بداية لا بد لنا من التمييز ما بين الرواية والتاريخ. فالرواية هي شكل من أشكال التعبير الأدبي، تستخدم لتوثيق الأحداث وتصوير الواقع والشخصيات وإيصال الأفكار والمشاعر بطريقة فنيّة وجماليّة تجذب انتباه القارئ وتثير تفاعله. هذا ويكون المعيار الأول الذي يُحكم به على الرواية أو لها, هو مدى قدرتها على خلق شخصيات إنسانيّة واقعيّة, تتحرك في إطار اجتماعي بعينه, بحيث تعكس خصوصية هذا الاطار الاجتماعي في الزمان والمكان, بكل ما تطرحه شخصيات الرواية من علاقات وصراعات وما تعيشه من تناقضات وطموحات.
أما التاريخ: فهو علم من العلوم الاجتماعيّة التي تهتم بدراسة ماضي المجتمعات البشريّة، يدرسه علماء مؤرخون مختصون وفقاً لما يتوفر لديهم من الوثائق التي يعدّونها عند دراستهم للأحداث الماضية. أو بشكل أكثر دقة نقول: هو دراسة الماضي كما هو موصوفاً في الوثائق المكتوبة. أي دراسة الأحداث التي حدثت إن كانت قبل السجلات المكتوبة وتسمى أحداث ما قبل التاريخ, أو دراسة الأحداث التاريخيّة المدونة أو القائمة على الذاكرة, أو المتعلقة في الأوابد التاريخيّة القائمة والشاهدة على تاريخ أمّة من الأمم أو شعب من الشعوب. ودراسة التاريخ تهدف إلى اكتشاف، وجمع، وتنظيم، وعرض، وتفسير المعلومات المشتغل عليها وضبطها أكاديميّا لتحديد موضوعي السبب والنتيجة لهذه الأحداث المراد دراستها.
إذا من خلال تحديد مفهومي الرواية والتاريخ يتبين لنا أن الرواية غير التاريخيّة تقوم على تصوير أحداث متخيلة تمثلها شخصيات يصنعها الروائي, هي أقرب إلى الواقع في دلالاتها وأهداف سردها الرامية إلى التأثير الذي يريد الروي تركه عند المتلقي.
ولكون الرواية جنساً أدبيّاً كما يقول بعض النقاد لا قواعد له ولا وازع، ومفتوحا على كل الممكنات. فالرواية التاريخيّة تأتي في هذا السياق, واحدة من هذه الممكنات التي ترتكز على تصوير الأحداث والشخصيات التاريخيّة, وتقدم نظرة عميقة في دراسة أحداث الماضي, لنقل القرّاء إلى فترات زمنيّة مختلفة. وبالتالي فمن خلال الرواية التاريخيّة، يمكن للقرّاء التواصل مع التاريخ وفهمه بشكل أفضل عبر الشخصيات الواقعيّة والأحداث الملحميّة التي تروى بأسلوب روائي مشوق.
وعلى هذا الأساس نقول: إن أية رواية تتعامل مع التاريخ يجب على الروائي أن يكون أكثر عقلانيّة ومنطقيّة وواقعيّة وحياديّة مع الأحداث التاريخيّة التي يريد تصويرها حتى لا يفقد الحدث التاريخي مصداقيته, ويتحول مضمون السرد الروائي للحدث التاريخي هنا إلى ما يألفه أو يريده الروائي, وبما يناسب أوتاره النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والدينيّة والفكريّة والوجدانيّة.
إن الرواية التاريخيّة ستقوم بالضرورة على التداخل والمناورة والمجاوزة والاستضلال والتحويل, الأمر الذي يُخرج كل من الواقع والتخييل عن خصوصيتهما، لذلك سيطغى على السرد الروائي وأحداثه إضافة للتداخل, الغموض والأوهام والتخيل والأساطير والخرافة والمواقف الأيديولوجيّة أو الرغبويّة في تحويل المعطيات المتعلقة بالنص التاريخي إلى مواقف فكريّة تخدم أجندات أو مواقف دينيّة أو سياسيّة معاصرة لا تنتمي للحقيقة بصلة بقدر ما تنتمي للوهم. وهذا ما يجعلنا نؤكد حقيقة تتعلق في علاقة الفن الروائي وعلم التاريخ وهي: (إن أيّة محاولة لخلق موازنة بسيطة بين مفاتيح التاريخ والرواية يجعل الجمع بينهما مستحيلاً، فالتاريخ في معطياته العلميّة يظل بالضرورة نفعيّاً يبحث عن الحقيقة ويسعى لها سعيهاً بكل أدوات العلم المتاحة، بينما الرواية هي خطاب جمالي ترتاد الخيال، وتحلق في عوالمه التي لا نهاية لها. فالرواية التاريخيّة إذن يتجاذبها هاجسان, أحدهما الأمانة العلميّة, والآخر مقتضيات الفن الروائي، مما يجعل الجمع بينهما إجرائيّا كالجمع بين الماء والنار،(1).
