وجدت بعض الدوائر العربية التي تتعامل بعاطفية شديدة مع الحرب على قطاع غزة ولبنان ضالتها السياسية في بعض التجاذبات التي تجري داخل إسرائيل، وقد تتخذ شكلا من أشكال العنف المحدود بين دينيين وعلمانيين، ما أدى إلى تكهنات وتخمينات وتقديرات تشير إلى إمكانية اندلاع حرب أهلية في إسرائيل، تقضي على هذه الدولة وتخلص المنطقة من شرورها العسكرية وأطماعها الإستراتيجية.
استند هذا الفريق إلى ارتفاع صوت اليمين المتطرف وتبني الحكومة الحالية لغالبية مطالبه في الكثير من القضايا الشائكة، ومحاولة الاستفادة من عناصره لخدمة أغراضها في استمرار الحرب وتوسيع نطاقها واقتطاع أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية.
لكن المنتمين إلى فريق الحالمين بالحرب الأهلية تناسوا في خضم فرحتهم بالتباينات الحادة أن هناك إجماعا على الحرب ضد حركة حماس الفلسطينية وحزب االله اللبناني، وتأييدا للقيادة العسكرية في إسرائيل على توجهاتها الانتقامية، وأن المعارضة السياسية ثبت أن مواقفها لا تختلف كثيرا مع من يشاركون في الحكم بأطيافهم المختلفة، ومن يتوقعون حدوث توترات تعصف بإسرائيل قد يخيب رهانهم ويسقط ظنهم.
ولا تعني الخيبة والسقوط أن من ذهبوا إلى هذا الاستنتاج خضعوا لأمنياتهم وأضغاث أحلامهم، بل لأنهم لا يعرفون أن إسرائيل مجتمع يتغذى على الحروب الخارجية، وإن لم يجدها الإسرائيليون لاخترعوها، حيث تحمي الدولة من الصراعات الداخلية، وتقلل الفجوة بين الإشكيناز (اليهود الغربيين) والسفارديم (اليهود الشرقيين)، إذ يعلم قادتها أن الموزاييك الذي تتشكل منه الدولة العبرية قنبلة موقوتة، وبالتالي من الواجب التعامل معه وفقا لمقومات واستنادا إلى أدوات تحميه من أن يأكل بعضه بعضا.
في أوج الخلافات حول محاكمة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في قضايا فساد وخروج مظاهرات ضده نجح الرجل في لجمها، وطيّ الكثير من تداعياتها السياسية، ولم تعد هذه المسألة مطروحة بقوة على جدول أعمال المجتمع الإسرائيلي وقادته.
كما أن الهوة المتعلقة بتجنيد الحريديم لن تلبث أن تهدأ، وربما تتلاشى من على جدول أعمال بعض القوى العلمانية، لأن ضررها أكبر من نفعها داخل الجيش، وكل الملفات التي يمكن أن تكون سببا لاندلاع حرب أهلية في دولة ما، تجد إسرائيل نفسها أمام واقع يجبرها على معالجتها واحتوائها بالصورة التي تبعد شبح الحرب الداخلية، فإذا اندلعت سوف تقضي على إسرائيل، ولن يكون فيها طرف منتصر وآخر خاسر.
ناهيك عن أن الدول الغربية التي تسهم في إشعال بعض الحروب الأهلية في دول عدة أو تصمت عنها أو تتقاعس عن إطفائها، لن تسمح بحرق المجتمع الإسرائيلي، أو تقبل باقتتاله، أو ترك الساحة تصل إلى هذا المربع أصلا الذي يهدم الكثير من الخطط التي قامت على إسرائيل، لأنها جزء من ضوابط الأمن الأميركي في المنطقة، والمساس بها من الخارج أو الداخل خط أحمر غير مسموح بتجاوزه.
لعل الدعم اللامحدود الذي حظيت ولا تزال تحظى به إسرائيل من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية في حربي غزة ولبنان يكشف إلى أي مدى أن خيار الحرب الأهلية غير مطروح للمناقشة، لأنه سيحرق إسرائيل، وعددا من الدول التي تدعمها وعملت على مساعدتها لتحقيق أهدافها في المنطقة، ما يفسر التغاضي عن الكثير من تصرفات المتطرفين، والعقوبات التي وقّعتها دولة غربية أو أكثر ضدهم لا تتعدى كونها ذرا للرماد في العيون، حيث لا تمس الهيكل الرئيسي للإجراءات الخرقاء في الأراضي المحتلة، أو تُوقع ضررا كبيرا بالمتشددين، أو حتى تصب في صالح الطرف المقابل لهم، والذي كشفت الحرب على غزة أن الجميع يتعامل بصرامة مع كل السياسات التي تنهك الشعب الفلسطيني، لا فرق بين متشددين ومعتدلين.
