فرانسيس بيكون وثوريّة المعرفة – قراءة نقديّة

د. عدنان عويّد

(فرانسيس بيكون ( 1561 – 1626) فيلسوف ورجل دولة وكاتب إنجليزي معروف بقيادته للثورة العلميّة عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على «الملاحظة والتجريب». وهو من الرواد الذين انتبهوا إلى عدم جدوى المنطق الأرسطي الذي يعتمد على القياس. (1).

لُقِّب “بيكون” بأب التجريبية. جادل بإمكانيّة المعرفة العلميّة المبنيّة على الاستقراء والاستنتاج والمراقبة الدقيقة للأحداث في الطبيعة. كما جادل أيضًا بأن العلم يمكن تحقيقه من خلال استخدام أسلوب متشكك ومنهجي يهدف من خلاله العلماء إلى تجنب تضليل أنفسهم ومتلقي علمهم. فالفكرة العامة لأهميّة وإمكانيّة بيكون هي وجود منهجيّة متشككة تجعله أب المنهج العلمي.

يعتبر “بيكون” هو حلقة الاتصال بين الماضي والحاضر الذي وجد فيه, وذلك لأنه يرى بأن الفلسفة قد ركدت ريحها، واعتراها الخمود, في حين أن الفنون الآليّة (التكنولوجيا) كانت تنمو وتتكامل وتزداد قوة ونشاطا على مر الزمن. وعلى هذا الأساس المعرفي أدرك “بيكون” أن انحطاط الفلسفة يرجع إلى عدّة عوامل منها:

1- إن النهضة الأوروبية قد خلفت روحاً أدبيّةً جعلت الناس يهتمون بالأساليب والكلمات ويهملون المعاني.

2- اختلاط الدين بالفلسفة, أو بثقافة المجتمع بشكل عام، واعتماد الناس في أحكامهم على الأدلة النقليّة, وأخذهم بأقوال السلف  دون النظر القائم على الاستقراء والاستنتاج والتحليل  وبالتالي البرهان والنظر في صحتها من عدمه.

3- إن لرجال الفلسفة برأيه أثر في انحطاط الفلسفة عندما اعتمدوا فيها على الثرثرة الكاذبة المشبعة بالرؤى الميتافيزيقيّة والمثاليّة الذاتيّة والحدسيّة. أي أخرجوها عن موضوعها الأساس بكونها مشروعاً فكرياً قادر على تفسير حركة الكون بشكل عام والمجتمع بشكل خاص, ومن ثم القدرة على إعادة بناء هذا المجتمع بما يخدم حياة الإنسان وتطلعاته,.

4- تعصب الناس وتمسكهم بالعادات القديمة والعقائد الموروثة. وعدم الايمان بالتغير وما يحققه هذا التغير في بنية الفرد والمجتمع من نتائج ومفردات جديدة للحياة توصل الإنسان إلى الأمن والاستقرار والسعادة والعدالة. لذلك حمّلَ الفلسفة التقليديّة وزر الجمود العلمي, والقحط العقلي, والإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته. وقد اعتقد “بيكون” أنه قد وجد الطريقة الصحيحة في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء، ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظريّة العلميّة) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة.(2).

أهمية العلم عند بيكون”

عندما وضع فرانسيس بيكون أسئلته المعرفيّة, للوصول إلى الحقيقة, وهي لماذا؟. وكيف؟. وأين؟. ومتى؟. كان في الحقيقة قد حطم كل التصورات المثاليّة/ الميتافيزيقيّة, واللاهوتيّة الجبريّة والحدسيّة والمثاليّة الذاتية واللاأدريّة والتخيل والأحاسيس والتكهن في تحقيق أو تحصيل المعرفة, وذلك على اعتبار أن تحصيل المعرفة عنده أصبح يقوم على (الملاحظة والتجريب). وهذا ما جعل المعرفة عنده ثورة جبارة, وهي لن تكون  ثورة فعليّة, إلا إذا كانت يقينيّة ملموسة, تستند إلى معرفة الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء الظواهر. والمعرفة اليقينيّة هي في المحصلة (علم), وبالعلم سيطر الإنسان على الكثير من معطيات الطبيعة, وجعل الحياة الإنسانيّة أكثر رونقاً وجمالاً. وهذا يعني أيضاً عنده أن المعرفة العلميّة, لا تقتصر على تحقيق وجني المنفعة العمليّة المباشرة للإنسان فحسب, بل هي معرفة مضيئة, أي معرفة تهدف إلى اكتشاف القوانين التي تتحكم بآليّة عمل كل من الطبيعة والمجتمع وبالتالي امتلاك القدرة على التسلح بها وتسخيرها خدمة للإنسان.(3).

أما أول أسس المعرفة المضيئة والمثمرة عند “بيكون”, فهي نقد الأيديولوجيا السكونيّة / المدرسيّة/ السكولائيّة/, والشك في كل ما هو مطلق, أو يُعتقد أنه مطلق وعلى حق. والشك هنا ليس ريبياً ذا طابع عدمي سلبي, بل هو شك إيجابي يأتي لاستكشاف آفاق الطريق المؤدية إلى الحقيقة والوصول إليها.