يقول لوكاش: “إن كاتب الرواية التاريخيّة لا يلتفت إلى الماضي إلا من خلال قضايا حاضره، وهذا يقتضي أن يعتمد هذا النوع من الروايات على حقبة تاريخيّة موثقة تكون مادة للحكي، يملأ الأديب تجاويفها بما أوتي من ملكة التخييل، ويضفي عليها لمساته الفنيّة والجماليّة ليعيد تشكيل هذه المادة تشكيلاً فنيّاً جماليّاً، شرط أن يمتلك قدرة كبيرة على الحفر بالمرحلة بكل أبعادها الاجتماعيّة والأنثربولوجيّة.”. (2).
وانطلاقا من هذا الموقف المنهجي في رؤيتنا لمفهوم الرواية والتاريخ, وإلى أي مدى يستطيع الروائي امتلاك القدرة على الربط بين المتخيل (الرواية) مع العلم (التاريخ)؟, وما الأدوات الفنيّة التي يمكن أن يستعملها في هذه المهمة, والأهم إلى أي مدى يكون حياديّاً, لا تطغى عليه عواطفه وانتماءاته ورغباته الأيديولوجيّة. وهذا ما سنسلط الضوء عليه في رواية (رأس الحسين), للروائي عبدالله خليفة.
وقبل الدخول في عالم الرواية لا بد لنا من وقفة أوليّة للتعريف به: هو, “عبد الله خليفة” خريج المعهد العالي للمعلمين بمملكة البحرين في سنة 1970، وقد عمل في سلك التدريس حتى سنة 1975. اعتقل من سنة 1975 إلى 1981. عمل منذ سنة 1981 في الصحافة الاجتماعيّة والثـقافيّة في الصحف البحرينيّة والخليجيّة، ونشر في العديد من الدوريات العربيّة. عضو في اتحاد الكتاب العربي في سوريا. وشارك في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب بتونس سنة 2002، ببحث تحت عنوان «التضامن الكفاحي بين المسلمين»، وشارك في مؤتمر بجمهورية مصر العربية سنة 2003، ببحث تحت عنوان «المثقف العربي بين الحرية والرغبة» من خلال اتحاد الكتاب المصريين. كتب منذ نهاية الستينيات في عدة أنواع أدبيّة وفكريّة، خاصة في إنتاج القصة القصيرة والرواية والنقد والدراسة. من أعماله الروائية: اللآلئ، القرصان والمدينة، الهيرات، أغنية الماء والنار، الضباب، نشيد البحر، الأقلف، ساعة ظهور الأرواح، رأس الحسين، علي بن أبي طالب شهيدا، التماثيل، عثمان بن عفان شهيدا، عمر بن الخطاب شهيدا، عنترة يعود إلى الجزيرة، محمد ثائرا، عقاب قاتل، اغتصاب كوكب، الينابيع في ثلاثة أجزاء. ومن بحوثه النقدية والفكرية: :الراوي في عالم محمد عبد الملك القصصي”، “لاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية”، “نجيب محفوظ من الرواية التاريخية إلى الرواية الفلسفية”, و”صراع الطاقات والطبقات في المشرق العربي وإيران”. وله العديد من المجموعات القصصيّة. “إنهم ساهمون الأرض”. “ضـوء المعتـزلة”. “الكسيح ينهض”. “أنطولوجيا الحمير”. توفي في أكتوبر 2014 عن عمر يناهز 66 عامًا بعد معاناة مع المرض.
وفي روايته (رأس الحسين), اشتغل في الحقيقة على حدث تاريخي إشكالي في أبعاده الدينيّة والسياسيّة. فعلى المستوى الديني, كان هناك سؤال مشروع يطرح نفسه على المتابعين لقضية الحسين وهو: لماذا كل هذا الزخم الديني والتقديسي الذي حظيت به شخصيّة “الحسين” أمام غيره من آل البيت وخاصة والده “علي بن أبي طالب”, حيث فاق حضورالحسين حضور والده, وهو ابن عم الرسول, وزوج ابنته فاطمة, وهو (بوابة العلم) كما وصفه الرسول, وهو من قال عنه عمر : (لو لا عليّ لهلك عمر), وهو من شارك الرسول في قتاله كفار قريش في كل حروبه وغزواته نصرة لدين الإسلام, وهو أخيراً وليس آخراً من قال فيه الرسول ما قال في حديث الغدير: (اللهم والي من والاه وعادي من عاداه.).
أما على المستوى السياسي, فأين موقعه من موقع والده أيضاً, وهو الذي نام في فراش الرسول عندما قررت قريش قتله, وهو الخليفة الرابع الذي ولاه الجمهور لعدله وتمسكه في الحق ودفاعه عن المظلومين, وهو القائل: (لم يترك لي الحق صاحباً). وهو من نازعه معاوية على الخلافة وآلت إليه بتحكيم فاقد للشرعيّة, وبقتال أدى إلى انقسام المسلمين وظهور الخوارج ومقتله على يد الفرقة الباغية.
هذه إشكاليات تاريخيّة, لم تحسم فيها كتب التاريخ الأمر بعد, كون التاريخ أقلام السلطة من جهة, وأنه ظل شفاهيّا سائباً حتى جاء عصر التدوين 145 للهجرة, ولعبت في تدوينه الأهواء والمصالح بعد أن تفرق المسلمون إلى فرق وشيع دينيّة سادها صراع سياسي وعقيدي, كان ولم يزل أهم صراع فيها هو صراع شيعة عليّ مع البيت الأموي والعباسي لا حقاً حيث اعتبروا أن الأمويين بالذات ظلموا عليّاً وسلبوا حقه الشرعي في الخلافة, وامتد الصراع دائراً بين السنة والشيعة حتى تاريخه.
