لماذا تقاعسنا وكيف ننصرهم

ممدوح المنير

السياسي – بعد مرور عام على معركة طوفان الأقصى ووصول الإبادة الجماعية في غزة إلى ذروتها ودخول لبنان على خط المعركة الدائرة حاليا، أصبحت الصورة التالية هي التي تملأ المشهد كاملا دون حتى استثناءات بسيطة تقلل من حُمرة الخجل أو ترفع الحرج عن الأمة كل الأمة.
هذا المشهد هو أن غزة تقف وحيدة وتدفع أثمانا باهظة نصرة لفلسطين والأقصى، بحيث أصبحنا أمام مشهد أسطوري بلا مبالغة، أمة غالبيتها الساحقة في موقع الفرجة وأقلية مرابطة هي التي تدافع عن أقدس مقدسات الأمة، كم ستسخر منا كتب التاريخ والأجيال القادمة!!
هذا الخلل ليس فقط في عوام الناس وبسطائهم، ولكنه كذلك في الرموز والساسة والنخب وأهمها الحركات الإسلامية السنيّة والتي من المفترض أن هذه هي معركتها الأولى وميدانها الأول، ولكن كان ولا يزال مستوى فعلها ضعيفا ومهترئا وكاشفا لحالة ضياع البوصلة والفاعلية منها. وكأنّها رجل مريض يوشك على الموت يتشبث بأي مظهر من مظاهر الحياة أي حياة، المهم أن أكون موجودا وحاضرا، حتى لو كان حضورا مخزيا وفاضحا!

وتلفت الناس من حولهم تملأهم تساؤلات كثيرة ممزوجة بمرارة على حالنا وعجزنا عن نصرة أهلنا في فلسطين وشعور عام باليأس والإحباط يعتري الجميع، هذه الصورة اليوم أشبه تماما بالوضع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد معظم قبائل العرب عن الإسلام أو منعها الزكاة وظهور مدّعي النبوة وتفكك الدولة الوليدة.
كانت الأمة في حالة فوضى عارمة، كانت (الأمة) يائسة حزينة مرتدة في غالبها لقد مات النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وقائد الدولة الفذّ وانقطع الوحي من السماء!
القائد والنخبة القائدة
حينها برز دور الفرد القائد والنخبة القائدة، قام سيدنا أبوبكر الصديق بضبط البوصلة سريعا بخطبته الشهيرة في عمر وباقي الصحابة (معركة الوعي)، فلما ضبط معركة الوعي حين قال “من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”.
هذا القائد هو من أخذ بزمام المبادرة، لم يختف خلف الشاشات الزرقاء أو يتوارى خلف منصات التواصل، لكنه قام في الناس خطيبا موجها مرشدا من ميدان العمل والحركة وليس ميدان التنظير والتفكير فحسب.
التفت النخبة (كبار الصحابة) حول قائدها، فلا يمكن أن تتحرك نخبة فاعلة خبط عشواء، لا مكان هنا للجهود الفردية دون إطار جماعي ضابط وقائد يرسم معهم وبهم معالم الطريق، انتقلت هذه النخبة سريعا لاختيار القائد الذي سيقود المرحلة وبعد مداولات نعرفها جميعا، وقبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم تم اختيار القائد سيدنا أبو بكر الصديق وحوله نخبة فاعلة متجردة.
كيف سنوقف الفوضى الحاصلة؟
ولأن الفتنة كبيرة والإسلام -ظاهريا- أمام الجميع ينتهي وغالب المسلمين ارتد وهناك أدعياء للنبوة كثُر، وربما خلال ساعات أو أيام قليلة تنقضّ هذه القبائل على آخر قلاع الإسلام في المدينة وتموت النخبة مع قائدها.
ومن شدة الفتنة ووطأتها اختار الفاروق عمر، وهو الرجل ذو البأس الشديد الذي يخاف منه الشيطان، رأيا ليس معتادا من مثله حين أراد القبول مرحليا بمن يرفض الزكاة حتى تستقر الأوضاع، لكن هناك جملة صغيرة قالها سيدنا أبو بكر لعمر: “والله لو منعوني عقالا مما أخذ النبي منهم لقاتلتهم عليه”. هذه الجملة تعني شيئا واحدا، أن سيدنا أبا بكر لديه “مشروع” واضح في ذهنه وحريص على إنفاذه مهما كان الثمن، وهو الحفاظ على الإسلام كما هو من غير أن ينقص منه شيء واحد، كانت الصورة واضحة تماما في عقله وعقل من حوله من النخبة الممتازة، وهي هنا الإسلام كما جاء به النبي الخاتم.
ويتضح ذلك في أوضح صورة في حديثه الخالد مع سيدنا عمر (وقال عمر: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فأجابه أبو بكر: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك؟ أجبّار في الجاهلية وخوار في الإِسلام؟ إنه قد انقطع الوحي، وتمَ الدين، أوَ ينقص وأنا حي؟ أليس قد قال رسول الله إلا بحقها، ومن حقها الصلاة وإيتاء الزكاة، والله لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي). لقد توفر القائد الفذ، والنخبة القوية الشجاعة التي تلتف حول قائدها وتوفر المشروع الواضح لقيادة المرحلة.
لقد حدد القائد بعد نقاش مع النخبة الفاعلة مشروعه بجلاء وعزيمة قوية لا تلين، فالفتن الكبرى لا يصلح معها مواءمات ولا أنصاف حلول أو مواقف ولا ميوعة فكرية ولا طبطبات عاطفية، في وقت الفتن والمحنة تخون النخبة دينها إن بحثت عن النجاة لنفسها دون أمتها، إن ظنّت أن وجودها وبقاءها أهم من فلسطين والأقصى (والله لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي)، فهل نعي الدرس ونفهم الإشارة؟ أم نفضّل البلادة العقلية لأنها مريحة نفسيا؟!
كيف سنفعل هذا التغيير؟
بعد اختيار القائد ونخبته الفاعلة واتضحت الأبعاد الاستراتيجية لمشروع التغيير أو خطة الإنقاذ، وكان في هذه الحالة الحفاظ على الإسلام والدولة كما هما، قام التغيير على نقطتين محوريتين الحوار مع القبائل -معركة الوعي- لمحاولة ردهم إلى الحق والقتال لمن يرفض مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات.
ماذا قدمت النخبة الفاعلة؟
التضحية بالنفس كاملا غير منقوص، فمعظم الحفاظ والقرّاء من الصحابة استشهدوا في معارك وقف الفوضى الحاصلة بعد وفاة النبي الخاتم، حيث مات من الصحابة أو التابعين نحو سبعمائة شخص منهم ٧٠ من حفظة القرآن، ومن المرتدين نحو ٢٠ ألفا، في معارك شرسة عُرف بعضها بحديقة الموت، حيث مات فيها وحدها نحو عشرة آلاف، وفي كتب السيرة تفصيل واف لمن يريد.
ماتت النخبة الممتازة وهي تضحي في سبيل ما تؤمن به، لم تكثر الحسابات والتعقيدات، لم تقل نحافظ على وجودنا من الضياع أو الحفاظ على نصاب البقاء!!
لم تفتنهم السلطة أو هوامشها التي عاشوا أو يعيشون فيها، لم تكن أيديهم مرتعشة ومواقفهم فقط لتسجيل الحضور، ولكنهم كانوا يعملون بكل طاقتهم لتغيير الواقع المرير سريعا وبكل التضحيات المطلوبة والمستحقة.
لم يقولوا لا طاقة لنا اليوم بالمرتدين وقوتهم، لم يجلسوا للتنظير والتأطير ووضع المعوقات والحواجز، لقد أدركوا فقه اللحظة وواجب الوقت وانطلقوا بعين الله في طريقهم، فكانت عناية الله تحوطهم ويده تعمل معهم في خفاء حتّى كان النصر حليفهم وعادت دولة الخلافة الراشدة وعاد الإسلام كما هو.
وفي القصة تفاصيل كثيرة ودروس أكثر مما لا يتسع المقام لذكرها في هذا المقال، لكنّ الحر يفهم بالإشارة والعبد يقرع بعصا الذُل والمهانة.
وبالتالي نحن ينقصنا القائد المتجرد ذو العزيمة القوية والنخبة الممتازة المضحّية والمشروع الذي تجتمع عليه هذه النخبة، حاليا واقعنا البائس يقول إننا لا نحب العمل كفريق ونكره وجود قيادة تحركنا ونعتبر أنفسنا جميعا قادة واستثنائيين.

