بعد قفزة ماسك الشهيرة وتحوله لداعم أساسي لجهود ترامب في استعادة البيت الأبيض في انتخابات 2024، أعلن إيلون ماسك أغنى رجل في العالم، أن هناك الكثير من رجال المال والأعمال وأقطاب التكنولوجيا سيتخذون نفس نهجه ويعلنون دعمهم لترامب، وكان كل ما يمنعهم هو الخشية من الغضب الديمقراطي ورد فعلهم، خصوصا أنهم يهيمنون على الكونغرس والمؤسسات الفيدرالية الأميركية والإعلام وغيرها.
وعندما انتصر ترامب كان هناك توقع أن تتوسع الحاضنة الشعبية له خصوصا من قبل قادة المال والأعمال الذين سيلعبون دورا كبيرا في إدارته، وهو ما حدث بالفعل، لكن أن يصل الحد إلى التبرع لحفل تنصيب ترامب رغم مواقفهم العدائية السابقة، فهذا قرار أثار الكثير من الحيرة والجدل، خصوصا على الجانب الديمقراطي الذي كان صندوقا أساسياً ووعاء لهذه التبرعات.
ولقد شاهدنا كيف أعلنت كل من شركة أمازون وميتا عن تبرعات بقيمة مليون دولار لكل منهما لصندوق تنصيب دونالد ترامب لفترة ولايته القادمة التي تبدأ في يناير 2025، وكيف اجتمع الرئيس التنفيذي لشركة آبل تيم كوك بترامب في منتجعه في فلوريدا وغيرها من التحركات!
وما حير المتابعين هي خطوة التبرعات التي جاءت بعد فترة من تبادل الانتقادات العامة والقاسية، خصوصا من ترامب تجاه هذه الشركات خلال فترة ولايته الأولى حتى وصل به الحد إلى التهديد بمحاكمتهم وإعاقة أعمالهم المالية إذا تولى السلطة.
وتاريخيا العداء بين ترامب وجيف بيزوس مالك أمازون معلوم للجميع، واستهدف ترامب بشكل خاص جيف بيزوس، الذي يمتلك أيضًا صحيفة “واشنطن بوست” المعادية لترامب. واتهم ترامب “أمازون” بعدم دفع رسوم بريدية كافية، وأشار إلى صحيفة “واشنطن بوست” إلى أنها أداة ضغط لصالح “أمازون” ودعا لمحاسبتها.
وعلى الرغم من هذه الاتهامات، أظهر جيف بيزوس مؤخرًا نهجًا أكثر تصالحية، حتى إنه منع صحيفة “واشنطن بوست” من تأييد كامالا هاريس مرشحة الديمقراطيين في انتخابات 2024، وهو ما اعتبره البعض بمثابة غصن زيتون لترامب وليس له علاقة بموقف الصحيفة وتلاشي تأثيرها. وسوف يجتمع معه في منتجع مارلاغو في ولاية فلوريدا لإعلان ولائه التام للرئيس المقبل.
أما مارك زوكربيرغ مالك ميتا (المعروفة سابقًا باسم فيسبوك) فقد واجه تدقيقًا وتهديدا كبيرًا من ترامب خلال ولايته الأولى، حيث اتهم ترامب “ميتا” بفرض الرقابة على الأصوات المحافظة، ووصف ميتا بأنها “عدو الشعب” لينهي فترة رئاسته الأولى محظورا من دخول المنصة. واقترح بعد ذلك اتخاذ إجراء قانوني ضد زوكربيرغ بسبب التدخل المزعوم في الانتخابات في عام 2020. لكن ذلك قد تبدل، فبعد محاولة اغتيال ترامب أشاد به وامتدحه كثيرا، وبعد فوزه التقى زوكربيرغ بترامب، وأعلن عن تبرعه بمبلغ مليون دولار معلنا تأييده لخططه الإصلاحية المقبلة.
وقد يسأل البعض: ما أهمية هذه التبرعات؟
وفي الحقيقة أنها الأولى من نوعها من قبل هذه الشركات لصالح ترامب، وقد تطرح تساؤلا أعمق: هل ما يحدث بداية لتحالف أوسع وأكبر أم أن ما حدث هو محاولة تحوط جديدة ضد المخاوف من انتقام ترامب في ولايته المقبلة ضد خصومه، وهو أمر تتحدث عنه وسائل الإعلام بكثرة هذه الأيام.