أما هذه المعطيات التاريخيّة حول قضية الحسين المبهمة في دلالاتها, يأتي المفكر الإيران الإسلامي الشيعي في انتمائه, وهو “عليّ شريعتي” ليبن لنا حقائق الصراع السني الشيعي, وخاصة في مرحلة الصراع العثماني الصفوي, في كتابه: (التشيع العلوي والتشيع الصفوي), ليقول : إن هذا الصراع بين العثمانيين والصفوين, ساهم في جعل الصفويين يركزون على شخصيّة (الحسين بن عليّ) ومنحه كل هذا الزخم العقيدي والسياسي والتقديسي, وهو الرجل صاحب العدل والمتمسك بالحق والفضيلة, حتى لو دفع روحه ثمناُ لذلك, متخذين من مسألة زواجه من أبنة يزدجرد (شهربانويه بنت يزدجرد الثالث). موقفاً سياسيّاً وعقيديّا عملوا من خلاله على مصادرة الإسلام وجعل أأمته في ذرية الحسين, وهم الأئمة الاثني عشر, وعلى هذا الأساس لم يزل هذا المذهب بقيادة ايران وهي الحامية له, والعاملة على نشره في العالم الإسلامي.
المعمار السردي والفكري للرواية:
إن الروائي “عبد الله خليفة” في روايته (رأس الحسين), يشتغل على مسألة مقتل “الحسين” انطلاقا من الموقف الصفوي الشيعي, وبالتالي منحه في هذه الرواية مكانة لا تعلوها مكانة من الشخصيات الإسلاميّة وفي مقدمتها الرسول نفسه ووالده علي بن أبي طالب. كما بينا قبل قليل, وما سنبينه في عرضنا التالي:
تقوم الرواية على مسألتين أساسيتين هما:
المسألة الأولى: اغتصاب الأمويين الخلافة من “علي بن أبي طالب” بقوة السلاح, فجاء “الحسين بن علي” ليطالب في الخلافة من “يزيد بن معاوية” معتبرها حقاً مشروعا له, رغم أن “الحسن بن علي” أخاه الأكبر قد تنازل عنها لمعاوية وفقاً لاتفاق بينهما. لقد حاول ” يزيد” إرضاء ” الحسين”, مقابل تنازله عن موقفه, إلا أنه رفض, وكان هناك من يحرضه على الثورة ضد ” يزيد” من أهل المدينة المنورة والعراق وخاصة في الكوفة, وعندما جاء من المدينة المنورة إلى الكوفة لتجهيز جيش لقتال يزيد, لم تجر الأمور كما يشتهي حيث تخلي عنه الكثير ممن شجعه على الثورة من أهل الكوفة خوفاً من واليها “عبيد الله بن يزيد”, ولم يبق معه إلا أهله وأخته زينب وبعض المقاتلين, ومع ذلك قرر قتال جيش يزيد فكانت معركة “كربلاء” التي قتل فيها ومن معه من الرجال, وقطع رأسه الذي شكل العمود الفقري لعمارة هذه الرواية وسردها.
أما المسألة الثانية: فهي نمط شخصية الخليفة “يزيد بن معاوية” التي اشتهرت بالفساد, كشرب الخمر واقتناء الجواري وقضاء ليالي الغناء والطرب, من جهة, وإهمال الرعيّة وشؤون البلاد وجمع الأموال والثروات الطائلة على حساب جوع الرعية وقهرها وظلمها وتسليط الفاسدين على رقابها من جهة ثانية. وهنا يأتي موقف “الحسين بن علي” المعارض لسياسة “يزيد” ومطالبته بترك الخلافة لأهلها الشرعيين كي يقوم بإعادة أمور البلاد إلى وضعها الصحيح الذي يرضي شرع الله.
إن أهم حدث في الرواية والذي ابتدأت به الرواية هو مقتل ” الحسين” وقطع رأسه في معركة غير متكافئة.
وأهم شخصيات الرواية بعد “الحسين” الخليفة “يزيد بن معاوية”, ويأتي بعدها شخصيات ثانوية ومنهم (ابنه معاوية وزينب بنت علي, وزوجة الحسين وهند زوجة يزيد), وهناك شخصيات أخرى من عساكره الذي خاضوا معركة كربلاء وهي من شكل الحيز الأكثر في أحداث البناء المعماري للرواية الدرامي والسردي. وهم (الشمر بن جوشن” الذي قطع رأس الحسين في معركة كربلاء. وحمزة المهرج المسيحي الذي أسلم, وقد عرف بعدّة أسماء أخرى مثل (جعدة وصموئيل). وهناك “عمر بن سعد” قائد حملة كربلاء. و”عامر التميمي وابن عمه عمران”. وشخصيات هامشية من العساكر كـ”مجبل وبكار وهشام” وهناك والي الكوفة” عبيد الله بن زياد).
