لو كان الجوع رجلا لقتلته، هذه العبارة تُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب، ولكن لم نقف على ذلك في مرجع معتمد أو مصدر موثوق في ما اطلعنا عليه من كتب التاريخ وغيرها. في عام 2018، تم حظر استخدام التجويع كسلاح حرب من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في القرار رقم 2417. وهذا القرار “يدين بشدة تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب التي يحظرها القانون الإنساني الدولي”. ويدين القرار أيضا “الرفض غير القانوني لوصول المساعدات الإنسانية” و”العرقلة المتعمدة لإيصال المساعدات”. سلاح الجوع ليس سلاحا نوويا ولا ذكيا، وليس اختراع اليوم، بل هو أقدم سلاح في الكون، يعود إليه المقاتلون بهدف إضعاف الخصم، ليسهل تحطيم إرادته وتسهيل إبادته.
يصور الكاتب النرويجي كنوت هامسون الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1920 في روايته “الجوع” كيف يتحول الإنسان المُجوّع إلى كائن مكتئب ومنهك، يفتقر إلى القوة والحماس، ممّا يحول دون قدرته على مواجهة التحديات والمخاطر بكفاءة. تُظهِر الرواية كيف يتداخل الجوع مع العوامل النفسية لدى الشخص، مثل الإحباط واليأس، وكيف يتأثر تصرفه وتفكيره بشكل سلبي جدا نتيجة لهذه التجربة القاسية. وفي القرن الخامس الميلادي، كتب الخبير العسكري والفيلسوف الصيني صن تزو عن كيفية استخدام التجويع كتكتيك حرب، لتجويع العدو حتى ييأس من الاستسلام. وبينما تغيرت الجوانب الأخرى للحرب، وانتقلت من الخيل والسيوف إلى الدبابات ثمّ إلى المدافع الرشاشة، يبدو أن طرق استهداف الاحتياجات الأساسية التي تساعد في البقاء على قيد الحياة لا تزال مستخدمة.
الحاجة بنا إلى القول إن إسرائيل نجحت في تجويع سكان قطاع غزة، وكان الهدف من هذه السياسة هو تقويض، لا بل القضاء على، حكم حماس في غزة. بصرف النظر عمّا تقوله بعض القنوات وما تجريه من مقابلات تظهر تماسك المجتمع الغزي، الحال لا يبدو مطمئنا. ثمة أصوات كثيرة تخرج وتندد بحماس، وتحمّلها ما وصلت إليه الأمور في القطاع. فالوضع مختلف عن السابع من أكتوبر، هناك قفزة في تحول تفكير الغزيين، فبعد الحصار الإسرائيلي الذي أدى إلى تزايد الجوع والعطش والمرض، جعل الحركة وتحكمها في مفاصل إدارة غزة على المحك. لهذا تحاول حماس البحث عن بدائل تجعلها باقية في حكم غزة، على أن المؤشرات لا توحي بذلك.
إن الفهم الصائب للحرب الدائرة في قطاع غزة يوصلنا إلى أنها مصيرية بكل المقاييس، وتختلف عن سابقاتها من الحروب التي شهدها القطاع. فكانت إسرائيل تسارع لوقف الهجمات الصاروخية عليها خشية سقوط ضحايا في صفوفها، اليوم الوضع مغاير، فإسرائيل تخوض حربا وجودية، فهي تسير بسرعة الضوء في إثبات وجودها كقوة عالمية مؤثرة في المنطقة، وإعادة تصحيح المسار الذي انحرف عنه شارون عام 2005 عندما انسحب من مستوطنات غزة. إذن المطلوب هو احتلال غزة مجددا وقمع حماس وفرض حلول حسب رؤيتها.
على الرغم من الضباب الداكن والمخيف الذي يلف المنطقة، لا نتوقع حلولا منصفة يفرضها دونالد ترامب تحقق ما تصبو إليه حماس، وأقلها وقف استخدام سلاح الجوع. لا، بالعكس، الحلول التي سيحملها ترامب في جعبته هي نفسها التي في حقيبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لهذا السبب تحاول حركة حماس اليوم الوصول إلى حل يحقق لها شيئا ولو بسيطا، والنجاح في كسر الجوع يعتبر إنجازا. قبل انتهاء فترة بايدن، تأمل حماس بصفقة تلبّي ولو جزءا قليلا من مطلبها، وهذا مستبعد. لا حلول مطروحة على الطاولة ولا تحت الطاولة تلبّي طموحات الحركة.
وفق هذا، تهديد قطر بترحيل قيادة حماس عن أراضيها لم يأتِ من فراغ، لقد أدرك القطريون خطورة المرحلة القادمة، كما أدرك الإيرانيون كذلك. السنوات العجاف الأربع القادمة سنوات إسرائيلية، ستحقق إسرائيل انتصارها على حماس وحزب الله ليس بالقضاء المطلق على الفصائل المسلحة، ولكن من خلال احتلال أجزاء كبيرة من القطاع وتطبيق قرار 1701 بشأن حزب الله. ولا يُستبعد خلال هذه الفترة تنصل طهران من أذرعها في المنطقة.
وهنا يظهر بشكل جلي ما يريده نتنياهو من استخدام سلاح الجوع: القضاء على حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية، ولفظ القاعدة الشعبية لحماس وتجريدها من الدعم والمناصرة التي كانت حماس تحظى بها قبل السابع من أكتوبر، والتأسيس للمرحلة التالية بعد الحرب. وهنا تكمن الخطورة المتمثلة في الهجرة الطوعية بعد انعدام كل مقومات الحياة في غزة.