السياسي – طيلة الوقت كنا نعتقد أن الكيان الصهيوني أنشئ لحراسة المصالح الغربية في بلادنا، وتلك كما يبدو فرية كشفت عنها معركة طوفان الأقصى، يحضرني هنا قول الرئيس الأمريكي جو بايدن: لو لم تكن إسرائيل قائمة لأنشأناها، تلك الفرية أو الفرضية على أحسن تقدير، جرت أكثر من مرة على ألسنة قادة وزعماء غربيين وأمريكان، ويبدو أننا صدقناها، وتفننا فيما بعد في توصيفها، فطفقنا نشتق عبارات عربية بليغة لهذا الأمر، من مثل: إسرائيل قاعدة أمريكية متقدمة (يا للسخرية، هناك إحصاءات تتحدث عن وجود 55 قاعدة أمريكية في بلادنا، ولا يوجد قواعد أمريكية معروفة في الكيان فيما هو معلن!) و: إسرائيل حاملة طائرات أمريكية، والحقيقة أن عدد الطائرات الموجودة في قواعد مقامة في بلاد العرب وفي مياههم الإقليمية يفوق عدد طائرات سلاح الجو لدى العدو، وفي المحصلة، ما حاجة أمريكا لقاعدة عسكرية في إسرائيل، ما دامت أبواب بلاد العرب مفتوحة على مصراعيها لإقامة ما تشاء من قواعد؟
أما حكاية حماية المصالح الغربية، والأمريكية، فأمريكا والغرب يحمون مصالحهم بطريقتين، أكثر جدوى وأقل كلفة مما تكلفهم إسرائيل، الأولى: عبر قواعدهم العسكرية آنفة الذكر، والثانية عبر الأنظمة التي تتمتع بحماية أمريكا وتدور في فلكها تحت بند “إقامة الشراكات الاستراتيجية” و”التعاون الثنائي!” وحكاية الشراكات لا تقل سخرية عن فرية حماية إسرائيل للمصالح الغربية، فأي شراكة بين مستعمِر ومستعمَر، (بكسر الميم الأولى وفتح الثانية)..
البعض يتحدث عن سبب آخر لإنشاء إسرائيل، وهو شعور الغرب بعقدة الذنب نتيجة ما وجده اليهود في أوروبا، وما يقال عن الإبادة النازية، لذا كان لا بد من قيام وطن قومي لليهود يعوضهم عن “العذابات!” التي وجدوها في الغرب، حسنا، منذ متى تتحرك دول الغرب بدافع “أخلاقي”؟ هذا أولا، وثانيا وثالثا وعاشرا، أليست إسرائيل اليوم المكان الأقل أمانا لليهود من أي بقعة في العالم؟ أين يقتل اليهود؟ فقط في “وطنهم القومي!” يعني تلك فرية متهالكة، لا تصمد أمام حقيقة أن تجميع اليهود في مكان واحد كفلسطين، جلب عليهم شرا مستطيرا من أهل البلاد الأصليين، الذين لم يسلموا (ولن) باستيلاء الأغراب على أرضهم، بالعكس من تلك الفرية، فقد جُمع اليهود في فلسطين لكي يسهل قتلهم، وكأني بهذا الكيان أقيم بوصفه “مؤامرة” على اليهود، أوقعتهم فيها الصهيونية العالمية، والتواطؤ الغربي، وتلك حكاية يطول الحديث فيها، وإن كانت جماعة ناطوري كارتا اليهودية المتدينة المتبرئة من الصهيونية هي العنوان الأبرز لهذه الحكاية، إذ تناصب هذه الجماعة كيان العدو العداء وتدعو اليهود إلى ترك فلسطين لأهلها العرب!