أهم دلالات الرواية كما جاءت في سياقها التاريخي على لسان شخصياتها:
ظهور الدلالات النرجسيّة والفوقيّة وامتلاك شهوة السلطة للخليفة “يزيد بن معاوية”, عندما أخبره قائد الحرس بمقتل “الحسين بن علي” قائلاً: (هزم جيش الحسين يا مولاي وقطعت رأسه وسحق وجنده كما يسحق القمح). ص30. فرد عليه يزيد : (هذه بشارة .. لم يعد الرجل المغرور يهدد ملكي .. انتهى الحسين ..الآن سوف أنام مستريحاً, سوف أهدأ … وزعوا الحلوة على الأطفال. ) ص30. ثم اتجه إلى القائد قائلاً: (قل لي .. كيف تضرع لي لأسامحه؟.. كيف بكلا من أجل أن لا يموت ؟.. ألم يكن اسمي آخر ما تفوه به؟.. ألم ينحني ليطلب الرأفة مني ؟.. الم يزلزل اسمي الهائل العظيم؟.. فيردّ عليه قائد الحرس: (لا يا مولاي لم يتذلل .. لم يقل ذلك يا سيدي.) ص30.
وفي الرواية أيضاً موقف “معاوية بن يزيد” من الخلافة وانعزاله وزهده بالدنيا والسلطة وخاصة بعد مقتل الحسين.. يقول له والده بعد فشل حواره معه حول عودته إلى عالم الخمر والسهر والجواري والضحك: (دعك من هذا التألم والتحسر على رثاء البشر ومسايرة القوم, وكن قوياً جباراً تسحق الناس العصاة بقبضة يديك العنيفة .. كفى لا تتخاذل ليس نحن الذين نسكب دمعة أو ترتجف أيدينا وقت الذبح.) ص44. يرد عليه معاوية: (اتركني يا أبي, دعني أقرأ القرآن وأصلي .. إني لم أر المجزة وقلبي مثل طائر مذبوح.) ص 44.
وهناك ايضاً بدء تبدل موقف حمزة المهرج من جند الخليفة “يزيد” بعد مقتل الحسين وما تركه هذا الفعل من تأثير نفسي وأخلاقي عليه, وهو الذي اختطف رأس الحسين من الشمر كي يقدمه للخليفة يزيد طمعاً في الجائزة أو المكافأة لعله يحسن وضعه الاجتماعي والمادي, وهذا كان موقف كل من العساكر الشمر وهشام أيضا, حول من سيحتفظ برأس الحسين للفوز بالمكافأة. هنا يبدأ يتخيل أن رأس الحسين يخاطبه فيتحدث معه عن العاصفة الترابية التي نزلت انتقاماً على عساكر الخليفة يزيد, وهم يحملون رأس الحسين على سن الرمح عالياً تباهياً بنصرهم. يقول حمزة مخاطباً نفسه متحسرا على تركه قصر الخليفة والتحاقه بعسكر الخليفة لقتل الحسين: (كيف يا حمار تركت القصر بجواريه وملاهيه لتلتحق بهؤلاء الذئاب البدو القساة الحفاة الذين يبيعون دينهم بدنياهم.). ص36. وهنا يأخذ شعوره بالذنب يتصاعد حتى يجد نفسه يتحدث مع رأس الحسين. فمع هبوب العاصفة الرمليّة الشديدة يخاطب حمزة رأس الحسين قائلا: (متى تخف هذه العاصفة؟.). فيرد عليه رأس الحسين الذي يحمله ويلفه في خرقة: (سوف تخف هذه الرمال الثائرة بعد ساعة أو ساعتين, فلا تخف, ولكن كيف ستخرجون من متاهة الحساب وعذاب الضمر وأسئلة أخرى). ص47. فيرد حمزة مخاطباً الحسين: (هذه تتكفل بها أنت يا سيد الشهداء.)ص47. ثم يتابع الحور بين حمزة ورأس الحسين منتقدين سلوكيات عساكر المسلمين وقيمهم: (تقتلون وتشربون الخمر, وتمارسون الفساد ثم تذهبون إلى الحج وتبدؤون الصلاة وممارسة الطقوس وكأن كل شيء قد ذهب وعفا الله عنه. ) ص47. وهم بهذا الحوار ينتقدون أيضاً يزيد وولده معاوية وفساد الخلافة الأموية ص49.
إن موقف حمزة المستاء يظهر أكثر وضوحاً عند اقتراب القافلة من دمشق بساقه التي طعنها أحد العساكر الطامعين برأس الحسين لأخذ الجائزة, وقد أردفه عامر خلفه على حصانه كي يعالج ساقه في دمشق يقول مخاطباً نفسه: (إنني أتتبع عبر الأخبار موكب رأس الحسين.. هل يمكن أن يحمل رأسه إلى الخليفة؟.. أهذه هي الخلافة التي نريدها؟.. بعد أن انتشرت الجثث في الصحراء وسال خيط من الدم طويلاً إلى الحقول والمدن. ). ص 98.
كما نجد في متن الرواية موقف “زينب بنت عليّ بن أبي طالب” شقيقة الحسين وحوارها مع الخليفة يزيد عند وصوله إلى قصر الخليفة مع من تبقى من آل البيت. تحدث نفسها مقارنة بين هذا الملجأ (القصر) الذي يقطنه يزيد.. كيف كان زمن والدها ملجأً للفقراء والمساكين وكيف تحول الآن إلى وكراً للسرقة ومقر للقتل والبغاء.) ص 52.
