مات الجولاني… وُلِد الشرع

بيار عقيقي

إذا كان من شيء يُمكن إطلاقه على “غرابة” المشهد السوري في الأيام الماضية، فهو حملة “العلاقات العامّة” التي يقودها أحمد الشرع. نعم الشرع، المعروف بأبو محمّد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). في تحرّر الرجل من لقبه بعد دخول قواته مدينة حماة السورية، الخميس الماضي، لحظة تخلّ أو قتلٍ لماضٍ ناهز العقدَين، من رحلة عراقية في هامش أبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي، وسجون أميركية في العراق، وظهور خجول في زوايا محافظة إدلب السورية، إلى ساعة الصفر للتمدّد خارج إدلب باتجاه حلب وحماة، ولاحقاً دمشق، إذا ظلّت وتيرة العمليات العسكرية على هذا المنوال. هي لحظة تؤكّد فيها الطبيعة رفضها الفراغ، وإذا كان أبو محمد الجولاني مرافقاً، كما اسم هيئة تحرير الشام، لجرائم وانتهاكات، فلا بدّ من قتل هذا اللقب للعودة إلى ما هو مكتوب في الهُويَّة منذ عام 1982: أحمد الشرع.

انضمّ الشرع أيضاً إلى كوكبة من قياديي هذا العالم المدركين أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً أن مسيرته بعد عام 2011 على وجه التحديد، يُمكن وصمها بـ”البراغماتية”، إذ عمد إلى تبديل تحالفاته بصورة مصغّرة عن الزعيم الأفغاني عبد الرشيد دوستم. وعلى الرغم من أن صوره والفيديوهات المنشورة تُظهِر شخصيةً يريد إبرازها، إلا أنها في المقابل تحكي كثيراً عن نياته الفعلية. قد تكون السنوات الخمس في السجون الأميركية من العوامل التي صنعت من الجولاني ـ الشرع إنساناً يسعى إلى استثمار اللحظويات، حتى تخلو الطريق أمامه. وتحت اسم أبو محمد الجولاني، راقب تهاوي أمراء تنظيم داعش، الواحد تلو الآخر، وتحوّل التنظيم خلايا متفرّقةً وموزّعةً في البادية السورية والصحراء العراقية. لاحقاً، عمل على ابتلاع الفصائل السورية في إدلب، وصولاً إلى قمعه أيَّ احتجاج ضدّ هيئة تحرير الشام. هدأ الوضع بعض الشيء بين عامي 2023 و2024، فلا بدّ من خطوة ما بعد الاستقرار النسبي.

لم يأتِ الجولاني ـ الشرع بجديد حين قرّر خوض معركة حلب، لكن الجديد كان قدرته في الحدّ الأدنى على إقناع باقي الفصائل بخوض المعارك معه، وبالحدّ الأقصى تحوّل “الهيئة” إلى الفصيل الأقوى في الشمال السوري على حساب الجميع، بما يُجبر الآخرين على مواكبته في خطواته. وفي براغماتيته، خرج من قلعة حلب، للتذكير بدور صلاح الدين الأيوبي في فتح المدينة، وفي إضافة منشآت إلى القلعة. تصرّف كأبو محمد الجولاني. لكنّه في رسالة موجّهة إلى سكّان حلب، المسيحيين خصوصاً، بدا أحمد الشرع وكأنه حارس لدولة مدنية، بل طبيب يحاول إطاحة طبيب آخرَ في دمشق.

بعد إحكام السيطرة على إدلب وحلب، بدت معركة حماة فاصلةً، أو بالمعنى العسكري خطّ التماس الجديد في سورية. لم يدم الأمر طويلاً، بمعزل عن حسابات الروس والإيرانيين والأتراك والأميركيين. الواقع أن زخم تقدّم الفصائل، ومعهم الجولاني، لم يخبُ، بل ازداد اندفاعاً، وهو ما منح الشرع الفرصة للتوجّه إلى العراق والسفارات الأجنبية بما معناه أنه لا يريد قتال أحد خارجي. ومفكراً استراتيجياً يؤكّد أن انتقال الحرب إلى العراق هو “وهم”. في كلامه توكيد على أن ما حصل من تمدّد لـ”داعش” في عام 2014، لن يتكرّر معه. لا يريد الشرع إسقاط الحدود القومية، ولا تغيير أنظمة، بل “تحقيق التغيير في سورية” فقط.

الخميس الماضي، أنهى قائد “تحرير الشام” رحلة أبو محمد الجولاني، ليبدأ مسار أحمد الشرع. لا يجب على أحد أن يفاجأ إذا تحدّث لاحقاً بلغة أكثر “مدنية”، أو دعا إلى “التعاون بين الدول الإقليمية”. لن يكون صعباً التخيّل أنه سيرتدي ثياباً مدنيةً مشروعَ رئيس لسورية المستقبلية، حسبما يوحي في رسائله وبياناته المتلاحقة. ما فعله الجولاني منذ بدء معركة حلب هو أنه قتل شخصاً قديماً بداخله، ليقوم آخر غريب على قدر غرابة الأيّام السورية.

العربي الجديد

شاهد أيضاً