المراقبون يعتبرون أن هذه التبرعات قد تكون استراتيجية جديدة، وتهدف إلى تعزيز البيئة التنظيمية والحماية لهذه الشركات في ظل إدارة ترامب، خصوصا أن شركة أبل تعرضت لغرامة من الاتحاد الأوربي بـ15 مليار دولار وتحتاج ترامب لحلها. وعلى سبيل المثال، أعرب بيزوس عن تفاؤله بشأن سياسات تحرير القيود التنظيمية التي سينتهجها ترامب، والتي قد تفيد العمليات التجارية لشركة أمازون.
وبشكل عام غالبًا ما تأتي التبرعات رفيعة المستوى مصحوبة بوعد الوصول أو التأثير على الإدارة القادمة، مما قد يؤثر على السياسات أو القرارات التنظيمية في قطاعات التكنولوجيا لصالح هذه الشركات وتفضيلها عن غيرها وحتى حمايتها من الغرامات الضخمة.
وبمعنى أدق قد تتحول الإدارة الأميركية إلى منظمة ميسرة ومسهلة لهذه الشركات وقادتها أمام البيروقراطية العملاقة في أميركا وخارجها، وهذا يطرح سؤالا مهما أيضا من يخدم من؟ هل الإدارة ستكون أسيرة لهذه الشركات أم أن هذه الشركات الكبرى هي في خدمة الإدارة؟
وفي الحقيقة قد يُنظر إلى التحول من الانتقاد إلى الدعم ثم التبرع باعتباره استراتيجية عملية حيث تحاول شركات التكنولوجيا العملاقة تأمين مصالحها من خلال التحالف مع القوة السياسية القادمة بدلاً من معارضتها. وهذا ليس بالأمر غير المعتاد في جمع التبرعات السياسية حيث تسعى هذه الشركات غالبا إلى كسب ود السياسيين المؤثرين داخل أميركا.
وقد يزعم المنتقدون أن هذه الخطوة التي اتخذها قادة التكنولوجيا مثل بيزوس وزوكربيرغ انتهازية، وتسلط الضوء على الانفصال بين مواقفهم العامة بشأن قضايا مثل الديمقراطية وحرية التعبير مقابل مصالحهم التجارية.
وفي ظني أن هذه الشركات الكبرى تبحث عن حماية مصالحها وتعزيزها كما فعل إيلون ماسك رغم المخاطر المحتملة خصوصا في هذا المناخ الانقسامي الحاد داخل أميركا، وليس هناك خيار لدى هذه الشركات إلا تأمين مصالحها بعيدا عن الصوابية السياسية التي يرفعها الديمقراطيون اليوم.
والحقيقة أن الكثيرين يرون تبرعات رجال الأعمال والشركات للسياسيين قضية كبيرة وتحتاج إلى مراقبة لحظية، خصوصا أن نشهد بداية تحول واضح داخل الحزب الجمهوري الذي أصبح ملجأ للنخب السياسية والاقتصادية الأميركية بعد انتصار ترامب الساحق والتي ربما تعتقد هذه النخب أن الحزب الديمقراطي لم يعد ذا صلة بالناخبين.
ومعلوم أن هذه التبرعات ومن خلفها تساهم جزئيا في تشكيل السياسة الأميركية داخليا وخارجيا، وهي قضية متشابكة بين الأعمال والعلاقات الشخصية، لكن عادة ما يتم وضع العداوات الماضية جانبًا بين الخصوم السياسيين لتحقيق مكاسب مستقبلية.
وما يحدث من كبار صناع التكنولوجيا ليس بعيدا عن هذا المفهوم حيث يبدو أن هذه النخبة، والتي غالبًا ما تكون في طليعة النقاشات السياسية اليوم، تتنقل في المشهد السياسي ما بين الديمقراطيين والجمهوريين بهدف واحد وهو تأمين مكانها في أجندة الإدارة الجديدة أيا كان توجهها.