إن من أخطر نتائج المعرفة عند “بيكون”, هي المعرفة القائمة أو المستمدة من الاستنتاجات المنطقيّة الصوريّة في تقديم البراهين. هذه الاستنتاجات التي اشتغل عليه سقراط والقائمة على القياس المنطقي الصوري مثل قوله: (كل إنسان فان, سقراط إنسان, سقراط فان.) فهذه من البداهات المعرفيّة . فهذا الاستنتاج المنطقي الصوري لا يصح تطبيقه عند “بيكون” على كل الظواهر. فللظواهر عالمها الجوهري والشكلاني, وبالتالي فإن التقويم المتسرع للمعرفة التي تقوم على أحكام ومفاهيم القياس الأرسطي الصوري, لا يمكن الاطمئنان إليها, لذلك فإن الشرط الأول لاكتساب المعرفة الحقيقيّة العقلانيّة النقديّة كما بينا قبل قليل, هو استخدام التجريب والتحليل والتركيب والاستقراء والاستنتاج وأخيراً البرهان. ومن هذا المنطلق تأتي الدعوة مشروعةً من أجل تنظيف المعرفة/ العلم, من الأوهام التي عرفها “بيكون بأوهام العقل, إضافة لأوهام الحدس والأحاسيس والتخيل وحددها بالتالي: (4).

1- أوهام القبيلة: وهي أوهام تنبع من الإنسان ذاته, لذلك كانت مشتركة بين جميع الناس. أي هي معزولة في تكونها عن الواقع المعيش, كونها تقوم على علل غائيّة (منفعيّة) بسبب عدم اكتمال مكونات المعرفة الحقيقيّة عند الإنسان, ووقوعه تحت سيطرة النزعات والأهواء والمصالح الذاتيّة. فنحن في طبيعتنا ميالون إلى تعميم بعض الحالات دون الالتفات إلى الحالات المعارضة لها, وتحويل المماثلة إلى تشابه, وأن نفرض على الطبيعة من النظام والاضطراد أكثر مما هو محقق فيها, وأن نتصور أفعال الطبيعة على غرار الفعل الإنساني, فنتوهم بأن لها غايات وعلل غائية.(5).

2- أوهام الكهف: وهي أوهام ليست عامة, بل تقتصر على بعض الناس الذين يشتغلون على اكتساب المعرفة ونشرها, وهي أوهام معرفيّة تقوم على أهواء وأمزجة ذاتيّة في الغالب, وليس على أسس المعرفة الحقيقية التي تربط الفكر بالواقع, والبحث في آليّة عمل المجتمع وتناقضاته وصراعاته عن هذه المعرفة. بتعبير آخر هي أوهام فرديّة كأوهام الكهف الأفلاطوني,  حيث ننظر إلى المشاهد التي أمامنا كما ينظر إليها سجين مقيد بالسلاسل، وضع في كهف، وخلفه نار ملتهبة تضيء الأشياء وتطرح ظلالها على جدار أقيم أمامه، فهو لا يرى الأشياء الحقيقيّة بل يرى ظلالها المتحركة، ويظن بها حقائق, وهي بالتالي عند بيكون أوهام ناتجة عن ميول وأمزجة تكوينيّة وتربويّة مسبقة كونتها علاقات الاجتماعيّة سطحية مباشرة ومطالعة. وهي أخطر الأوهام وأشدها تأثيراً على البشر. (6).

3- أوهام القطيع: أي أوهام النظرة غير الواقعيّة النقديّة للظواهر. وقد سماها بيكون بالأوهام (العنكبوتيّة). أي الأفكار التي ينسجها الباحث من ذاته وليس من واقعه المعيش. (7).

إن العلم الحقيقي أمام كل هذه الوهم, هو العلم الذي يسعى إلى جمع أكبر عدد ممكن من الوقائع والأدلة, وقد شبه عمليّة الجمع هذه بالنملة التي تحمل في طريقها كل ما تستطيع حمله عند مصادفته في طريقها. ثم تختار منه ما يناسبها.

إذن إن المعرفة العلميّة هي المعرفة التي تقوم على المنهج الصحيح الذي يعالج المادة نظريّاً بعد أن قدمتها التجربة. وهنا شبه عمليّة الحصول على المعرفة كعمل النحلة التي تمتص رحيق كل انواع الورود ثم تشكل منه عسلاً.

أهمية التكنولوجيا في اكتساب المعرفة:

تأتي أهمية التكنولوجيا في اكتساب المعرفة, من كونها الوسائل التي تزيد من قدرتنا على الإدراك, واكتمال الفكر الإنساني ذاته.

أما التجربة فهي الدراسة الفعالة لظواهر الطبيعة والمجتمع, وهي التي تدفع بالعلم إلى الأمام والاجابة عن الأسئلة المطروحة أمام الإنسان. (8).