دخلت زينب قاعة القصر لتجد أمامها ” عبد الله بن زياد” والي الكوفة جالساً على كرسيه, فتهمس لنفسها: (يا لله هذا النجس هو من أباد سلالة المصطفى). ص52. وهنا يدور حديث بينها وبين والي الكوفة الذي بادرها بالقول: (ما حل بكم نتيجة لعصيانكم طاعة الخليفة, وهذه نتيجة العصيان, لقد أذلكم الله.) .. فردت زينب عليه: (كيف يذل الله من أطاعه وعمل للناس خيراً ويقف مع من قتل خير البشر. كيف يقف مع من هو اتفه من ذيل بعير أجرب, وسيف مأجور عند قاتل نهم للمال والنساء .. بل قل هي السياسة والقوة, وهي اليوم لكم وغداً عليكم, فلا تستعجلون قطع رقابكم ونهب خزائنكم. ). ص53. وهنا نقف قليلاً عند قولها واصفة الحسين بأنه: ( خير البشر). وهي في وصفها هذا تتجاوز والدها عليّ والرسول نفسه في الخيرية!!!!.
كما نجد في المتن موقف “الشمر بن جوشن” الانتهازي وندمه أخيراً على قطع رأس الحسين وهو يخاطب حمزة قائلاً: (لستُ خائفاً, ولكنني حزين.. ذلك القطع للرقبة لا يزال مرئيّاً أمامي وكل الكؤوس لا تستطيع أن تزيله .. النوم لا يأتي فمنذ قتلته لم أنم, وجوه كثيرة تظهر لي .. وجوه لم أرها من قبل تتجسد أمام عيني.. ثمة بكاء مرير مثل نشر العظام.) ص61.
أما عن حالة الرعيّة في هذه الرواية فَيُسَلّطُ الضوء على تغير مواقف الرعيّة وسخطهم على خلافة يزيد بعد انتشار مقتل الحسين وقطع رأسه. فهذه إحدى بنات الحسين تقول لرباب: (نحن النسل الذي يريدون أن يجتثوه). ص66. ثم تتابع واصفة حال الرعية : تأملي هذه الوجوه الشائخة من الحمالين ومقدمي العلف والحرس المساكين المرتعشين خوفاً من أية نأمة سوط .. هؤلاء الأهالي المتجمهرين وراء السيوف.. المدمنون على الصمت والخوف.. وهذه السطوح المرتجفة والمقاهي الثرثارة). ص68. ها هو رأس الحسين يظهر أمام الرعيّة مرفوعا على رأس رمح وكأنه راية للحريّة. ) ص68. ويهتف صوت: (أيها الناس أن الزور الذي يقولونه لكم لكي لا تستقبلوا الحسين, هو كذب محض .. الحسين هنا .. الحسين لم يتوار.. الشهداء أحياء.) ص69. وصوت آخر يصرخ: (أي الناس .. إن الموت ما أخطأ الفتى جاء إليه بإرادته لأنكم دعوتموه للقتال وتخليتم عنه.). ص 70. وهذا الموقف المستاء ذاته ظهر عند المسحيين في موقف الأب “يوحنا” عندما اقتربت القافلة التي حاربت الحسين من الدير في الصحراء قرب دمشق طالبين الماء والطعام ورفضه تقديم مطالبهم.
ونجد في متن الرواية موقف “الخليفة يزيد” من “زينب” وما تبقى من آل البيت, حيث بدأ يتغير موقفه مع بدء تغير مواقف الرعيّة وتعاطفها مع آل البيت .. شعور بالندم والذنب راح يجتاح يزيد ليطلب السماح من زينب وانهاء المسألة كلها كي تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.
قال يزيد لزينب وعائلة الحسين مبرراً قتله للحسين: (بأن الحسين شق عصا الطاعة على حكمه رغم أنه حاول إرضائه بما يريد.) ص120. فترد عليه زينب: (كان لا بد أن يقاتلك يا يزيد وأنت أسوأ من يمكن ان يحكم .. أنظر ماذا فعلت .. سفكت دماءً كأنها بحيرة من الماء.. فمن العار إن لم يتجرأ عليك الحسين وهو زهرة رجال العرب. ). ص 120.
اما آل مروان بن الحكم الطامحون بالحكم وعدم ضياعه من البيت الأموي وتذمرهم مما جرى من سوء خلافة يزيد, الأمر الذي دفع مروان وبعض أهله يأتون إلى قصر يزيد متذمرين فيقول مرون للخليف يزيد: ( يا خليفتنا ورأس دولتنا, لقد تماديت كثيراً في سطوتك, فهذه المدينة التي لم تعرف سوى الهدوء والحلم, تعيش الآن في خوف دائم لا أحد يأمن على نفسه في الليل, وعبيدنا وموالينا راحوا يتذمرون ويهربون.. والغزوات توقفت, والعسكر في الثغور صار نائماً.. وما هذه الرأس التي علقتها وأردت الشكيمة منها فصارت سبباً للفزع والخوف والشكوك. ). ص 149.
في نهاية الرواية يتخلى الجميع عن يزيد بعد أن سمعوا تخلي الشمر بن الجوشن وحمزة وغيرهم من عساكر يزيد الذين شاركوا في حملة كربلاء عنه .. وهنا يقول يزيد: (صارت مملكتي كلها مخاوف.). ص171. اما حمزة فيقود ثورة شعبية ضد الخليفة مع بعض الرجال المتذمرين من مواقف يزيد يُقتل فيها الكثير من الناس ويختفي رأس الحسين: ص.147.
