في هذا المشرق العربي عشنا طويلاً على الأوهام، أسكنّا أنفسنا في جنة عريضة من الأحلام، رغم أن الواقع المحيط بنا من كل جانب ينز بؤساً.. وفي السنة الأخيرة، والتي سالت فيها أنهر من الدماء، وحدث فيها خراب لم نعهده من قبل، ما زال أكثرنا مصرّاً على البقاء في عالم تخيلاته.. متعلقاً بخيط واهن من الأمل.
عشنا على وهم أن المقاومة الفلسطينية و»حزب الله» وإيران لديهم قدرات هائلة وإمكانات خارقة ومفاجآت غير متوقعة، فتبيّن أن كل ما نفخته «الجزيرة «عبارة عن بروبوغاندا لأغراض حزبية وسياسية وإعلامية..
بنينا خططنا (المرتجلة) على وهم وجود شيء اسمه الأمة العربية، والأمة الإسلامية، والحقيقة أنها كيانات متخيلة لا توجد على أرض الواقع تجسيدات عملية وموضوعية لها، سوى خطابات أيديولوجية مبنية على تصورات رغائبية.
أعددنا إستراتيجيات (مرتبكة) بناء على وجود شيء اسمه وحدة الساحات، ومحور المقاومة.. ثم انكشف وهن هذا البناء وتبين أنه مجرد شعارات.
راهناً على نُصرة قوى غيبية ومدد سيأتي من السماء.. علماً أن الله سبحانه خلق لهذا الكون قوانين ناظمة وصارمة، ومن يفهمها ويأخذ بها ينتصر ويتقدم، ومن يتعلق بالخرافات سيواصل تلقي الضربات والهزائم.. وكما قالت «بادية هاني فحص»: «اللي بنتصر هو صاحب الطيارة، وليس صاحب الزمان».
اقتنعنا بمقولة أن إسرائيل زائلة عن الوجود وحدد البعض موعداً باليوم والشهر، ولما خاب توقعه، مدّدنا المهلة سنوات قليلة، وبناءً عليه تصرفنا على أنها منهارة ومتفككة في غضون أشهر، وعلينا أن نستعد لاستلام بلديات يافا وعكا والناصرة من الآن، لتجنب فوضى ما بعد التحرير، ثم تبين أن «هذا الكيان اللقيط» يعربد على المنطقة ويهيمن على العالم.
عشنا سنة كاملة على أمل كاذب مفاده أن الكيان يتفكك ويتداعى من الداخل، وأنَّ تظاهرات المعارضة ستسقط الحكومة وستوقف العدوان، وأن الخلافات الأميركية الإسرائيلية خلافات حادة وعميقة وجذرية، وأن أميركا سترغم إسرائيل على وقف العدوان، وأن نتنياهو يتمرد على بايدن.
وانتظرنا طويلاً هدنة، أو صفقة، وخضنا مفاوضات مضنية من أجل التوصل لقرار وقف إطلاق النار، وعلى أمل إيقاف العدوان.. وكلما وضعنا شرطاً وضعت إسرائيل شروطاً، لأنها تماطل وتريد شراء الوقت.
وطالما تساوقنا مع أوهام بأن إسرائيل ستنهار اقتصادياً من جراء تكلفة الحرب الباهظة، وأن الجيش لن يجرؤ على الاجتياح البري، ثم أن الجيش لن يجرؤ على اجتياح رفح.. وأن خان يونس ستكون مقبرة له، وأنه سيغرق في رمال غزة.
وعشنا على تصور افتراضي آخر مفاده أن المقاومة بخير، وهي قوية جداً لدرجة أنها كبّدت إسرائيل خسائر فادحة وأعطبت ثلث دبابات الجيش.. وأن أهل غزة صامدون ومتكيفون بسبب جيناتهم الفريدة وثقافتهم التي تقدس الموت وترحب بالتضحية، وأنَّ الناس تهلل لهدم بيوتها، والخيمة جميلة، والنزوح رحلة، والمعنويات عالية، والمجتمع متكاتف ومتضامن ومستعد للتحمل سنوات إضافية.. والأهم من ذلك أن تضحياتهم مقبولة ومبررة حتى لو ماتوا كلهم عن آخر طفل.
دخلنا حرباً في القرن الحادي والعشرين بأدوات القرن العشرين وعقلية القرون الوسطى؛ بمنهجية وتقدير موقف لا علاقة لهما بالتخطيط الشامل، ولا بتحليل موازين القوى، ولا بفهم النظام العالمي.. حتى مصطلح صراع الإرادات حولناه إلى وهم وشعار، فبدلاً من خوض مقاومة شعبية قائمة على فهم «صراع الإرادات» والتحدي والتضحية، أفرغنا المصطلح من مضامينه، وخضنا الصراع بأدوات وأساليب وخطاب الحرب.. وحتى الآن الكثير لا يميز بين ممارسة المقاومة وبين إعلان الحرب.. ولا بين حق المقاومة المشروع والواجب وبين أدواتها وأساليبها وخطابها.
ثم تفاجأنا بأن إسرائيل قادرة على خوض حرب طويلة الأمد، وتفاجأنا من مدى قسوتها ووحشيتها وحجم الأذى والخراب الذي ألحقته بالقطاع، وأنها غير معنية بسمعتها، وتفاجأنا بأنها تخلت عن «أسراها» ولم تخضع لشروطنا، وتفاجأنا بانحياز الغرب لها وبازدواجية معايير المجتمع الدولي ونفاقه.. وتفاجأنا بخذلان الأنظمة العربية، وبأن إيران لم تدخل الحرب، وتفاجأنا بأن الجماهير عاجزة ومقيدة.. وسلسلة المفاجآت هذه مردها أننا قرأنا الواقع وفهمناه بناء على أوهام، وحسابات مرتجلة، ورهانات خاطئة.. أو بعبارة أخرى لأننا فضلنا الخطابة والكلام الإنشائي والتهديدات على التحليل والتفكير والتخطيط.
طالما نحن معلقون بتلك الأوهام، ونفكر بالتمني، وبالعاطفة، سيكون حصادنا مزيداً من الكوارث، وسنظل نحتفل بتلك «الانتصارات التاريخية المزلزلة».. وستظل «الجزيرة» و»العربية» وغيرهما تخدرنا بالأوهام، والكلام المنمق، والخطب العصماء، وتحليلات خبرائها الإستراتيجيين.
هذه ليست دعوة لليأس والإحباط، بل دعوة للاستيقاظ ومغادرة جنة الأوهام، وفهم الحقيقة والواقع بكل مرارتهما.. وحتى نضع أقدامنا على بداية سكة الخلاص والتحرير بطريقة صحيحة، وأن نعي الواقع دون تجميل، وأن تكون آمالنا مستندة إلى حقائق.
وقبل الختام: إذا ضاعت منك ورقة مائة دولار مثلاً في منزلك، وأمضيت سنوات طويلة وأنت تبحث عنها في الشارع وفي منازل الآخرين لن تجدها أبداً، حتى لو استخدمت أحدث الأدوات، واستعنت بأفضل الخبراء، لأنك تضيع جهدك في المكان الخطأ.
بقي في الكنانة سهم: الناس تحب من يخدرها بالأوهام، وتكره من يكشف لها الحقيقة.. تحب لغة الشعارات وتكره التحليل وتشغيل العقل.