إسرائيلُ دولةٌ مهمومةٌ دائماً بخطر وجودي يتهدّدها، منذ ما قبل هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر (2023)، تجده في كلّ قضية تواجهها، وليس أدلّ على ذلك من المخاطر التي ناقشها مؤتمر هرتسليا في أعوام مضت، وهو المؤتمر الذي يفحص ميزان المناعة والأمن لإسرائيل، وفي كلّ مرّة يجد المؤتمر خطراً وجودياً يهدّد دولة إسرائيل. ويبدأ طيف المخاطر الوجودية التي استعرضها هذا المؤتمر من الخطر الديمغرافي الفلسطيني، مروراً بأخطار التسلّح التقليدي لدول الطوق، وبالزحف الأصولي باتجاه إسرائيل، وصولاً إلى خطر التهديد النووي الإيراني، الذي ظهر بوصفه الخطر الأكثر تهديداً لوجود إسرائيل.
وليس مؤتمر هرتسليا الوحيد الذي روّج فكرةَ المخاطر الوجودية التي تواجه إسرائيل، بل تكاد هذه المخاطر تكون على لسان النخبة الإسرائيلية كلّها، الفكرية والسياسية والعسكرية، وكأنّها كلمةُ السرّ الكُبرى في إسرائيل، أو قضية إجماع بصرف النظر عن القضية التي يعتبرها هذا الطرف أو ذاك تشكّل “الخطر الوجودي” الأبرز. ويعطي تكرار لازمة الخطر الوجودي الانطباع أنّ هذه المخاطر حقيقية، ما يجعل بعضهم يستنتج أنّ زوال دولة إسرائيل مسألةُ وقتٍ، وما علينا سوى الانتظار، فالزمن كفيلٌ بحلّ مشكلات الصراع الذي لا يسير في مصلحة إسرائيل التي تعترف بلسان قادتها أنّها تواجه مخاطرَ وجوديةً قد لا تُبقيها في الخريطة السياسية في المنطقة.
هذه التحليلات شكلية وسطحية، فالدولة القادرة على مناقشة قضية وجودها بشكل دائم قوية، وهذا من علامات القوّة، وليس من علامات الضعف، بصرف النظر عن أنّ هذه الأخطار الوجودية حقيقةٌ أم مفتعلةٌ، لأنّ هذه الدولة، ومن خلال نقاشها هذه القضايا، تحاول تجنّب المصائر كلّها، التي لا ترغب فيها، ليس من خلال انتظار فعل الزمن، بقدر ما يكون بفعل التأثير في فعل الزمن، في حال كانت التقديراتُ لا تعمل لصالح دولة إسرائيل، ولا يَعيب هذا التقدير أن تكون الدولة التي نتحدّث عنها عدوَّةً. ولولا الفحص المستمرّ لمناعة الدولة العبرية في مواجهة المخاطر، والتحدّيات التي تواجهها، لما كانت اليوم في الموقع المتفوّق على دول المنطقة بمسافة كبيرة، ما جعلها الدولة الأقوى في الشرق الأوسط.
ببساطة، لا يمكن استنتاج أنّ الدولة الأقوى في الشرق الأوسط هي في غاية الهشاشة، لأنّها تناقش الأخطار الوجودية باستمرار. ولا يمكن الاقتناع بأنّ هذا النقاش يكشف حقيقةً تخفيها المعطيات السياسية والاقتصادية والتسليحية لدولة إسرائيل، والتي تقول إنّها ما زالت الدولة الأكثر تفوّقاً في المنطقة، وستبقى كذلك في المدى المنظور.
نقاش المخاطر صغيرةً كانت أم كبيرةً، بوصفها خطراً وجودياً، ليس في حقيقته سوى رُهَاب تعانيه دولة إسرائيل، أكثر من أن تكون الدولة العبرية تواجه مخاطرَ وجوديةً حقيقيةً، لأنّ إسرائيل حتّى في انتصاراتها بقيت مشغولةً بهاجس الخطر الوجودي، فهي لا تثق بأنّ انتصاراتها تحميها من هذه المخاطر الوجودية، ويبدو هذا الرُّهَاب يُفسِد على إسرائيل انتصاراتها، كما تبدو عليها الصورة التي تقدّمها، أو كأنها تخاف من الانتصارات أن تُفسِدها، كما كان وقع حرب 1967 على إسرائيل، التي جعلتها تتصرّف بعنجهيةٍ وتعالٍ في السنوات اللاحقة، لتجد نفسها ضحيّةَ التقصير الذي حصل في حرب 1973، وهو ما تكرّر خلال “طوفان الأقصى” 2013.