من خلال كل ما جئنا إليه في هذه المواقف, أجد أن الرواية تقوم في فضائها الأساس على موقف أيديولوجي للكاتب يؤمن إيمانا مطلقا بموقف الحسين وشخصيته وقدسيته, الأمر الذي أشعرنا بعدم الحياديّة في طرحه لقضية الحسين وانحيازه المطلق لمواقف الحسين ومن يمثلها في تاريخنا المعاصر, وهذا ما يفقد الرواية مصداقيتها, وربما ستجد صداها عند من يتمسك اليوم بموقف الحسين من الشيعة الجعفريّة بشكل خاص, على اعتباره يشكل وسيلة لإحياء مشروع سياسي ناضل الشيعة عبر تاريخهم الطويل من أجل تحقيقه, وهو عودة الخلافة لمستحقيها كما أشارت الرواية بأكثر من موقف في متنها.
الرواية في الشكل:
دلالات اسم الرواية:
اسم الرواية هو الاسم أو الرمز الذي يوضّح مضمون الرواية, فهو يمثل الخطوط المميزة والهامة في بنيتها, وعلامة فاعلة في تحديد السمة المعنوية لها. فالاسم هو الدعامة التي يرتكز عليها هذا البناء، في حالة ثباته وتفاعله وتواتره, وعاملا ً أساسيّا من عوامل وضوحه. ويأتي هنا اسم (رأس الحسين) بكل دلالاته ليمثل ظاهرة تاريخيّة لها حضورها في التاريخ الإسلامي ماضيّاً وحاضرا. فالحسين ومأساة كرباء أخذتا تشكلان اليوم وبشكل خاص عند كتلة كبيرة من المسلمين الشيعة (الجعفريّة) موقفاً إنسانيّاً وسياسيّاً وعقيديّاً (مذهبيّاّ), راحت هذه الكتلة تشتغل عليه بمفردات أيديولوجيّة وأسطوريّة مشبعة بمفاهيم الحريّة والعدالة وثبات الموقف ومناصرة الحق ومواجهة الظلم. وهذا هو مضمون الرواية في الأساس وأهدافها.
أما صورة الغلاف فقد حملت دلالات الحدث لواقعة كربلاء التاريخيّة من جهة, مثلما عبرت في ألوانها الحارة المشبعة بالسواد, لتدل على عمق المأساة ودرجة الحزن الكامنة في هذا الحدث التاريخي كما يراها الكاتب, والكثير من محبي الحسين, مع وجود بقعة لون أقرب إلى الصفار أو الضوء في صورة الغلاف, تشير إلى فسحة من الأمل في خلاص هذه الأمّة من قهرها وظلمها واستلابها وتشيئها واغترابها الذي عاشته منذ قرون عديد ولم تزل فيه.
الشكل العجائبي للرواية كنمط حداثي:
تعتبر رواية (رأس الحسين) من الروايات التي تدخل في فضاء أو عالم الرواية العجائبيّة. والمقصود بالرّواية العجائبيّة, تلك الرواية التي ينقطع التشخيص فيها عمّا يمت للحقيقة أو المشاكلة، وهذا ما يساهم في إضعاف صلتها بالواقع، لتصبح هي مرجع ذاتها، وفق قوانين الفوق- طبيعي أو الواقعي, فيصبح من أهم خصائصها تداخل الواقع مع الخيال، وترك القارئ أو المتلقي على حيرة بين عالمين متناقضين, عالم الحقيقة الحسيّة وعالم الوهم والتخييل، وحضور اللاسببيّة في أحداث الرواية وشخوصها وسردها. ولذلك فإن العجائبيّة تحتضن مختلف البنيات النفسيّة المتعبة والتواصلات الاجتماعية الهشّة الهلاميّة التي تكرس السلبيّة وزيادة هدر قدرات العقل وتعطيل المنطق. إن العجائبي في المحصلة يفسح المجال واسعا أمام حضور وفاعليّة الخيال والقلب والحُلم والرغبة في اليقظة واللامعقول, لتحقيق ما عَجز عنه العقل في الواقع، فالخيال والحلم والوهم يقدمون حلولاّ ملتبسة لواقع حقيقي ملموس، وبالتالي يتحوّل الواقع بفعل آليّة عمل هذا المنطق اللاعقلاني العجائبي، إلى شلالٍ لتحقيق كل الأمنيات, وتبرير استمرار تأثير ما فوق الطبيعي في الطبيعي، وغير العقلي في العقلي، ليزداد الغموض في رؤية الإنسان وتصوّره لنفسه ولرغباته. في الوقت الذي يُنتظر من إنسان اليوم الحصول على المعرفة العقلانيّة القائمة على السببيّة, والتشبع بروح الحداثة والتحلي بالمنطق وسلامة التفكير وقوة الخلق والابتكار وروح التجديد والإبداع، وأن العمل دليل الحياة، مع امتلاك أخلاق التسامح والصبر والاستمرار في هذه الحياة والتمتع بها. ففي مثل هذا التوجه نحو المعرفة العقلانيّة التنويريّة, ستسعفهم هذه المعرفة العقلانيّة وتطاوعهم المادة لفهم قوة “الشيء” مهما كان صغيراً. (3).
