لماذا تنهار الجيوش العربية بهذه السهولة

توفيق رباحي

السياسي – أثناء انتهاء حرب تحرير الكويت في بداية عام 1991، وعودة ما تبقى من الجيش العراقي إلى بلاده منتكسا، شاهد جندي من العائدين، وهو أدرى بحجم النكبة، الحشود في حالة هستيريا تحتفل وتهتف بحياة صدام حسين، فبدأ يلطم ويكرر: يا ويلي على أمريكا مسكينة، يا ويلي على أمريكا مسكينة! سحبته المخابرات إلى أحد فروعها وسألته عن سر حسرته على أمريكا. قال: إذا احنا انتصرنا وصار فينا هيج، شلون أمريكا! (إذا نحن المنتصرون وتكبدنا كل هذا فكيف حال أمريكا؟).
تختزل هذه النكتة واقعا مؤلما انتهت إليه الجيوش العربية: منتكسة في الواقع ومنتصرة مزهوة في الشعارات والدعاية الرسمية.
بعد مرور عقدين ونيّف من تلك النكسة، في صيف 2014، وجد الجيش العراقي نفسه في موقف مشابه وهو يسلِّم مدينة الموصل العريقة ومناطق شاسعة من العراق لتنظيم «داعش» من دون قتال. الاستسلام هذه المرة كان برعاية رئيس الوزراء نوري المالكي وزمرته من الطائفيين الفاسدين.
وفي 2011 ذاب ما كان يسمى الجيش الليبي واختفى قبل بداية معركة سقوط نظام القذافي ومعه ليبيا كلها.
اليوم سلَّم الجيش السوري البلاد لفصائل معارضة قدمت من الشمال كأنها في نزهة سياحية.
يعطي الواقع العسكري العربي الانطباع بأن الجيوش العربية خارج الخدمة رغم أنها موجودة ومدجّجة بالأسلحة وبالعنصر البشري، وصدور قادتها مثقلة بالنياشين والأوسمة.
فلماذا تستسلم هذه الجيوش بهذه السهولة؟ خلال العقود الثلاثة الأخيرة تغيّر العالم كثيرا. أبرز معالم التغيير كانت نهاية الحروب النظامية وبروز أشكال أخرى من الحروب والأعداء. آخر حرب نظامية خاضها جيش عربي كانت الحرب العراقية الإيرانية التي انتهت في صيف 1988 بحصيلة كارثية. كانت المنطقة العربية من الفضاءات الأكثر تأثرا بالتغييرات. كان نصيبها التغيير نحو الأسوأ وغالبا ما كانت الحروب والصراعات الدموية أبرز أدواته، فوجدت الجيوش العربية نفسها طرفا أساسيا في تلك الدوامة.
ترافق التغيير مع متاعب اقتصادية ترتب عنها قلّة التدريب وغياب العقيدة وتراجع ثقة الشعوب في مؤسسات الحكم ومن ضمنها الجيوش. في المقابل تنامت بين مكونات أجهزة الحكم ثقة عمياء في الجيوش وقوى الأمن وإيمانا بقدرتها على فرض الحلول.
هنا تكشّفت عيوب الجيوش العربية وتبيّن أن إحدى أكبر معضلاتها عجزها عن التعامل مع الصراعات غير التقليدية التي فُرضت عليها (أو اختارت هي خوضها). أصبح على كاهل هذه الجيوش أن تقاتل «عدوا داخليا» تارة معارضة مدنية سلمية، تارة تنظيمات جهادية وتارة ثالثة خليط من الإرهاب والتهريب.. وهكذا. فكان الفشل الذريع.
تُرجم الفشل في التكيّف مع الواقع الجديد في هذا: لا استطاعت الجيوش تقبّل مطالب التغيير الديمقراطي السلمي، ولا اكتفت بالبقاء على الحياد عندما تعلّق الأمر بهذه المطالب، ولا خاضت القتال بنجاح عندما زُجَّ بها في حروب ضد فصائل وتنظيمات مسلّحة.
لو تسأل ضابطا عربيا سيرد بأن جيشه ضحية وبأنه دُفع إلى الواجهة ليكنس وسخ المدنيين ويصحح تقصيرهم ويرتب فوضاهم. طبعا هذه مزاعم مبالغ فيها، لكن الإنصاف يتطلب الإقرار بأن حالة الوهن التي مسّت الجيوش العربية ليست معزولة، وإنما انعكاس لصورة أكبر لانتكاسة الدول العربية على كل الأصعدة. فمن غير المنطقي أن يفشل السياسيون العرب ويغرقوا في ارتكاب المظالم والفساد ثم ينتظر الناس من الجيوش أن تكون مثالية ناصعة البياض.
لكن لأن الجيوش العربية هي ما هي بما تمتلك من قوة وتقديس ورمزية، من الطبيعي أن يُسلّط عليها الضوء أكثر وتأخذ مسؤوليتها حجما أكبر من الآخرين. كما أن استيلاءها على الكثير من الأدوار في الحياة العامة يجعلها المادة المفضلة في أي نقاش عن مسؤولية الإخفاقات، وتنال النصيب الأكبر من العتب والاتهام.
انهيار الجيش السوري في الأسابيع الماضية من حجم فساد قادته وفشلهم (الجزاء من جنس العمل). صُدم وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي من عجز الجيش السوري عن التصدي للمعارضة. وعندما زار الأسد في الأيام القليلة التي سبقت الهروب وجده منقطعا عن الواقع عاجزا عن تقديم أجوبة مقنعة عن هروب الجيش في حلب وحماة.

