السياسي – يعتبر سؤال الخذلان من أصعب الأسئلة في زمن الطوفان، وفي سياق اشتداد المحنة وطولها على أهل غزة تكثر التساؤلات وتفشو الاتهامات وتسود التعميمات، ويبقى السؤال حاضرا بقوة: هل حقا خذلت الشعوب العربية والإسلامية غزة؟ ومن الذي خذل غزة تحديدا؟ وللإجابة على هذا السؤال لا بدَّ أن نستحضر أن كل إجابة لا بدّ أن تتعلّق بملابسات السؤال الموضوعية وسياقاته الزمانية والمكانية، وكل ذلك مساهمٌ في صياغة الإجابة وتشكيل القناعة المتعلقة بها. وحيث إن بعض الناس قد يقع في مغالطات منطقية، فإنَّه لا بدَّ من فض الاشتباك وبيان بعض الحقائق في هذا السياق.
بادئ ذي بدء فإنَّ كلَّ مسلمٍ لا بدَّ أن يستشعر مسؤوليته وواجبه تجاه نصرة المظلومين حيث كانوا، سواء في غزة أو في غيرها، وأن يحذر من الرضا عن ذاته وعن أدائه مهما بلغ، لأن كل جهد وعمل مهما بدا عظيما إذا ما قورن بحجم الكارثة كان متواضعا وضئيلا. لذلك فعلى المستوى الفردي لا بد من استحضار التقصير دائما، لأن الواجب المطلوب هو استفراغ غاية الوسع في القيام بالنصرة.
والواقع أن إيثار السلامة جعل غالب الأفعال والأنشطة تعمل تحت سقوف ما تسمح به الأنظمة وما ينأى بأصحابها عن المساءلة الأمنية، وطالما سلك الناس الطرق التقليدية في نصرة أهل غزة فإنهم لن يؤثروا في معادلة الصراع شيئا يذكر. فحدثٌ بحجم الطوفان يحتاج طوفانا من أفعال المناصرة والمشاركة الفاعلة.. وليست هذه دعوة إلى التهور أو التمرد، ولكنها دعوة لمراجعة غاية ما هو متاح وممكن بين يدي كل واحد منا بحسب موقعه وقدراته، وليس بالضرورة أن يكون كل متاح وممكن مسموحا به أو مرحّبا فيه.
أما على المستوى الرسمي، فمصيبتنا كبيرة بأنظمة وحكومات فُرضت علينا لتمارس وظيفة مركزية، هي إحكام السيطرة على الشعوب العربية والمسلمة، لمنع تحررها في أوطانها، والحيلولة دون انخراطها في مناصرة قضاياها بأكثر من بعض الهتافات وفتات التبرعات. ولما انكشفت هذه الأنظمة إبّان إزهار الربيع العربي في موجته الأولى، ظهرت أصالة هذه الشعوب، وتسنّمت القضية الفلسطينية أولى اهتماماتهم، فكانت غزة زمن الشعوب في أقوى حالاتها. ويكفي أن نستحضر الفارق المرعب بين موقف الرئيس المنتخب مرسي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 ومقولته: لن نترك غزة وحدها، وموقف السيسي المنقلب على إرادة الشعب زمن الطوفان 2023 ومقولته: إن أمن وسلامة المواطن المصري من أمن وسلامة المواطن الإسرائيلي!
وأما على مستوى الشعوب، فنحن أمام معادلة عسيرة معقدة لا يمكننا إغفالها ولا النظر إليها بسطحية وتجاهل مفرداتها، فمعسكرنا شديد الضعف والارتباك؛ فالشعوب التي اعتادت بفطرتها السليمة وانتمائها الصادق أن تتفاعل مع قضاياها، ترزح تحت نير أنظمة مستبدة وطغاة مجرمين، باعوا بلادهم وشعوبهم وقضاياهم في سبيل تثبيت ملكهم، وهم في الحقيقة مطبّعون مع الاحتلال أعلنوا ذلك أم لم يعلنوه، وأول دلائل تطبيعهم الاستمرار في قمع شعوبهم وحبس جيوشهم، ثم إمداد الاحتلال بمختلف الصور من تزويده بالبضائع وكفايته ضبط الحدود وملاحقة المناصرين لغزة والتضييق على نقل التبرعات وغيرها من صور التطبيع غير الرسمي.
وبالتالي، فمن التعميم الخاطئ أن نعتبر أن هذه الشعوب قد خذلت غزة لكونها لم تتمكن من الإسناد المؤثر في مجريات المعركة! ومن الدقة بمكان أن يقال: إن الأنظمة العربية والإسلامية هي من خذلت غزة، لأنها في موقع يمكّنها من التأثير والنصرة، فتركتها ثم حاربت من يقوم بها أو يفكر فيها.