ففي رواية (رأس الحسين) يركز الروائي ” عبد الله خليفة). أساساً على شخصيّة الحسين، بل على رأسه بالذات الذي ينقله من الواقع إلا عالم العجائب لدرجة أسطرته، فالرأس ينظر ويبتسم ويتكلم ويؤثر في واقع الطبيعة والأشخاص وأخلاقهم ونفسياتهم، ومع اختفاء الجثة, يبقى رأسه معلقاً على الرمح في موكب جند الخليفة “يزيد” ليشكل طاقة ثوريّة خلاقة داخل نفوسهم. كل ذلك يأتي منطلقاً من تيمة المقدس والمتعالي في شخصيته, حيث أرد الراوي له – وكما يريد محبيه اليوم – أن يشكل عالم الحلم في مقارعة الظلم والفساد داخل عالم الحقيقة.. عالم خلافة يزيد والبيت الأموي وحكام الحاضر أيضاً.
لا شك أن رأس الحسين قد شكل مهماز التحولات الطارئة على المكان والزمن في بنية أحداث الرواية، وهذه الطاقة ما كان لها أن تحدث لولا انتقال الكاتب من عالم الواقع إلى عالم الغرابة المدهش، أو المعروف في ثقافتنا الدينيّة بعالم المعجزات والكرامات، التي تبلغ أقصاها في العجائبي.
إن “عبدالله خليفة” لم يحرص على الحقيقة التاريخيّة التي أشرنا إليها عند تفريقنا بين التاريخ كعلم والرواية كمتخيل، لذلك هو انتقل من الحقيقة التاريخيّة التي لها مقومتها الموضوعيّة والذاتيّة إلى عالم تخييلي صارخ، هو العالم العجائبي. لقد استحضر الروائي عبد الله الخليفة معظم عوالم عجائبيّة روايته من خلال رحلة رأس الحسين من كربلاء إلى دمشق، وكأن الحسين أبى إلا أن يمضي في طريقه حتى يهدد عروش الظلمة. فالحسين عدّه الروائي حقاً لا يمكن أن يقهره قتل، ففكره المشبع بالعدل وعدم التنازل عن الحق ورفض الذلّة والهوان, استطاع أن يتمرد على جسده المادي المختفي، وأن روحه ستظل تسري في النفوس عزة وكبرياء.
إن عبدالله خليفة بهذا النزوع نحو العجائبيّة لا يقصدها بحد ذاتها ولا يرمي للتسليّة والمتعة، بقدر ما تنبع من إيمان حقيقي يرمي إلى جعل قضية الحسين ورأسه رمزاً كبيراً يستمر في واقع الناس اليوم ليتحدوا به القهر والظلم والهزيمة، وهو الأمر الذي فعله داخل النص ذاته, حين حول حمزة وبعض المسحوقين من صحبه العساكر في واقع الناس إلى ثوار.
إن هذا الإصرار على المنحى العجائبي داخل النص الروائي من قبل ” عبد الله خليفة” بوظيفته الرمزيّة, هو محاولة يشتغل عليها “الشيعة الجعفريّة” في تاريخنا المعاصر لنقل قضيّة صراع حسين على السلطة ومأساته في الماضي، إلى حاضر الناس وواقعهم، بل وإلى مستقبلهم وتطلعاتهم أيضا، وليس الأمر غريباً على كاتب مثقف في حجم “عبدالله خليفة” الذي ظل في كل ما خط يقف إلى جانب المحرومين والمسحوقين الذين سجن من أجلهم، يبحث لهم عن شعاع من أمل، وعن حلم يتشبثون به بحثاً عن كرامتهم وشرفهم, ولكن بطريقة تحرك العواطف والأرواح والحلم أكثر من تحريكها للعقل والمنطق والفعل الثوري القائم على العلم ومعرفة الواقع والشروط الموضوعيّة والذاتيّة الحاضنة لأية ثورة أو رغبة في التغيير. وعلى هذه المعطيات لا يمكن للحكايات العجائبيّة في أوساط اجتماعيّة كثيرة ومتعددة الانتماءات والمرجعيات الدينيّة بكل تفريعاتها, وفئاتها العريضة التي تشتغل على الخرافة والأسطورة وبما لديها من أدوات السخريّة والمسخ والإهمال والنسيان وإلقاء اللوم على الآخرين, أن تصبح جيشا يحارب من أجل خلق عوالم من التجديد والتطوير والحداثة والدعوة لتطبيق القانون.
هكذا، يظهر وجه رواية “رأس الحسين” العجائبيّة التي تقدم نفسها لإنساننا العربي المعاصر حلماً لتحقيق العدالة والمساوة ونفي الظلم والاستبداد في سردها العجائبي, نراها تدفعه للحيرة بفعل ما تخلقه من مفارقات وتناقضات وأوهام وتخيلات عجائبية. فالعجائبي لا يستقر في بؤرة أمنةٍ أبداً، وإنما يزرع الشك والريبة حيثما حلَّ وانتقل, كونه بعيداً عن العقل والمنطق كما بينا في موقع سابق، فالعجائبي عندما يحاول أن يحوز على قدرات العقل، لن ينجح في إيجاد حلول يحقق من خلالها التوازن بين العقل والخيال وبالتالي الحلول المنطقيّة، فالمتخيل والوهم يكفي أن يغمض المرء عينيه، حتى يتخلص من واقعه الحسي وأحلام يقظته في الخلاص، فالحُلمُ هنا مفتوح على مصراعيه، لا يقف أمامه حاجزٌ ولا حتى مراقب، وقد يطول الغياب أو يقصر، تبعاً لمستوى الاستسلام لليأس ومدى الابتعاد عن العقل الذي يصبح في هذه الحالة مصدر توتر وقلق وصداع، ومن ثم ندرك كيف سيتحول عشق العجيب إلى إدمان.
