القرار الإسرائيلي أكثر من واضح: ضرب كل قدرات الجيش السوري الوازنة. دلّ على هذا الوضوح أن أكثر من مائة اعتداءٍ على مستودعات صواريخ متطوّرة وأنظمة دفاع جوي ومواقع أسلحة كيميائية، شنّها جيش الاحتلال، نهار أول من أمس ومساءه والليلة التالية، في أرياف القنيطرة ودرعا ودمشق، كما استهدف قاعدة عسكرية قرب السويداء، ساعاتٍ بعد الإغارة على موقع قرب مطار المزّة العسكري، وذلك كله بالتزامن مع احتلال أراضٍ سوريةٍ حدودية مع فلسطين، وإعلان نتنياهو “انهيار” اتفاق فضّ الاشتباك الموقّع بين سورية وإسرائيل في 1974. وذاع أمس أن وزير الحرب كاتس أمر “بإنشاء مجال أمني في سورية خال من الأسلحة الإستراتيجية الثقيلة والبنى التحتية التي تهدّد دولة الاحتلال”. وليس من معنىً لكل هذه الشهية لدى دولة الاحتلال للعدوان المتتالي على سورية، فور سقوط نظام بشّار الأسد، سوى أنها دلالةٌ مؤكّدةٌ على أن الذئب الإسرائيلي لن يترُك هذا البلد المدمّى، المُنهك، في أمنٍ وأمان، لن يجعل السوريين يمضون إلى إعادة بناء الجيش القوي القادر، لن يتركَهم ينهضون في دولةٍ لهم منيعة. وكان صحيحاً تماماً أن سورية ضعيفة مفكّكة اجتماعياً مهتزّة أمنيا ينهشها الفساد والخوف والتدليس القومجي والمجوّفة عسكرياً هي ما ترتاح إليها إسرائيل. ولذلك ظلت غبطتها كبيرة ببقاء بشّار الأسد الذي صيّر نظامُه المخلّع سورية، المفخّخة بكل أسباب الاهتراء، أضعف من بيت العنكبوت. ولا يضرب واحدُنا في الرمل لو يقول إنها غير مسرورة أبداً بنجاح الثورة السورية وإنهائها حكم آل الأسد.
لم تُسمع من البيت الأبيض والخارجية الأميركية أي كلمة رفضٍ لكل هذه الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي والمقدّرات السورية، ولا من أيٍّ من الدول الأوروبية التي أعلنت ترقبّها عملية انتقالٍ سياسيٍّ منظّم في سورية تستجيب لتطلعات شعب هذا البلد. وكان الأدْعى، أو الأوجب، من الولايات المتحدة والغرب أن يُطلب من دولة الاحتلال التوقّف عن استضعاف سورية، سيما وأنها في ظرفٍ شديد الحساسية، وبلا سلطةٍ واضحة المعالم، وتحتاج وقتاً كافياً للتعافي من جروح عميقة فيها. إذا كان الكلام الأميركي والأوروبي صادقاً، كما يلزم أن يكون الصدق، فإن أصحابه مدعوون إلى أن يُبادروا إلى هذه المطالبة. ولافتٌ في البيان الذي تلاه الرئيس جو بايدن بشأن سورية الليلة قبل الماضية أنه فيما هجا نظام الأسد البائد، لم يجد في إسقاط هذا النظام سوى “فرصة للشعب السوري لبناء السلام في بلده ومنطقة الشرق الأوسط”. ومع إعلانه استعداد واشنطن للعمل مع “جميع المجموعات السورية” من أجل إرساء مرحلة انتقالية، ركّز حديثه على عدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية لبناء قدراته ولتحويل سورية ملاذاً آمناً له. وتجيز هذه التعبيرات الارتياب في أولويات واشنطن في سورية الجديدة، فلا يُعتقد هنا أن الديمقراطية الحقّة في مقدّمة هذه الأولويات.
وإذا كانت السطور أعلاه قد تعلقت بالذئب الإسرائيلي وبتواطؤٍ أميركي معه، فإن الإتيان على موضوعهما لا يكتمل من دون التساؤل عن غياب صوتٍ سوريٍّ في الأثناء. ليس فقط لغياب سلطةٍ انتقاليةٍ واضحةٍ في دمشق، وإنما لأن هناك تأخّراً في تظهير واجهةٍ مدنيةٍ سياسيةٍ، مفوّضةٍ من قوى الثورة، تتولّى مخاطبة العالم. والمأمول أن يتجاوز الأشقاء السوريون ارتباك لحظات الفرح والمفاجأة إلى التسريع بتشكيل الهيئة، أو التشكيلة السياسية، الحكومية، يتأهّل منها متحدّثٌ باسم سورية الانتقالية، فيعلن ما تطلبُه دمشق من العالم، من دول الجوار العربية، من تركيا وإيران، من جامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومنظمّة المؤتمر الإسلامي، ويلحّ على حاجة الدولة الجديدة إلى عوْن دولي وعربي عريضيْن، وعلى استقلال سورية الموحّدة الواحدة واحترام سيادتها وإرادتها، وعلى أن تتوقّف إسرائيل عن استباحتها مقدّرات البلاد ومنشآتها وإمكاناتها العسكرية والتسليحية، وعلى أن سورية تتطلّع إلى تحرير جزءٍ غالٍ من أرضها، الجولان المحتل.
مؤكّدٌ أن اللحظة السورية الراهنة مثقلة بالآمال والطموحات، وأن الفخاخ والتحدّيات (والمؤامرات، لم لا؟) ستكون مهولة، والذئب الإسرائيلي يستعجل إعلان أغراضه، ومباشرة استهدافاته سوريةً واعدة، سورية ديمقراطية قوية.