نحن ممتازون في هدم القدوات والرموز التي قد تكون نافعة للأمة في وسط آلاف التافهين المتصدرين، نحن لا نملك شجاعة التضحية ولا شجاعة الالتزام ولا التجرد لنقدّم إلى الأمام ولو على أنفسنا من يُحسن ويبرعُ.
نحن نقمع الشباب ونهمشهم ويصرّ بعضنا على العيش في دار للعجزة والمسنين -فكرا وممارسةً لا سنا- على أن يبني جيلا من القادة يرعاهم على عينه ويفخر بهم أمام ربه، نحن مشغولون بدنيانا حتى الثمالة، نبحث عن المساحات الآمنة اللذيذة التي لا تعب فيها ولا نصب، نفعل ما نحب فعله لا ما ينبغي فعله.
كثرت بيننا -إلا من رحم ربي- شبكات المصالح وأخوة المصالح وعلاقات المصالح، وتوارت شبكات الحب في الله وأخوة القلوب الأرواح وعلاقات التجرد والنقاء، فكيف يمكن وهذا حال غالب نخبنا -وليس كُلنا- أن ننصر فلسطين والأمة؟!
من قد يزعجه كلامي السابق ويثير حفيظته ويرى أنّه ليس من هؤلاء في جلسة صفاء مع نفسه وربه، فلهؤلاء وحدهم أقول لهم: لن يتحقق النصر والنصرة في عالم الواقع وليس في العالم الافتراضي، إلا إذا تحركت كل نخبة ممتازة صفاتها كما أسلفنا واختارت قائدها وبنت مشروعها مستظلة برعاية الله ومستمدة منه العون والمدد.
ثم على هذه النخبة الفاعلة أن تتحرك وتتآزر فيما بينها وتنسق فيما بينها وربما تختار إطارا أوسع يقوده من تختاره من ذوي العزائم والعقول والقلوب، ثم تضع لنفسها مسارا عريضا للحركة لإحداث التغيير فعليا في بيئة عملها على قدر مواردها المتاحة.
بدون هذا ستظل غزة وفلسطين ولبنان والسودان واليمن وباقي جراحنا النازفة تعاني وتشكو إلى الله حالها، وستظل صورة غزة الوحيدة التي بدأنا بها المقال هي عارنا المجلل في جنبات التاريخ.

 x.com/Mamdouh_Almonir

شاهد أيضاً