السياسي – عقب اندلاع معركة طوفان الأقصى قبل عام أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو تهديده بتغيير وجه الشرق الأوسط كانتقام مما حدث لكيانه يوم 7 تشرين أول/ أكتوبر 2023، وهو التهديد الذي كرره نتنياهو مرات عديدة أحدثها يوم الجمعة 27 أيلول/ سبتمبر الماضي في كلمته أمام الأمم المتحدة.
في تلك الكلمة لوح نتنياهو بخارطتين لدول الشرق الأوسط، تضم إحداهما بعض الدول العربية مظللة باللون الأخضر، وهي إلى جانب كيانه؛ السعودية والإمارات ومصر والسودان والأردن والهند، واصفا هذه الخريطة بأنها خريطة النعمة، وهي الدول التي يعتبرها حليفة لكيانه، بينما تضم الثانية والمظللة باللون الأسود كلا من سوريا والعراق ولبنان واليمن وإيران، واصفا إياها بدول اللعنة، وهي المعادية لكيانه، وكلتا الخريطتين بدون فلسطين (لا دولة مستقلة ولا حتى سلطة حكم ذاتي) تمثلان الشرق الأوسط الجديد (بأخياره ، وأشراره) الذي يحلم به نتنياهو، وتعهد بتحويله إلى واقع.
استخدم نتنياهو خلال عام من العدوان كل ما يمتلك من أسلحة، وما تدفق على كيانه من أحدث الأسلحة الغربية لإزالة غزة من خارطة فلسطين، تمهيدا لتغيير خارطة الشرق الأوسط بإزالة فلسطين تماما منها، ورغم أنه نجح في تدمير معظم مباني القطاع إلا أنه لم يستطع تهجير أهله الذين تنقلوا جنوبا وشمالا، لكنهم ظلوا متمسكين بأرضهم، رغم أنهم قدموا أكثر من 40 ألف شهيد حتى الآن. كما أن نتنياهو رغم امتلاكه لكل أسلحة التدمير ولأحدث أجهزة المعلومات لم يتمكن من الوصول إلى قادة المقاومة وأسلحتها، ولم يستطع الوصول إلى أسراه المحتجزين لدى المقاومة منذ عام (باستثناء عدد محدود جدا بين أموات أو أحياء).
وعلى الجبهة اللبنانية فإن جيش الاحتلال الذي خطط لاحتلال شريط حدودي لفرض منطقة آمنة، سبق له أن احتل مساحات واسعة من جنوب لبنان منذ العام 1978، وانسحب منها في العام 2000، ثم حاول مجددا في العام 2006 ولكنه مُني بهزيمة أجبرته على الانسحاب أيضا، وهو المصير الذي ينتظره مجددا.
يسعى نتنياهو منذ اللحظات الأولى لعدوانه إلى توسيع دائرة الحرب، وحاول مرارا توريط إيران فيها ليجر إليها الولايات المتحدة جرا، وهو يثق أن الحرب في هذه الحالة ستضم جبهة واسعة داعمة له من الدول الغربية والعربية، وأنه سيتمكن من خلالها من كسر قوة إيران وحلفها، وسيدشن شرقا جديدا مطبعا مع كيانه، وتابعا له، وخاليا تماما من أي قوة مناوئة له سواء كانت دولا أو جماعات. ورغم أن إيران ردت برشقات صاروخية أصابت أهدافا عسكرية وأمنية داخل الكيان، إلا أن الكيان الذي توعد برد مزلزل لم يرد عليها حتى الآن، لكنه قد يبدأ هجوما واسعا في أي لحظة، وساعتها سننتظر الرد الإيراني الأقوى حسب تعبيرات القادة الإيرانيين، وعند تلك المرحلة -حال حدوثها- ستتحدد ملامح الجغرافيا الجديدة للمنطقة.
حلم شرق أوسط جديد، ليس حلم نتنياهو وحده، بل هو حلم كل قادة الكيان منذ تأسيسه، لشعورهم بالعزلة، وسط مجتمع عربي لافظ لهم، كان هدفهم ومسعاهم هو تأسيس إقليم جغرافي جديد ينتسبون إليه، حيث لا يمكنهم الانتساب إلى الوطن العربي، وقد نجحوا مع اللوبيات الداعمة لهم في الغرب في تسويق مصطلح الشرق الأوسط في الخمسينات والستينات، وانطلت حيلتهم على حكومات المنطقة التي أسست إذاعات أو تلفزيونات أو وكالات أنباء، أو جامعات ومراكز بحثية، أو شركات طيران ونقل، ومقاولات باسم الشرق الأوسط،، ناهيك عن شركات ومؤسسات أخرى بالاسم ذاته. وكان الهدف هو التغطية على مصطلح العالم العربي، عبر إدخال دول غير عربية ضمن هذا الشرق الأوسط مثل قبرص، تمهيدا لإدخال الكيان الصهيوني لاحقا ضمن هذا المجال.
حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز طرح المشروع بطريقة ناعمة مطلع التسعينات مع انطلاق مباحثات السلام مع الفلسطينيين، وكتب كتابا بعنوان “الشرق الأوسط الجديد” ضمّنه رؤيته لشرق أوسط مسالم، ينعم بالرخاء في ظل السلام، ويواجه معا الأصولية الإسلامية التي غزت البلدان العربية، زاعما أن كيانه وجيرانه يمكنهم التعاون بشكل أفضل من دول الاتحاد الأوروبي حيث لا توجد حواجز طبيعية بينهم، ولكن النقطة الأهم في الكتاب غياب الدولة الفلسطينية أيضا عن هذا الشرق، حيث اقترح بيريز أن تدخل الضفة الغربية في اتحاد كونفدرالي مع الأردن. وبالمناسبة، طرح بيريز رؤيته تلك أمام الأمم المتحدة في توقيت مماثل 28 أيلول/ سبتمبر 1993، ولسخرية القدر فقد توفي بيريز في التاريخ ذاته (28 أيلول/ سبتمبر 2016) دون أن يتحقق حلمه.
عقب هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، طرح الأمريكان على أنفسهم سؤالا: لماذا يكرهوننا؟ وقد توصلوا للإجابة، أنه الاستبداد في المنطقة العربية، والذي أفرخ أولئك الإرهابيين الذين دمروا البرجين. وفي اجتماع مغلق لوزير الخارجية الأمريكي الأسبق كولن باول (6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002) مع خمسين سيدة عربية، ناقش معهن برنامج الإصلاح العربي لنشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وتنفيذ بعض المشروعات التنموية، وفي الرابع والعشرين من حزيران/ يونيو 2004 أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش رؤيته لشرق أوسط جديد يعيش فيه الإسرائيليون في أمان وبلا رعب، ويعيش فيه الفلسطينيون بلا احتلال أو فساد (كانت اتهامات الفساد تلاحق سلطة الحكم الذاتي في ذلك الوقت)، ثم تحرك كولن باول لتسويق المبادرة، ومن بعده كونداليزا رايس صاحبة نظرية “الفوضى الخلّاقة”.كما انضمت عدة دول أوروبية لهذه المبادرة التي سميت بالشرق الأوسط الجديد تارة، والشرق الأوسط الكبير تارة أخرى، حيث كانت تضم إلى جوار دول الشرق الأوسط التقليدية كلا من تركيا وباكستان وإيران، وأفغانستان. وخُصصت ميزانية كبيرة تم توزيعها على مشروعات تعليمية وإعلامية، ودعم للقطاع الخاص، وتعزيز الحريات والديمقراطية ودور المرأة.. إلخ.
وبهذه المناسبة فإن صحفا ومجلات مصرية ولبنانية وأردنية تأسست من تمويلات تلك المبادرة!!.. ورغم الأموال التي أُنفقت والدعاية الصاخبة لم تنجح المبادرة في إدماج الكيان الصهيوني بين الشعوب العربية، وظل التطبيع معه مقتصرا على أطر رسمية.
ربما كانت الخطة الأقرب للتنفيذ لتأسيس شرق أوسط جديد تحقيقا لحلم نتنياهو ومن سبقه من قادة الكيان؛ هي تلك التحركات المتسارعة لفرض مشروع التطبيع أو الديانة الإبراهيمية على المنطقة العربية، وقد نجحت تلك الخطة في ضم عدة دول عربية لقطار التطبيع، وكانت بانتظار الجائزة الكبرى التي تدشن بها الشرق الجديد وهي انضمام المملكة العربية السعودية لهذا القطار، لكن طوفان الأقصى أحبط تلك التحركات، وهدم المعبد على رؤوس المهرولين، ليعود نتنياهو لطرح المشروع مجددا مزهوا بما حققه من قتل وتدمير للمساكن والبنية التحتية في غزة ولبنان، ومتوهما أنه أصبح قادرا على فرض مشروعه عسكريا على المنطقة.
الحقيقة أن نتنياهو واهم تماما، فقد يمكنه فرض التطبيع الرسمي على بعض الحكومات الخائفة، لكنه أبدا لن يستطيع أن يفرض تطبيعه ولا خرائطه على شعوب المنطقة التي قاومت التطبيع، وقاومت كل محاولات إدماج الكيان الغاصب بينها لعقود طويلة منذ اتفاقية كامب ديفيد، وإذا كان بوش “بجلالة قدره” وبما يمتلكه من إمكانيات مادية وعسكرية، ومدعوما بدول أوروبية كبرى، قد فشل في فرض مشروع الشرق الأوسط الكبير، كما فشل من قبل بيريز في تمرير مشروعه الناعم، فإن نتنياهو سيلاقي المصير نفسه، ولسان حال أهل المنطقة “كان غيرك اشطر”.