عَرَّفت قواميس اللغة العربية مفردة “الفدائي” وكلمة “المُقاوم” تعريفاً دقيقاً، ثم تطور التعريف بمرور الزمن. فالفدائي اسم منسوب إلى الفِداء، وبالتالي الفدائي هو الشخص الذي نذر نفسه للوقوف مواقف الموت مضحياً بنفسه. أما المقاومة فهي المعارضة ورفض الخضوع لإرادة الغير، ودرء النفس من كل الشرور، وهي المواجهة وعدم الاستسلام. تُصنف المقاومة بنوعين؛ فهي إما مسلحة يجري ربطها في الغالب بمفهوم الجهاد، أو أنها سلمية أو لاعنفية.
خلال قرن التحرر العربي من الاستعمار، جرى استعمال مفردة الفدائي طوال معارك تحرر معظم الدول العربية من الاحتلال. الصفة التي كانت تُطلق على كل من يقوم بعمليات عسكرية ضد قوات الاستعمار هي صفة الفدائي، بمعنى أن أولئك الأفراد نذروا أنفسهم أن يفدوا شعبهم ووطنهم بالقتال. خلال مسيرة تحرر الدول العربية، كان رجال فلسطين الذين قاتلوا ضد الاستعمار البريطاني، ومن بعده الاحتلال الإسرائيلي، يسمّون بالفدائيين، وأُطلق هذا الوصف على كل أفراد الحركة الوطنية الفلسطينية.
مع انفجار حرب لبنان، بدأت مفردة المقاومة تتردد بشكل أوسع، وكانت مرتبطة بالتصدي للاجتياح الإسرائيلي ومقاومة هذا العدوان، الذي أدى إلى خروج حركة “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. بعد ذلك، بدأ التطور والتحول في المفاهيم، إذ أن مفردة المقاومة ظهرت خلال الانتفاضة الأولى مع ظهور حركات إسلامية التوجه، مثل حركة “حماس” وحركة “الجهاد الإسلامي”، اللتين ربطتا وجودهما بتلك المفردة بقصد التميز بها عن حركة “فتح” وفدائييها. تعزز استخدام هذه المفردة بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وظهور «حزب الله» باعتباره الحركة المقاومة التي طردت الإسرائيليين من لبنان.
تم استعمال تلك المفردة في البداية للتوصيف، إلا أن الغاية كانت السيطرة على مفاصل الحكم. تم تثبيت مفهوم أن المقاومة موجودة لأسباب مختلفة، منها محاربة الاحتلال ومنها أيضاً محاربة الأفكار والتوجهات التي تصب في خدمة الاحتلال، من وجهة نظر القائمين على المقاومة. وبالتالي أصبحت السيطرة كاملة على كل شيء من خلال استخدام تلك المفردة، وهو أيضاً ما أقدمت عليه حركة حماس عندما استولت على السلطة في قطاع غزة صيف عام 2007.
مع محاولات تحويل الحروب الوطنية إلى حروب دينية، تم تطوير المفهوم لغايات مختلفة، أهمها هو ربط المقاومة بالجهاد من الناحية الشرعية بشكل وثيق. هذا منحى عززته الولايات المتحدة من خلال توظيف الحركات الإسلامية في مواجهتها مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة، تحت ذريعة محاربة الشيوعية. بدأ ذلك التوجه بدعم “المجاهدين” في أفغانستان، وهو التوجه الذي أدى إلى وجود تنظيم “القاعدة”، ثم تطور إلى المواجهة معه، وصولاً إلى أحداث 11 سبتمبر 2001، وما تبعها من حرب على ما صار يُطلق عليه “الإرهاب الإسلامي”. بينما أدت تلك الحرب في الواقع إلى تعزيز هذا المفهوم وتقويته للحركات المنضوية تحته، لكي يصبّ في توجهات المشروع الأميركي المسمى الشرق الأوسط الجديد، الذي يتمحور بشكله الواسع حول أسلمة المنطقة، والذي استفاد من أحداث الربيع العربي لتسهيل وصول الحركات الإسلامية إلى سدة الحكم في عدد من البلدان تحت شعار الإسلام هو الحل. تلا ذلك ظهور داعش وغيرها من الحركات التكفيرية التي لا زالت تعيث فساداً في الكثير من أجزاء العالم العربي تحت شعار المقاومة.
