في الثاني من نوفمبر من عام 1917، صدر “وعد بلفور”، الوثيقة التي كانت الأساس لإقامة كيان صهيوني في قلب العالم العربي، متجاهلةً حقوق الشعب الفلسطيني وتاركةً إياه يعاني سلسلة من الأحداث التي غيرت ملامح الشرق الأوسط. واليوم، وبعد 107 سنوات، لا تزال آثار هذا الوعد قائمة، حيث يواصل الشعب الفلسطيني نضاله في مواجهة أحد أشد أنظمة الاحتلال والاستيطان، بينما يستمر التواطؤ الدولي في دعم هذا المشروع، وسط صمتٍ يهدد بالقضاء على قيم العدالة وحقوق الإنسان.
لقد جاء وعد بلفور في ظل ظروف الحرب العالمية الأولى، حين كانت الإمبراطورية البريطانية تسعى لتعزيز نفوذها وتوسيع هيمنتها على الأراضي التي كان العثمانيون يسيطرون عليها. كان الهدف البريطاني الواضح حينها هو كسب دعم اليهود الصهاينة، خاصة من الولايات المتحدة، لضمان تعاونهم وتأييدهم للجهود الحربية البريطانية، واستمالتهم سياسيًا واقتصاديًا لصالح التحالف الغربي. وقد تجسد هذا الهدف في رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني آنذاك، آرثر جيمس بلفور، إلى اللورد روتشيلد، أحد أبرز قادة الحركة الصهيونية في بريطانيا، تتضمن وعدًا بإقامة “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين.
لقد تجاهل الوعد بشكل صارخ حقوق الشعب الفلسطيني الذي كان يسكن هذه الأرض، ولم يلتفت إلى عواقب هذا التصريح على الفلسطينيين، الذين كانوا يمثلون غالبية السكان في فلسطين آنذاك، إذ تجاهل الوعود السابقة بحماية حقوقهم، وتسبب في انتهاك واضح للمبادئ الأساسية للعدالة الإنسانية.
لقد كان وعد بلفور خطوة أساسية في تمكين الحركة الصهيونية من التوسع والسيطرة، حيث استخدمته بريطانيا كأداة لتحقيق أهدافها الاستعمارية، وإقامة كيان وظيفي يخدم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة. كما لم يكن وعد بلفور مجرد دعم لحركة صهيونية تسعى لإقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين، بل كان وسيلة استراتيجية لضمان تقسيم المنطقة العربية، والحيلولة دون توحدها وازدهارها، عبر زرع كيان استعماري في قلبها. هذا الكيان الصهيوني، الذي أسسته بريطانيا، كان أداة لإدامة التفكك العربي ومنع تحقيق أي نهضة حقيقية للأمة، مكرّساً حالة من عدم الاستقرار تهدد كيانها وتبقيها تحت هيمنة القوى الغربية، ويظهر هنا أن المعركة التي يخوضها الشعب الفلسطيني ليست معركةً تخصه وحده، بل هي معركة الأمة جمعاء؛ فالفلسطينيون، على مدار العقود الماضية، وقفوا صامدين في الخندق الأمامي، يدافعون عن أرضهم ويصدّون طموحات الكيان الصهيوني في إقامة دولته “من النيل إلى الفرات”. وبهذا الصمود، حال الشعب الفلسطيني دون توسع الاحتلال، وأفشل مشروعه التوسعي. من هنا، فإن دعم الأمة لقضية فلسطين وانتصارها لنضال الشعب الفلسطيني، يعني في الحقيقة انتصاراً لكل شعوب المنطقة، فالهزيمة في هذه المعركة ستجعل العدو الصهيوني يطرق أبواب العواصم والمدن العربية الأخرى. إن هذا الكيان العدواني، القائم على التوسع الاستيطاني والعداء، لا يحمل سوى الحقد تجاه شعوب المنطقة، ويعمل على فرض هيمنته من خلال أدوات القمع والاحتلال.
ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى، حصلت بريطانيا على انتداب عصبة الأمم على فلسطين، والذي كان في جوهره تواطؤاً رسمياً مع الحركة الصهيونية، مما سمح لهذه الحركة بتعزيز وجودها وتطوير بنيتها التحتية.
ومنذ أن وُضع الوعد موضع التنفيذ، بدأ مسلسل من الأحداث الكارثية على الشعب الفلسطيني، حيث ازدادت الهجرة اليهودية إلى فلسطين بدعم من السلطات البريطانية، وتم الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لصالح المستوطنين اليهود، مما مهد الطريق لظهور العنف والمواجهات بين السكان الأصليين والمستوطنين الجدد. وبهذا أصبح الشعب الفلسطيني يواجه تزايدًا مضطردًا في فقدان حقوقه وأراضيه، وصولاً إلى نكبة عام 1948، حين تم تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم، واستولى الصهاينة على أكثر من نصف الأراضي المخصصة للعرب حسب خطة التقسيم التي أقرتها الأمم المتحدة.