الحقيقة أن الجيش السوري نفّذ في تلك الأسابيع التاريخية مهمة مؤجلة منذ 2012. لقد تأخر انهيار نظام الأسد وتسليم دمشق اثنتي عشرة سنة بفضل إيران وحزب الله وسلاح الجو الروسي، وليس بفضل أداء الجيش.
اليوم وقد احتاجت إيران إلى مراجعة أوراقها ووهن حزب الله وأعادت روسيا حساباتها، أدرك الجيش السوري أنه لا يملك إلا تسليم «الأمانة» كما كان من المفروض أن يفعل في 2012. لذلك أخلى المقرات العسكرية بأسرارها وعتادها مثل فوج سياحي يُخلي غرفه الفندقية بعد انتهاء مدة الحجز، وغادر حتى قبل أن يصل العدو متخليا عن مدنيين لطالما أجبرهم على الهتاف له ولقائده.
كان هروبا مُذلاًّ لا يضاهيه في الذل إلا هروب بشار الأسد نفسه. من أكثر ما شوهد على الأوتوستراد الدولي حلب ـ دمشق في تلك الأيام، المعدات والألبسة والأكسسوارات العسكرية التي تخلى عنها الجنود والضباط في هروبهم.
تخلّى الأسد عن جيشه فردَّ له (الجيش) الكرة بما يليق به. لم يهرب الجنود والضباط لأنهم جبناء، ولكن لأنهم فقدوا الثقة في رئيسهم وفي قادتهم الذين زجّوا بهم في حرب عبثية ضد إخوانهم وأبناء وطنهم. هربوا لأن الأسد حوّل جيشه إلى ميليشيا بلا روح ومجردة من أيّ عقيدة أو رغبة في القتال.
وحوّل جنوده إلى غرباء في وطنهم يأتمرون بأوامر الضباط الروس، يسخر منهم المستشارون الإيرانيون ويزدريهم مقاتلو حزب الله.
كان الانهيار نفسيا وأخلاقيا قبل أن يكون عسكريا. وهو طبيعي جدا في جيش تفعل العائلات المستحيل لمنع أبنائها من التجنيد الإجباري فيه ولا يزيد راتب ضباطه عن 40 دولارا في الشهر.
ونتيجة منطقية وحتمية للقطيعة بين الجندي والقائد الأعلى ولتحميل الجيش أكثر مما يتحمّل: هذا ما يحدث عندما يُجبَر جنود وضباط على الهتاف «بالروح وبالدم نفديك يا بشار» وليس «.. نفديك يا سوريا» وعندما يُدفع الجندي إلى تصديق أن الدفاع عن الطائفة والعشيرة أهم من حماية سوريا الدولة.
من المؤسف أنه لا يوجد ما يدعو للتفاؤل بأن الجيوش العربية الأخرى ستكون في وضع أفضل إذا ما تعرّضت لامتحانات مماثلة لامتحانات الجيش السوري (والعراقي). طالما لا يزال سياسيون وقادة عرب مصممين على الوقوف في وجه قطار التغيير، يؤمنون بأن الأسد صمد 13 سنة لأنه «شاطر» ويستقبلونه بالأحضان دون حدس سياسي وبلا قدرة على قراءة سليمة للمستقبل، فمن الصعب أن تكون هناك فسحة أمل.

شاهد أيضاً