ماديّة المعرفة:

إن أول أسس هذه المعرفة, هو وجود الحركة, كونها أول سمات وخصائص المادة على الإطلاق. وهي لا تقتصر على الحركة الميكانيكيّة أو الرياضيّة أو الفيزيائيّة, بل هي طموح المادة ونورها وتوترها وسر خلقها وتجليها وروحها الحياتيّة. فللحركة أشكال وبالتالي هي تقوم في جوهر الظاهرة ذاتها, وما الصورة الباديّة للظاهرة إلا ضرب من حركة الجسيمات الأوليّة التي منها تتركب الظاهرة. فالظاهرة هنا تحتوي جميع الكيفيات الحسيّة بغناها وتنوعها اللامحدودين.

إن المهمة المباشرة للمعرفة تقوم بالبحث عن علل الظواهر, وتجدها علل فاعلة وعلل غائيّة.

أما العلل الفاعلة عند بيكون: فهي المحركة للظواهر والباحثة عن جواهرها, وآليّة عملها وتشكلها وتمظهرها. كعلوم الفيزياء أو الكيمياء أو البيولوجيا.

أما العلل الغائيّة: فتتعلق بالأهداف المرجوة من معرفة الظواهر وإمكانيّة تسخيرها لمصلحة الإنسان.(9).

ملاك القول:

هكذا نرى كيف بدأت آثار الثورة الصناعيّة في بدايتها تؤثر على الحركة الفكريّة بشكل عام ومنها الفلسفيّة بشكل خاص, فالتطور التكنولوجي الذي حقق الكثير من الاكتشافات العلميّة في الطبيعة والمجتمع, انعكس بالضرورة على بنية التفكير التي كانت سائدة قبل قيام هذه الثورة الصناعيّة, وخاصة الفكر المدرسي اللاهوتي الذي قدم حقائق مطلقة عن الطبيعة والمجتمع أقرتها الكتب المقدسة, وعلى الناس الالتزام بها في حياتهم الفكريّة والعمليّة, وبالتالي كل من خرج عن هذه الحقائق محاولاً إثبات عدم صحتها حورب, وهذا ما جرى لـ”كوبرنيك” على سبيل المثال لا الحصر عندما قال بقضيّة دوران الأرض, في الوقت الذي لم يقل فيها الكتاب المقدس.

نقول: على الرغم من علميّة وماديّة الرؤى الفكريّة لبيكون في عصره, إلى أن هذه الرؤى ظلت بعيدة إلى حد ما عن قضية جوهريّة وهي قضية الوجود الاجتماعي والتناقضات الطبقيّة فيه والتي تشكل القاعدة الأساس للتحولات والتغيرات التي تصيب بنية المجتمع, وما تعكسه هذه التحولات والتغيرات على البنية الفكريّة والفلسفيّة في مقدمتها.

لقد كان للطبقة السياسيّة المهيمنة على السلطة إن كانت سلطة الملك والكنيسة والنبلاء مع قيام الثورة الصناعيّة, أو سلطة الطبقة البرجوازيّة لاحقاً بعد الثورة الفرنسيّة ووصولها إلى السلطة, الدور الكبير في تحطيم الإرهاصات الأوليّة للبنى الفكريّة التنويريّة العقلانيّة هذه, عند بيكون, أو ديكارت, أو سبينوزا, وجان لوك, وهوبس, أو فيما بعد عند فلاسفة عصر التنوير كروسو وريكاردو وفولتير وهلفسيوس, وحتى أفكار اليسار الهيجلي كأفكار شتنر, وفيورباخ وفورباخ, منذ بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم.

كاتب وباحث من سوريّة

d.owaid333d@gmail.com

المراجع:

ــــــــــــــــــــــــــــ

1- (1). الويكيبيديا.

2- (الشرق الأوسط – فرانسيس بيكون.. الأكثر جدارة بين فلاسفة المنهج في «الأرغانون الجديد»). بتصرف.

3- (- جورج كرم-  تاريخ الفلسفة الحديثة- دار القلم – بيروت – دون تاريخ النشر. ص47.) بتصرف.

4- .(موقع الحوار المتمدن – غازي الصوراني – فرنسيس بيكون ( 1561 م _ 1626 م ).

5- د. عدنان عويّد – الأيديولوجيا والوعي المطابق – دار التكوين – دمشق – 2006- ص. 23و24.

6- المرجع نفسه, الأيديولوجيا والوعي المطابق . ص.23و24.

7- الأيديولوجيا والوعي المطابق: المرجع نفسه. ص. 23 و24.

8- (فلسفة التكنولوجيا بين المنظورين الغربي والإسلامي – د. صبري محمد خليل – https://sudanile.com/). بتصرف.

9- (- للاستزادة في التعرف على أفكار فرانسيس بيكون العودة إلى كتاب موجز تاريخ الفلسفة – تألف مجموعة من الكتاب السوفييت – إصدار دار الجماهير – دمشق- 1971. ص239 وما بعد.).

شاهد أيضاً