إن وعد بلفور لم يكن سوى نقطة البداية لمسلسل طويل من العذابات المستمرة. ومنذ عام 1948، تحوّل الشعب الفلسطيني إلى ضحية سياسات الاستيطان والتهجير والتدمير، وصولاً إلى ما يشهده اليوم من حرب إبادة وتصفية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتقويض لمقومات الحياة في الضفة الغربية والقدس. وفي ظل صمت دولي يكاد يصل إلى درجة التواطؤ، تستمر حملات التهجير والقتل والحصار التي تهدف إلى إفراغ الأرض الفلسطينية من شعبها.
وان ما يجري اليوم في فلسطين، وخاصة في قطاع غزة، يمثل امتداداً لهذا المشروع الاستعماري المستمر منذ وعد بلفور، حيث يتم استهداف كل مكونات الحياة، من قصف للبنية التحتية والمدارس والمستشفيات إلى فرض الحصار الخانق الذي يحرم الفلسطينيين من أبسط حقوقهم الإنسانية. هذه الممارسات ليست إلا فصلاً جديداً من الإبادة المتواصلة التي تواطأ المجتمع الدولي على استمرارها، مغلباً مصالحه السياسية والاقتصادية على أي قيم إنسانية أو حقوقية.
لقد أثبت الشعب الفلسطيني، على مدار عقود من النضال، قدرته على تحويل مآسيه إلى مصدرٍ للصمود، ليصبح رمزاً عالمياً للثبات في وجه الاحتلال، وحاملاً للقيم الإنسانية من عدالة وحرية وكرامة. إن نضال الفلسطينيين ليس مجرد مقاومة للاحتلال، بل هو دفاع عن الإنسانية التي يُفترض أن ترتكز على مبادئ الأمن والسلام، فالشعب الفلسطيني أصبح رمزاً عالمياً، وجندياً للإنسانية جمعاء، يحارب الظلم والاستبداد نيابة عن شعوب العالم، ويدافع عن حقوقها في التحرر من هيمنة الاستعمار.
ورغم الحديث المتكرر عن حقوق الإنسان والعدالة، إلا أن موقف المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية يكشف عن ازدواجية المعايير التي أصبحت واضحة في ظل الدعم المطلق الذي تقدمه الولايات المتحدة للاحتلال. فالدعم المالي والعسكري والسياسي الذي يوفره الغرب للاحتلال الصهيوني، يكشف عن ازدواجيةٍ لم تعد تُخفي حقيقة التخلي عن القيم الإنسانية عندما يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين، ليبقى الشعب الفلسطيني ضحية لصراعات القوى الكبرى.
إن ما يحدث من صمت دولي وتجاهلٍ للجرائم التي يرتكبها الاحتلال، يجعل من الحديث عن “حقوق الإنسان” و”العدالة” مجرد شعارات جوفاء، لا قيمة لها في وجه هذا الإجرام الذي لا يتوقف، والذي يقف خلفه تواطؤ الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، التي توفّر الغطاء السياسي والعسكري والدعم اللامحدود للاحتلال، لتستمر الجرائم اليومية ضد الفلسطينيين دون مساءلة أو محاسبة.
ان المجتمع الدولي، وبريطانيا على وجه الخصوص، تتحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه الشعب الفلسطيني. فقد كانت بريطانيا القوة التي رعت هذا الوعد وقدمت له الدعم المادي والسياسي، مما أدى إلى المعاناة المتواصلة للشعب الفلسطيني. ومع ذلك، ورغم الاعتراف بأن هذا الوعد كان خطأً تاريخيًا، لم تقم بريطانيا بخطوات جادة لتصحيح هذا الخطأ، ولا يزال المجتمع الدولي عاجزًا عن توفير أي حماية فعالة للفلسطينيين، الذين يواجهون تحديات جسيمة في سبيل تحقيق حقوقهم. واليوم تتزايد الدعوات لمطالبة بريطانيا بتحمل مسؤولياتها، سواء عبر الاعتراف العلني بالخطأ التاريخي لوعد بلفور، أو عبر الاعتذار الرسمي للشعب الفلسطيني، ودعم حقوقه المشروعة في تقرير المصير. كما أن المجتمع الدولي مطالب باتخاذ مواقف حازمة تدين سياسات الاحتلال والانتهاكات اليومية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وضمان تطبيق القرارات الدولية التي تؤيد حقه في إقامة دولته المستقلة.
ان الذكرى الـ107 لوعد بلفور تعد فرصةً للتذكير بأن الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن حقوقه التاريخية والقانونية. وان الصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال وسياساته لم يتراجع رغم مرور السنوات، فالشعب الفلسطيني لا يزال متمسكًا بأرضه وهويته الوطنية. وان وعد بلفور كان بداية لمسيرة طويلة من النضال والتضحية. وفي ظل هذه الذكرى، يبقى الأمل قائمًا بأن المجتمع الدولي ومع اتساع الفعل الشعبي العالمي المؤيد للشعب الفلسطيني وحقوقه سيُدرك ضرورة إنهاء هذه المأساة المستمرة، والعمل الجاد لتحقيق العدالة والسلام الدائم، والسعي لإيجاد حل عادل وشامل يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه كاملة، ويؤدي إلى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، كحق مشروع طال انتظاره.