في المقابل، فإنّ معسكر الصهاينة متماسك إلى حد كبير في استراتيجيته وأهدافه، وحشد كافة الجهود خلفه للقضاء على المقاومة وكسر إرادة غزة وتهجير غالب سكانها. ولا شك أن المجتمع الإسرائيلي قد تعرّض إلى هزّة شديدة أحدثت فيه صدوعا غائرة وغيرت لديه الكثير من القناعات، لكن الكيان الغاصب وبالرغم من ذلك، تمكن في هذه المعركة من حشد تأييد ودعم أمريكا ومعظم دول العالم، بالإضافة إلى أنظمة الحكم في عالمنا العربي والإسلامي بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
لذا فإنه من الدقيق -بتقديري- أن نتعامل مع واقع الشعوب المسلمة اليوم باعتباره عجزا أكثر من كونه خذلانا، ذلك أن الأمة تملك الإرادة الحقيقية للنصرة ولكنها تعجز عن الحراك والإسناد، قد أنهكتها الأنظمة المستبدة وداعمو الثورات المضادة في بلادهم، فكبلتها عن التغيير وحشرتها في أزماتها الخانقة ومساراتها المستعصية.
ولا تصحّ المقارنة هنا بين دور الشعوب المسلمة والدور الإيراني فهي مقارنة جائرة يغيب عنها الإنصاف، ذلك أن إيران وميليشياتها كانت من أكبر أسباب صناعة هذا العجز الذي تعيشه شعوب المنطقة لا سيما الأكثر تأثيراً في القضية الفلسطينية، فهي التي دمّرت حواضرهم ومزقت مجتمعاتهم واستباحت أرزاقهم وهجرتهم عن أوطانهم. وفي حين كان لهذه الأذرع مشروعا ودولة، لم يكن لشعوب المنطقة دولة تدعمهم ولا مشروع يجمعهم، فظلت ظهورهم مكشوفة وأياديهم مكتوفة وقضاياهم يتيمة لا ناصر لها ولا معين.
لكن القضية الفلسطينية عموما وأسطورة غزة على وجه الخصوص كانت دائما حاضرة في وعي الشعوب العربية والمسلمة رغم انشغالاتها المحلية، فلطالما كانت هذه الشعوب تواقة للانخراط في الطوفان والمشاركة فيه. لقد كان واضحا كيف تعاطفت الشعوب مع أولئك الذين كسروا القواعد وانخرطوا بفاعلية في نصرة غزة بعمليات نوعية خارج الإطار التقليدي، فكان حسن سكالانان التركي، ومحمد صلاح المصري، وماهر الجازي الأردني، أيقونات فارقة عبرت عن ضمير الشعوب المسلمة، وكشفت عن ثغرات ممكنة على مستوى المناصرة الفاعلة.
وبالمناسبة؛ فحالة العجز هذه ليست جديدة، ولم نكتشفها مع طوفان الأقصى فقط، ولكنها حالة اتضحت منذ غزو أفغانستان ثم العراق ثم مع جرائم الأنظمة وأذرع الاستبداد بعد الربيع العربي.. ألم يذبح الشعب العراقي والسوري واليمني والأمة عاجزة؟! ألم ترتكب المجازر في تركستان وميانمار فماذا فعلت الشعوب الإسلامية؟! واليوم ماذا فعلت الشعوب بما فيها فلسطينيو الأرض المحتلة عام 48 وفي المهاجر والشتات؟.. نعم حالة العجز هذه باتت داء مستحكما وظاهرة سائدة.
ولعل من أبرز أسباب هذا العجز هو هذه الأنظمة المستبدة، إلى جانب تفشي تأثير الدولة القُطرية على حساب مفهوم الأمة الواحدة، وضعف الانتماء إلى الأمة وغياب شعور الجسد الواحد، وتراجع مفاهيم الجهاد والأخوّة والولاء للمؤمنين وغيرها من القيم الأصيلة، بسبب شيطنتها وملاحقة المتحدثين بها ونعتها بالإرهاب والتطرف، مع استغلال بعض الممارسات الكارثية باسم هذه القيم والمفاهيم الأساسية.. حتى فشا اليأس من إمكانية التغيير، وسادت حالة الغثائية التي تعيشها شعوبنا اليوم.
وإن أول الحلول المطلوبة في علاج ظاهرة الخذلان ومقاومة حالة العجز هذه، هو عودة مفهوم الأمة الواحدة إلى مركزية الخطاب الديني، وإلى الشعور الوجداني، وإلى مناهج التربية والتعليم.. هذا هو الوضع الطبيعي لأمة الجسد الواحد، واستعادته على المستوى الإيماني والوجداني والحركي هو أوجب الواجبات على أمتنا المسلمة، في إطار استعادة دورها الحضاري بين الأمم، وفي سياق تحرير أوطانها ومساندة غزة ونصرة قضاياها العادلة وفي مقدمتها قضية القدس والأقصى.