آخرون يتحدثون عن سبب ديني دفع الغرب لإنشاء “إسرائيل”، وهو ترجمة لإيمان بعض الطوائف النصرانية بضرورة قيام إسرائيل للتعجيل بعودة المسيح، حسنا، هذه عقيدة دينية موجودة لدى بعض القوى المؤثرة في الغرب (المسيحية الصهيونية، أو الإنجيلية) ولكن هنا سؤال: بلاد علمانية تدوس كل يوم على كل القيم المسيحية، هل تقيم وزنا لهذا السبب “الديني” وتخصص له تمويلا يكاد يكون مفتوحا، وتستميت في الدفاع عنه؟ كيف يستقيم هذا الأمر وعقيدة اليهود أصلا تعتبر المسيحيين كفارا، وهم جزء من “الأغيار” الذين خلقهم إله اليهود يهوه كي يكونوا خدما لليهود؟
وفي المقابل يعتبر المسيحيون اليهود هم من قتل المسيح، وقد أفاض الإنجيل في شرح دور اليهود المناهض للمسيح من الإهانة والمضايقة (يوحنا 5:16، مرقص 14:65) إلى المطاردة والاعتقال (يوحنا 20:19) إلى الصلب والقتل (متّى 27:22-26). ويصفهم الإنجيل بأقذع الصفات: منها أنهم قتلة الأنبياء (لوقا 13/34 والرسالة الأولى إلى مؤمني تسالونيكي 2/14-15)، وأبناء قتلة الأنبياء (متى 23/31)، وأنهم “أولاد الأفاعي”، (متَّى 12/34) (متى 23/33 ومرقس 3/7)، وأنهم أهل رياء وفسق (متى 15/7-8 ومرقس 77/6) وأنهم أهل جهل وعمى وضلالة (متى 23/17، 23/19، 23/24، 15/14)، وأنهم عديمو الإحساس بالعدل والرحمة والأمانة (متى 23/23، والرسالة إلى مؤمني روما 10/3).
في المحصلة فكلا الطرفين يهودا ومسيحيين لا يلتقون “دينيا” وتصنفهم النصوص الدينية أعداء، وهم كذلك فعلا حين يتعلق الأمر بتضارب مصالحهما، ليس بسبب التناقض الديني فقط، بل بسبب تحكم المصالح البحتة في علاقة كلا الجماعتين، فما الذي جمعهما على هذا الشكل الغريب، الذي يجعل الغرب يستميت في الدفاع عن الكيان ويكرس له كل هذا الدعم غير المحدود المادي والمعنوي والحماية الدولية حتى ولو بلغت حد مجرد “الإدانة” في مجلس الأمن؟ ما السر الكبير الذي يجعل الكيان ابنا مدللا لأمريكا والاتحاد الأوروبي والغرب عموما، ويحظى بكل هذا الدلال رغم ما يرتكبه يوميا من جرائم يندى لها جبين الإنسانية في فلسطين عموما وغزة على وجه الخصوص؟ ما الذي يجعل صاحب القرار وما يسمى تشكيلات الدولة العميقة في الغرب يغض الطرف عن كل تلك الفواحش ويستمر في ترديد الاسطوانة المشروخة وهي (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها!) رغم أنها هي المعتدي وهي التي لطخت وجه المدنية الغربية برمتها بالدماء وهشمت صورة الغرب الزائفة بوصفه داعية حقوق إنسان وحريات وديمقراطية؟
الجواب عن كل تلك الأسئلة، في كلمة واحدة فقط: الإسلام!
نعم، أقيمت “إسرائيل” كي تكون رأس حربة، بل قاعدة لكل الحراب الممكنة، لمشاغلة الأمة، وإنهاكها، ومنع صحوتها بكل الطرق، وعبر كل الوسائل، ابتداء من إقامة حزام سلطوي من الأنظمة الموالية للغرب والمتحابة مع الكيان، وانتهاء بسلسة عمليات تستهدف غسيل دماغ للعقل الجمعي العربي والمسلم، عبر منظومة من الأساليب الجهنمية، عن طريقة العبث بالمناهج، وصناعة التفاهة، وتضليل الوعي، وصناعة “أبطال” بديلين من ورق الفن والرقص والتمثيل، وغير هذا كثير مما لا يتسع المجال لشرحه، ومركز كل هذا والموجه له وتصنيعه هو الكيان، وأذرعه في بلاد العرب والمسلمين، أما لماذا؟ فباختصار شديد: صحوة الإسلام هي بداية نهاية الغرب واستفراده في حكم العالم، ولعل وقوف الغرب كله وراء الكيان في عدوانه الشرس على غزة الجهاد، وغزة حفظة القرآن، وغزة الإسلام، هو ما يفضح هذا الأمر.
وربما، للحديث صلة، إن كان في العمر بقية.