شكل السرد في الرواية:
صيغة الرواية في سرد امتاز بالتدفق والسلاسة والانسيابيّة والبساطة والتنوع وتسارع إيقاع.. سرد جاء حافلاً بمفردات من الصور والمواقف والحوارات, تتم فيه عملية انتقال السرد البسيط والسهل للشخصيات من الظاهر إلى الباطن في الغالب وعبر منولوج تتحدث فيه الشخصيات مع ذاتها لتعبر عن قلقها وخوفها وحلمها.
لقد افتقدت الرواية إلى السرد المتتالي أو التسلسلي فكان هناك في السرد القطع والوصل داخل البنية السردية للرواية, مما جعلها لا تسير باتجاه واحد. حيث وجدنا بَالبنية السردية التي ينقلها الراوي مجموعة من السرديات غلب عليها الشكل التناوبي منه حيث يسرد الراوي قصة أولى ثم يذهب للثانية ثم يعود للأولى ثم يذهب لثالثة فيعود للثانية وهكذا، وما يجعل هذا النوع من السرد متاحًا وجود قواسم مشتركة ما بين شخصيات وأحداث تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم.
إن السرديات المختلفة تتوزع على الفصول العديدة التي وصلت إلى (41) عتبة أو محطة, وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، فالمتلقي لا ينتهي من السردية الواحدة مرة واحدة ، وإنما يدخل معها حكايات متنوعة، وينتقل من حكاية إلى أخرى, بالرغم من أن العمود الفقري لكل هذه العتبات أو المحطات واحداً, هو رأس الحسين وظلم يزيد.
الزمان والمكان في الرواية:
لقد ارتبط المكان والزمان هنا, وهو زمن ومكان كربلاء في هذه الرواية برؤية عالم النص وتشكيلاته من الصور والأحداث والشخوص, مما جعل الرواية كاشفة عن أعمق المشاعر الإنسانيّة عبر شخوصها.
لغة الرواية:
لقد جاءت اللغة المتداولة في النص الروائي بسيطة عند شخصيات الرواية بكل انفعالاتها, وبمفردات, وهي تناسب وعي الشخوص وثقافتها, ومن زوايا أخرى تتناسب ومصالحها وهمومها وعواطفها. كما تجلت عبقريّة الروائي في استخدم هذه اللغة بسماتها وخصائصها التي جئنا عليها أعلاه لتشكيل صور إنسانيّة لدوائر تتسع لهموم البشر الصغار وظلم الكبار وفسادهم, داخل فضاء كوني واسع مشبع بالتناقضات والصراعات والمصالح المتناقضة. أي لم ينس العمل الروائي توصيف حكاماً ظلمة قساة الهاهم التكاثر وعم حياتهم الفساد, يقابلها صور أخرى لرعيّة محرومة ومضطهدة ومفقرة تبحث عن الحرية والعدالة ولقمة العيش.
طموح الرواية:
إن كل ما تطمح إليه الرواية هو الخروج عن السائد والشائع والمألوف في عالم عربي متخلف فقدت علاقاته منطقيتها وساد فيها طغاة امتلكتهم شهوة السلطة, فـ :”عبد الله خليفة” يطمح في روايته بكل عجائبيتها بناء علاقة إنسانية أكثر عقلانيّة وإنسانيّة جديدة تتسم بالحريّة والتوازن والسمو والعلو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة وفقر وجوع للمحرومين, وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر, وتتربع فيها العدالة على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك… هو يبحث عن فضاء في عالمنا العربي يكون فيه النقد بيّن والحوار مع الآخر المختلف واحترامه بيّن, وخاص على مستويات الذات والآخر في وجهات النظر. دون أن نغفل الموقف الأيديولوجي بأبعاده الدينيّة الذي يتبناه الروائي. هذا ويظل الأدب ومنه الروائي يشكل الفضاء الذي تتنفس فيه أصداء الشخصيات وتتفتح فيه أبعادها ومحاورها.
الرواية من منشورات الدار العربية للعلوم – ناشرون – منشورات الاختلاف. الجزائر – العاصمة الجزائر – دون تاريخ نشر – تقع في 174 صفحة.
كاتب وباحث من سورية.
d.owaid333d@gmail.com.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- (جريدة وطن برس العراقية العربية في أستراليا عربية مستقلة . الدكتور: عزالدين جلاوجي – الجزائر). بتصرف.
2- (في رواية “رأس الحسين ” للروائي البحريني عبدالله خليفة – جريدة وطن برس العراقية العربية في أستراليا عربية مستقلة – الدكتور: عزالدين جلاوجي – الجزائر.).
3- ( الرواية العجائبية في الأدب المغربي الحديث: دراسة نفسية اجتماعية كتاب للدكتور خالد التوزاني – موقع إيطاليا تلغراف.). بتصرف.