قد تكون قفزة نحو العقلانية والواقعية السياسية، أو ابتداء نفض مسؤوليات فاقت قدراتها عن كاهل نظامها، ومحاولة لتخليص (بلاد فارس) إيران من التزامات تجاه قوى وفصائل وتنظيمات وجماعات في بلاد وأقطار المشرق العربي، ثبت لها بعد عقود من التجهيز والمد اللوجستي والمالي والإعلامي عدم نجاعة الاعتماد عليها، لأسباب عدة، أهمها أن العداء المذهبي في المنطقة متأصل ومتمترس، وطغى على الوعي الفردي والجمعي والوطني الواجب توفره لدى شعوب المنطقة، لرؤية وتقدير الخطر الحقيقي الكامن في المشروع الاستعماري الصهيوني، وبالمقابل قد تكون مواقف الرئيس الإيراني المعلنة على منبر الأمم المتحدة والمقابلات التلفزيونية مع أهم مرئيات الإعلام الأميركي إقرارا مبطنا بالعجز عن الاستمرار في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الى أجل غير مسمى، فخريطة التحالفات في المنطقة رغم تغيرها، إلا أنها لا تصب في مصلحة إيران الإستراتيجية، ما يعني أن نظام الخامنئي في طهران قد فهم أن التوجه الروسي والصيني للتقارب مع دولته لا يتعدى المناورة السياسية مع دول الحلف الأطلسي على رأسها الولايات المتحدة الأميركية ذات النفوذ الأقوى في منطقة الخليج العربي، باعتبار طبيعة النظام الإيراني ومحاولاته الدائمة لتصدير مفاهيمه وتعاميمه المحصورة في إطار مذهبي، وهذا مؤثر بشكل بالغ على علاقات روسيا والصين التي بدأت تنمو تدريجيا مع دول عربية وازنة في الخليج العربي على رأسها المملكة العربية السعودية، التي تجعلها بحكم مكانتها العربية والدولية، وسياستها المنفتحة، تجعلها تتقدم بأشواط على ايران، لمنحها مركز الاهتمام الروسي والصيني.
هذا بالنسبة للمنظور العام، أما الدقيق وضمن الزاوية الفلسطينية والعربية التي يفور تنورها بنيران الحرب وحملة الإبادة، فقد ثبت بما لا يدع أي مجال للتأويل أو المبررات والتفسيرات والشك أيضا أن إيران مستعدة لخوض معاركها من أجل تحسين مواقع النفوذ والسيطرة ولكن وفق إستراتيجية إبقاء حمم الحروب بعيدة عن أرضها وعن الشعب الإيراني الذي أعرب –عبر أول فرصة أتيحت له- عن رفضه سياسة تغذية فصائل وأحزاب في العراق ولبنان وفلسطين واليمن على حساب التنمية في موطنه، ولم لا نقدر أيضا أن النظام الإيراني قد بلغ ذروة القناعة بضرورة عدم الاعتماد على فصائل وجماعات وأحزاب وتنظيمات أغرقت الشارع العربي والإقليمي بشعارات ويافطات جهادية وثورية، وعبارات التمجيد والولاء للثورة الخمينية والجمهورية الإسلامية!!
لكنهم –أي الوكلاء- عند الامتحانات الميدانية التي صممتها إيران ودعمتها بأسباب القوة كافة قد فشلوا في تحقيق أهداف إيران أو تحقيق أي هدف من أهدافهم الوطنية، التي كانوا يمررون أهداف ايران تحت يافطاتها والدعاية المكثفة لها، ليس هذا وحسب، بل إنهم قد أسهموا باستحضار واستدراج التهكم على “محور المقاومة والممانعة”، وإفراغه من مضمونه، وإسقاط هيبته، وتبدد الخوف والتخوف “مما سيفعل إذا ما” فحدثت الـ “إذا ما” وما زالت مستمرة منذ حوالي سنة في قطاع غزة، ويستبيح المستوطنون المسجد الأقصى في القدس بصلواتهم التلمودية، وتحدث في هذه اللحظات في جنوب لبنان الـ “إذا ما” غير المسبوقة في الحروب المعاصرة من حيث كثافة الغارات المدمرة والاختراقات الأمنية وبقيت “سين الفعل وسوف” في مخازن الاحتفاظ بحق الرد التي تكاد تنفجر من تكدس ملفاتها، وأعظمها ملف انتهاك (سيادة إيران) بعناوينها المعروفة: كاغتيال الشخصيات العلمية والعسكرية وضيوف إيران -إسماعيل هنية، رئيس حماس- في قلب العاصمة طهران، وعلى أجزاء من أراضيها ممنوع على المواطنين الإيرانيين ذاتهم الوصول إليها لحساسيتها، ولشدة الإجراءات الأمنية في بقاعها.
قد تطوي طهران ملف “وكيل” خدم أجندتها هنا أو هناك بمقابل مادي، وربما تلغيه نهائيا، وتخرجه من أرشيفها حتى، وهذا أمر معلوم في سياسات دول استعمارية تستخدم الآخرين ليخوضوا حروبها، أما مبررات إحراق هذه الملفات وحتى أصحابها فجاهزة، ولا يتطلب الأمر أكثر من شعارات ودعايات مكثفة، فأنظمة مستخدمة للدين، وكذلك الجماعات والتنظيمات، استمرأت الانقلابات السياسية، والأيديولوجية، ولا يتطلب الأمر عندها أكثر من ابتداع حلول رغبوية، تزين الحرام بالحلال، وتجعل الشيطان الأكبر أخا!!.