تصوير إسرائيل نفسها ضحيةً، أو عرضةً لأن تكون ضحيةً، جزء مكوّن للدولة العبرية، ومن خلال هذه الصورة تحاول إخفاء حقيقة الواقع في المنطقة، وحقيقة موقعها ودورها فيها، ومن هو في موقع الضحية ومن هو في موقع الجلاد، فمنذ حرب 1948، التي كانت موازين القوى فيها مختلّةً لصالح العصابات الصهيونية ساعة وقوع الحرب (حقائق كشفتها الوثائق الإسرائيلية والمؤرّخون الإسرائيليون الجُدد، ورغم أنّ هذه الحقيقة كانت معروفة عند القادة الصهاينة)، كانت الصرخات الصهيونية تقول إنّ اليهود يواجهون خطراً وجودياً.
منذ بدايتها، قصة التهديد الوجودي مختلقة لوحشٍ يلبس لبوس الضحية، ويريد أن يبقى في صورة الضحية مهما ارتكب من جرائم. ولذلك، تحاول إسرائيل دائماً أن ترسم لنفسها صورةَ الضحية، وهي الصورة التي ترغب في ترسيخها لدى الرأي العام العالمي، للحصول على أقصى تعاطف، وأقصى دعم لجرائمها من الدول الغربية. ساعدت هذه الصورة في اختراق المجتمعات والرأي العام في الدول الغربية، وساهمت في ابتزاز هذا الغرب، فالرأي العام الغربي لا يتعاطف دائماً مع دولة إسرائيل، بل على العكس، في أحيانٍ كثيرة، يعبّر عن استياء وإدانة لسياساتها الدموية في مواجهة الفلسطينيين. لكنّ صورة الضحية التي “تتعرّض لخطر وجودي” نجحت، إلى حدّ كبير، في إخفاء الجرائم الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين، على اعتبار أن من “حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها”، كما تكرّر التصريحات الغربية الرسمية، وأحياناً تترافق هذه التصريحات المدافعة عن إسرائيل بالأسف لسقوط ضحايا أبرياء المدنيين الفلسطينيين، وكأنّهم لا يسقُطون بفعل الرصاصات الإسرائيلية، ونتيجةً مباشرةً للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومنع الفلسطينيين من ممارسة حرّيتهم في أرضهم.
ومن أجل الحفاظ على صورة الضحية، أطلقت إسرائيل على جيشها اسم “جيش الدفاع الإسرائيلي”، ما يوحي بأنّ مهمّاته دفاعية، وليست عدوانية، وحتّى حرب إسرائيل المدمّرة في عام 1967 دافعت عنها إسرائيل بوصفها حرباً للدفاع عن الوجود اليهودي المُهدَّد، التي لم تترك أمام إسرائيل من خيار سوى دفاعها عن نفسها، في مواجهة الخطر الوجودي العربي بشنّها الحرب ضدّ الدولتَين (مصر وسورية)، ولكنّها احتلت الضفّة الغربية الفلسطينية من الأردن، الدولة الضعيفة.
في كلّ مرّةٍ تدّعي فيها إسرائيل أنّها تواجه خطراً وجودياً، وتلبس لبوس الضحية وتذرف الدموع، تكون على أهبة الاستعداد لشنّ عدوان جديد. و”الخطر الوجودي” تعبير يتكرّر كثيراً في إسرائيل هذه الأيّام، ما يجعل الحرب الإسرائيلية لتدمير غزّة مستمرّة، حتّى ينتهي هذا الخطر الوجودي، الذي لا ترى إسرائيل انتهاءه إلا بالقضاء على الفلسطينيين بوصفهم الخطر الوجودي الأكبر.