أما على المستوى الفلسطيني، فقد تم تطوير المفهوم أيضاً لإلغاء صفة فدائي وإحلال مقاومة محلها. هذا الإلغاء ليس عبثياً، بل مقصود لأنه توجد مساحة كافية للسيطرة على العقل والفعل معاً، والوقوف ضد أي معارضة. مرد ذلك أن مفهوم الفدائي يعتمد على الفعل، بينما المقاوم يعتمد على ردة الفعل. لذا، فخلال كل عقود ما يسمى المقاومة، لم يكن المطلوب منها أن تطرح رؤى أو مبادرات، بل كانت تقاوم ما يُطرح عليها، لأنها تراه عدواناً عليها، فتقاومه عسكرياً أو سياسياً.
من جانب آخر، يمكن ملاحظة أن كل الحركات التي استعملت مفردة مقاومة اتخذت الشعوب دروعاً لها. فليست هناك حركة مقاومة تعمل بعيداً عن الناس لحمايتهم، بل تتخذ المناطق السكنية مقرات عسكرية لها، وتخبئ أسلحتها فيها، وتحتمي بالناس. بينما كان الفدائيون يذهبون للإغارة على معسكرات جيش الاحتلال واستهداف المراكز الأمنية بعيداً عن المدنيين لتجنيبهم قدر الإمكان أخطار ردود الفعل التي يمكن أن تنجم عن هجماتهم. لقد رأينا ذلك بوضوح خلال أحداث الأسابيع القليلة الماضية، من خلال ما جرى في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي اختارها حزب الله مقراً للقيادة العسكرية، بينما أرض لبنان شاسعة، وكان بإمكانهم اختيار مقار قيادة لهم بعيدة عن المدنيين. رأينا ذلك أيضاً من خلال ما قامت به حماس في غزة، وقد شاهدنا جميعاً عبر محطات التلفزيون في كل المعارك السابقة منذ عام 2008 كيف أن حماس كانت تطلق الصواريخ من منازل المدنيين، وتحفر الأنفاق تحتها، وتخبئ الأسلحة فيها. بكل تأكيد تختلف المعطيات بشأنها عن لبنان، من حيث صغر المساحة والتكدس السكاني الكبير، ولكنها تبقى في الدائرة نفسها. هذا ينسحب أيضاً على الضفة الغربية، فمسلحو المقاومة يختبئون وسط المدنيين في المخيمات، ولا يهاجمون في الغالب، وإن فعلوا فإنهم ينسحبون للمناطق المدنية ليحتموا بالسكان أو ينتظروا جيش الاحتلال الإسرائيلي الدخول لمناطقهم ليقاوموه. تأسيساً على ذلك، فإن تغيير فدائي إلى مقاوم، وتعزيز تلك الثانية، حولت حالة الهجوم على العدو إلى حالة دفاع، في الغالب، عن تلك القوى ودفاعاً عن نفوذها وتواجدها وحماية لشعاراتها التي تسيطر عبرها على مشاعر الناس وتتحكم فيهم من ناحية، وربط بقاء المقاوم ببقاء القضية، وليس بقاء الشعب ببقاء القضية من ناحية أخرى.
بالتأكيد، لستُ أقصد من كل ما سبق من تحليل لتوصيف فدائي ومقاوم أيّ تقليل من شأن المقاومة في مجملها. إنما قراءتي هذه محاولة للفهم والوصول إلى خلاصة، وهي أن تحويل الحرب من حرب وطنية إلى حرب دينية وما يتبعه من تغيير في المفاهيم ينضوي على مخاطر كبيرة أصبحنا نراها ماثلة أمام أعيننا. حيث أن المفردات أصبحت تشكل عبئاً كبيراً علينا، وقد آن الأوان أن نعيد تعريف مفرداتنا وأن نحدد مفاهيمها وألا نترك العاطفة والشعارات تتحكم بنا. فالتطور في المفاهيم يؤدي بالضرورة إلى تطور في الأدوات والمناهج، وهو ما قامت به القيادة الفلسطينية بالفعل بتطويرها مفردة الفدائي من مفردة متعلقة بالفعل العسكري حصراً، إلى مفردة تتعلق أيضاً بالعمل السياسي والدبلوماسي والقانوني.
وضمن هذا الفهم، جرت تسمية العملية السلمية بهجوم السلام الفلسطيني، وهو في رأيي عمل فدائي بامتياز، بالإضافة إلى العمل في المجالين القانوني والثقافي وغيرهما. أما حركات المقاومة، فقد جمدت المفردة لتبقى في مجال ردة الفعل أو استدعائه، لتسيطر على الناس، وتحمي نفسها داخل دائرة الشعارات، من دون أن تقدم حلولاً للمشكلات الأساسية، ورؤى واقعية لكيفية التخلص من الاحتلال. وأختتم بالسؤال الجوهري: هل نسعى لأن نكون فدائيين أم مقاومين؟
* نقلا عن “العرب”