تُنشئ السّياسة المذاهب عند اقترانها بالدِّين، لكنْ بتعاقب الزَّمن، تنسحب وتبقى العقيدة الدّينيَّة خالصة، وبين حين وآخر يُستغل المذهب مِن قبل السَّاسة المنتمين إليه، هذا ما حصل مع النُّصيريَّة بسوريّة، فقد نشأت في ذروة الخلاف على الإمامة، وتمددت إلى الشّام، ثم بدت أنّها الحاكمة، مِن مركزها «القرداحة» حيث اللاذقيَّة، لكنَّ الحقيقةَ أنَّ الطَّوائف لا تحكم، إنما تُستغل للحُكم.
انشقت النّصيريّة عن الإماميّة، لحظة وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكريّ (260 هـ) بسامراء، يومها افترقت الإماميَّة ثلاثاً: 1- الاثنا عشريَّة، القائلون بوجود وريث له اسمه محمَّد، فنادوا به مهدياً، وغاب ولم يره أحد، وكان عمره خمسة أعوام، وصاروا إلى السُّفراء الأربعة، الذين تولوا الاتصال بينه وبين الأتباع حتى غيبته الكبرى (329 هـ) إلى يومنا هذا، 2- جماعة التفوا حول أخيه جعفر وانتهوا بوفاته، وأشير إليه بالكذاب مِن قِبل القائلين بولدٍ للعسكري، 3- جماعة انتظموا وراء المدعي بنيابته محمّد بن نُصير النّميري (ت: 270 هـ)، وهؤلاء النّصيرية، وأشير إليهم بالنّميريَّة (الأشعري، مقالات الإسلاميين)، وحينها خرج آخرون مدعين النيابة، فعدوا كذابين (الطُّوسيّ، كتاب الغيبة).
تمددت النُّصيرية إلى الشّام، ولها وجود بحمص (الحموي، معجم البلدان)، وبسببِ الحروبِ والاضطهادات تحصنوا بالجبال، حيث الساحل السّوريّ، والقرداحة، مسقط رأس الحاكمين، من مراكزهم، فأنشأ لهم الفرنسيون دولة «جبال العلويين» (1920 – 1936)، غير أنها سنوات والتحموا بوطنهم السُّوري، ويدعون بفرض اسم النُّصيرية عليهم، وإلا اسمهم القديم العلويَّة (الطويل، تاريخ العلويين). يصعب أخذ التسمية الأخيرة بنظر الاعتبار، لأنّ العلويَّة نسبة عامة، وهم عرفوا بها مِن قِبل الفرنسيين.
أُخذت الطَّوائف بجرائر السُّلطات، عندما أشار الغرب إلى النِّظام العراقي السَّابق بالسُّنَّي، فالمتلقي يفهم الحكم كان سُنياً، مع أنَّ الغرب كان يتعامل مع معارضين سُنيين أيضاً. كذلك لا ننسى أنَّ أول رجل دين قُتل هو الشَّيخ عبدالعزيز البدري (1969) السُّنيّ، أي مِن مذهب الرَّئيس نفسه.
مَن يصل إلى السُّلطة يحاول الاِعتماد على الأقربين مِن أبناء طائفته، لكنْ ليس صحيحاً أنّ يُشار إلى حزب البعث العراقيّ أنَّه سُني، وحزب البعث السُّوريّ أنَّه نُصيريّ. هذا ليس كلاماً جاداً، ولا أدري كيف يمر على أهل الأكاديميات.
إنَّ خطورة هذا التَّأويل، يهتك المجتمع المتنوع، ويقود إلى ضغائن ضد طائفة كاملة، منها مَن صار ضحية للنِّظام، والشَّاهد أنَّ صلاح جديد النُّصيريّ مات مسجوناً (1993) بعد ثلاثة وعشرين سنةً مِن قِبل حاكم نُصيريّ.
أرى وجوب التَّحذير مِن هذه الثَّقافة، التي جعلت المواطن العِراقيّ السُّنَّي متهماً، بجريرة النِّظام السَّابق، بل وأخذت تُحسب عليه ممارسات القاعدة وأخواتها، وكأن ليس هناك مقاتل جماعية بالأنبار، وتكريت، وديالى، والموصل، وسامراء بعد أبريل (نيسان) 2003، وتصفيات لغير المرغوب فيهم، مِن قبل تلك الجماعات.
أرى الاحتراس مِن المزج العشوائي، بين الطَّوائف والأنظمة، التي تُقاد مِن قِبل المنتسبين إليها، الشَّيء نفسه جرى بالعراق، بعد (2003)، أُخذ يُشار إلى الشِّيعة بأنَّها الحاكمة، بينما الأمر ليس كذلك، فالمئات من الشِّيعة قتلتهم جماعات شيعيَّة، فلا تؤخذ النّصيرية بجريرة الحُكم، كون الحاكم نُصيريّاً.
بدأت النُّصيريَّة مِن سامراء وانتهت بقرداحة، غلبت عليها التقاليد الصُّوفية، مع محاولات العودة إلى الاثني عشرية في عباداتها ومعاملاتها (الخَيْر، عقيدتنا وواقعنا)، لكنّّ هذه العودة تصطدم بألف عام مِن رسوخ عقائد وتقاليد، حاولت مرجعيات شيعية تجاوزها ولم تستطع، فالمرجعيات المذكورة تعتبر مؤسس النّصيريَّة كذاباً. لذا، عاد الطَّلبة النُّصيريون الذين وصلوا النّجف للدراسة في حوزتها، خلال الأربعينيات، دون طائل (شمس الدِّين، العلويون في سوريا/ 1956).
هذا ولا أظن مَن سبق أو عَقب أبي العلاء المعريّ (ت: 449 هـ)، في تلخيص استغلال السَّياسة للطوائف، في قوله: «إنَّما هذه المَذاهبُ أسبابٌ/ لجذبٍ الدُّنيا إلى الرّؤساء» (لزوم ما لا يلزم).
نقلا عن “الاتحاد”