انتهت ظاهرة الازدواجية في المجتمع الإسرائيلي خلال العقدين الماضيين، وجاء الطوفان الذي تقوم به قوات الاحتلال على أكثر من جبهة عربية ليعزز التوقعات باختفاء جناح الحمائم، والذي كان جزءا من عملية السلام التي قبلت إسرائيل الدخول فيها مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، واختفاء صوت هذا الجناح أو تواريه الفترة الماضية يؤكد أن المتطرفين لهم الغلبة للتحكم في مفاصل القرار، لكن تطرفهم لن يصل بهم إلى حد تدمير إسرائيل وتهيئة الأجواء أمام نشوب حرب تقضي على أحلامهم الدينية في السيطرة على مناطق عدة بالمنطقة.
قد تكون توليفة الحرب الأهلية كامنة داخل المجتمع الإسرائيلي منذ عقود، فهو يتشكل من طبقات وشرائح وفئات وجنسيات متناثرة، جاءت من مناطق شتى ولا يوجد انسجام بينها، لكن ما يوحدها هو العقيدة الدينية والسرديات السياسية الراسخة في الوجدان العام، والتي تتزايد ملامحها باعتبارها الأداة التي تعصم المجتمع من التفكك والانهيار، وتمنع تحويل الخلافات إلى أزمات تعصف بالداخل، وقد أجاد التعامل بها مع الفلسطينيين.
يمثل نجاح نتنياهو في تخطي العقبات الكثيرة التي واجهها على مدار العام الماضي واحدة من الوصفات التي تفسر لماذا يبدو خيار الحرب الأهلية مستبعدا، وكلما لاحت في الأفق ملامح توحي بأنه أصبح قريبا جرى التخلص من العوامل التي يمكن أن تجعله داهما، وهذه عملية مرت بها إسرائيل على مدار سنوات طويلة، منذ نشأتها رسميا والفترة التي سبقتها وما حفلت به من حروب عصابات، إذ كان المجتمع متنافرا وكل دواعي الحرب متوافرة داخله وقابلة للاشتعال، إلا أن قادة إسرائيل كانوا يتمكنون من تخطي المطبات، وتعود الدولة أكثر تماسكا.
من يراقب الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل مع المجتمع الدولي، حكومة وشعبا، وقدرتها على امتصاص الغضب المحيط بها والتعامل مع المنظمات الدولية بخشونة واستخفاف أحيانا يتأكد أنها مسنودة خارجيا، ما يعني عدم السماح بحدوث تفسخ داخلي يؤدي إلى نزاعات أهلية بين مكونات دينية واجتماعية وسياسية متعددة.
ولذلك كلما اقترب مشهد الخلافات من وصوله إلى حافة الهاوية أو بلوغه الذروة وجد من يقوم بتحجيمه، وفقا للمصالح المشتركة وخوفا من المصير الغامض، ما يعزز التقديرات بأن الاستقطابات الحادة ليس بالضرورة سوف تفضي إلى اشتباكات مباشرة، بين طرفين أو أكثر، ناهيك عن قدرة إسرائيل الفائقة على كبح الأقلية العربية – الفلسطينية بالداخل، التي يصبح الخوف منها كبيرا في المحكات الرئيسية خوفا من انفجارها، وما يترتب عنه من التحامات تنذر بوضع نواة لحرب أهلية من نوع آخر.
من ينتظرون نشوب حرب أهلية في إسرائيل عليهم إعادة النظر في رهانهم، فمهما تباعدت المسافات بين مكوناتها، أو زادت الهجرة منها، وتضاعف نفوذ المتطرفين، فهناك حد أقصى لن يسمح قادتها في الداخل ومن يقدّمون لهم الدعم في الخارج الوصول إلى مرحلة الاقتتال الأهلي، ففي اللحظة التي يحدث فيها ذلك سوف يبدأ العد التنازلي لانتهاء نفوذ إسرائيل، بينما تشي التطورات الراهنة بأنها ستشهد المزيد منه.