ارتفعت في الأشهر القليلة الماضية، لا سيما في الأسابيع الأخيرة، حصة سوريا في الحضور على وسائل الإعلام العربية والأجنبية، فأضيفت إلى الأخبار تحليلات وتقارير ومقالات رأي، وتصريحات لمسؤولين دوليين وآخرين في دول إقليمية وكبرى ذات صلة بالصراع في سوريا وحولها. والسبب الرئيسي لبروز سوريا في الإعلام، تطورات سياسية وميدانية ذات صلة بالحرب التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة، والتي جرى توسيعها إلى لبنان بالتركيز على «حزب الله» اللبناني، وبداية فصل جديد من عنف وتدمير، يمكن أن يتطور إلى غزة جديدة.ووسط تطور الحرب الإسرائيلية، ظهرت تداعيات إقليمية للحرب في ضربات إسرائيلية – إيرانية من جهة، وفي تصعيد وتنوع الهجمات الإسرائيلية في سوريا ضد أهداف تخص إيران وميليشياتها الشيعية هناك، وأهداف تخص نظام الأسد من جهة ثانية.
وترافقت الاحتدامات العسكرية المتصاعدة في المنطقة مع خط اتصالات ومشاورات عبر عواصم المنطقة وعواصم كبرى في العالم، سعياً لوقف الصراعات والاحتدامات العسكرية، للتوصل إلى هدن من شأنها فتح مسارات نحو اتفاقات وتسويات إسرائيلية – فلسطينية وأخرى إسرائيلية – لبنانية، وقد تفتح أبواب اتفاقات وتسويات لصراعات إقليمية تطورت في إطار تداعيات الحرب الإسرائيلية الجارية.
ويتفق الساسة والمهتمون بالمنطقة على أن سوريا تمثل الخاصرة الهشة والضعيفة، ليس بفعل نحو أربعة عشر عاماً من صراع فيها وحولها، بل أيضاً بما صار فيها من سلطات أمر واقع، تخضع لقوى إقليمية ودول كبرى هي بعض من تجسيد الاحتلالات الأجنبية، وهي ساحة صراعات بينية، ارتفعت وتائرها في ظل الحرب الإسرائيلية الراهنة، رغم أن نظام الأسد سعى من أجل البعد عن حلفائه الإيرانيين وميليشياتهم في محور المقاومة المنتشرين وسلاحهم في مناطق سيطرته، وتجنب الرد على الهجمات الإسرائيلية على قواته ومواقعه، وأظهر ليونة إزاء مساعي تركيا تطبيع العلاقات معه.
سياسات دمشق حيال جوارها الإقليمي، تسعى إلى إرضاء الجميع، دون أن تذهب إلى خيارات تجعلها في خدمة طرف، تاركة الأبواب مفتوحة على الجميع. غير أن هذه السياسة أو بعضها مما كان مقبولاً في وقت سابق، لا يمكن قبوله اليوم وسط تصاعد الصراع السياسي والعسكري، حيث الجميع يتطلعون إلى مكانتهم وتأثيرهم في الواقع السوري الذي ستترك تبعات الحرب الإسرائيلية أثرها عليه وعلى أطراف الصراع الأخرى في وقت قريب، حيث يتطلع كل واحد أن يكون ما يحكمه الأسد من سوريا تحت نفوذه، وأن تكون كلمته هي العليا فيه على الأقل.
أول الأطراف إسرائيل، وهي اللاعب الأساسي الذي ضمن بقاء نظام الأسد، ومرر كل التدخلات التي أدت إلى بقاء النظام رغم ما أبداه من تحفظات على وجود إيران وميليشياتها في سوريا، الذي لم يشكل في يوم من الأيام تحدياً جدياً، وقد أكدت التطورات الأخيرة الأمر، غير أنه ومع فكرة تصفية امتدادات إيران في غزة ولبنان، حدث تغيير في خريطة قوى السيطرة في سوريا، أساسه تحجيم قوة إيران و«حزب الله»، وما يعززها في بنية نظام الأسد من هياكل وشخصيات، وهو ما تكفلت به الهجمات الإسرائيلية في الأسابيع الماضية، وكان في جملتها تغيير خط الحدود، وضرب قواعد الصواريخ السورية والمطارات، والقصف الإنذاري لأحد مقرات ماهر الأسد، أحد أهم أركان النظام في العلاقة مع إيران و«حزب الله».
إن التحول في مواقف إسرائيل من إيران وأدواتها في سوريا، لم يكن بسبب الأخيرة، التي كانت مسرح تحولات، سعت إيران من خلالها نحو توسيع هامش وجودها وحراكها الإقليمي، وهو نهج لا يتوافق ليس مع طموحات إسرائيل فقط، وإنما مع تنامي الانتشار الإيراني من الخليج إلى ساحل المتوسط ومضيق باب المندب على البحر الأحمر، وسط تصعيد القدرات الصاروخية والنووية، وتصاعد قدرات سيطرة أدواتها وفي المقدمة «حزب الله».
ولعل ما يضفي على موقع إيران أهمية زائدة، قدرتها على مسايرة مختلف الأطراف في سوريا، ولو بدرجات، عبر نظرية «الصبر الاستراتيجي» مع إسرائيل بالسكوت عن أعمالها، وشكلية الرد وسط تفاهمات تقترب من العلنية، وتطوير تفاهمات متعددة المستويات والمحتويات مع أطراف مؤثرة بينها روسيا وتركيا ونظام الأسد، بحيث تظل مصلحتها فوق كل ما يحصل من خلافات ومنافسات معهم.
ويمثل الطرف التركي القوة الإقليمية الثالثة في التأثير على سوريا؛ إذ هي ترعى وتدير سلطة الأمر الواقع في الشمال الغربي، التي تسيطر عليها أدواتها من الجيش الوطني وحكومة الائتلاف إلى جانب هيئة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، ممثلة لما بقي من جماعات الإسلام المتطرف ومعها آلاف الجنود الذين يعطون تركيا فرصاً لدور أكبر في أي تسوية محتملة، سواء تمت وفق الاتفاقيات الدولية، لا سيما القرار 2254، كما تقول الولايات المتحدة، أو حسب مسار آستانة، الذي تديره روسيا بمشاركة كل من إيران وتركيا ونظام الأسد.
خلاصة الأمر، أن سوريا اليوم في مرحلة انتقالية، تسعى فيها كل من إسرائيل وإيران وتركيا للسيطرة عليها عبر استخدام كل القدرات والإمكانيات المتاحة، وتترافق تلك المساعي في الجانبين السياسي والعسكري بمتابعة لصيقة من الفاعلين الكبار، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا، والتي في ضوئها يمكن أن يتقرر مصير سوريا، فيما تقف الأخيرة أسيرة مساعيها، التي تركز على شيء واحد هو بقاء النظام، وبعده لكل حادث حديث!