: “التقارب بين أنقرة ودمشق”، بتاريخ 22 ديسمبر/كانون الأول 2022: “هناك ترقب سوري لنتائج الانتخابات المقبلة في تركيا، ما يفسر التأني وتأجيل القرار السياسي بشأن مفاوضات التقارب بين البلدين”.
الوضعية الآن اختلفت عن التجربة السابقة، فالظروف الإقليمية تغيرت، والانتخابات التركية حسمت لصالح أردوغان، الذي بدوره أبدى جدية كبيرة هذه المرة للتطبيع مع دمشق.
الأجواء المحيطة ملائمة لحصول التقارب، فروسيا تريد تأمين مصالحها في سوريا عبر إنهاء وجود الجماعات المسلحة على الأراضي السورية، وهو ما قد يفسر اللقاء الأخير في موسكو بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الأسد، الذي قد يرى في توقيته أنه يأتي في سياق الضغط الروسي لمسارات التطبيع.
بينما كانت لعودة العلاقات الخليجية-التركية إلى سابق عهدها، بالإضافة إلى التقارب العربي-السوري الحافز الكبير للتطبيع بين أنقرة ودمشق، ومع تغير الظروف الإقليمية بسبب تداعيات حرب غزة، واقتراب حسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية، لكون واشنطن لاعبا رئيسيا في الأزمة السورية، أصبحت الحاجة ملحة لعودة أجواء المصالحة على الأقل بالنسبة لتركيا بشكل أكبر.
الرغبة التركية نحو المصالحة مع سوريا تنطلق من قلقها بشأن الصراع الإيراني الإسرائيلي، واحتمالية تصاعده إلى حرب إقليمية واسعة، قد تتسبب في مضاعفة وجود المليشيات الإيرانية في سوريا، كما شكل الحياد السوري تجاه حرب غزة بشكل عام، واستهداف قيادات إيرانية على الأراضي السورية بشكل خاص منعطفاً مهماً، ما جعل عدة دول أوروبية تراجع تصوراتها بخصوص مستقبل الملف السوري، واقترابها من فكرة الانفتاح، وأبرزها تعيين إيطاليا سفيرا لها في دمشق.
ولا شك أن أنقرة قلقة على الصعيد الأمني من مستقبل الشمال السوري حال أقامت قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المدعومة أمريكياً حكما ذاتيا، خصوصاً مع احتمالية عودة الرئيس السابق دونالد ترامب للسلطة، الذي من المرجح أن يسحب قواته من سوريا، مقابل دعم حلفائه الأكراد بطريقة أو أخرى، ولن يسمح بالتدخل العسكري التركي في مناطق “قسد”، ولهذه المتغيرات أصبحت الدوافع التركية للتطبيع مع دمشق كبيرة، لتحييد تطورات الملف السوري المستقبلية من السيناريوهات التي تتعارض مع مصالح تركيا الاستراتيجية.
لم تتغير المطالب السورية الرسمية لقبول اللقاء بين أردوغان والأسد، وأهمها الانسحاب التركي من الشمال السوري، إلا أن الاندفاع التركي تجاه المصالحة قد يعني تغير رؤيتها حول سوريا من مبدأ المواجهة إلى التعاون مع دمشق، بهدف تحييد “قسد” ودعم سوريا على الصعيد الأمني والعسكري لتتمكن من إدارة المناطق في الشمال السوري، ما قد يمهد للانسحاب التركي بشكل تدريجي، وقد تطرح تركيا فكرة دمج المجموعات المعارضة السورية للجيش السوري، وبذلك يحسم ملف الدعم التركي لتلك الجماعات.
ستحاول تركيا بوساطة روسية عقد اللقاء بين أردوغان والأسد خلال الأشهر القليلة القادمة، خصوصاً قبل انتهاء الانتخابات الأمريكية لتفادي نتائجها على الملف السوري، وبغض النظر عن نتائج اللقاء، فمجرد البدء بتفاهمات أولية سيشكل اختراقا نوعيا في الطريق الصحيح ضمن خارطة طريق سيستفيد منها الطرفان، والفائدة الأهم للجانب السوري هي استمرار توجهات الانفتاح الإقليمي والدولي على دمشق، ولعل أن تكون بداية تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق عبر بوابة التجارة والاقتصاد، ما سيسهم في عودة الحياة الطبيعية إلى سوريا، ويفتح الأبواب باتجاه إعادة الإعمار والبناء والاستقرار.