د. صلاح عبد العاطي
كانون الثاني/ يناير 2025
تمهيد:
يبدأ الفلسطينيون عاما جديدا وهم يتعرضون منذ تشرين الأول /أكتوبر 2023 لحرب إفناء وإبادة وتدمير، جعلت من قطاع غزة منطقة منكوبة ترتكب فيها كل صنوف الجرائم، وتسببت حتي الان في استشهاد وفقدان 60 ألف مواطن/ة، وإصابة قرابة 110 آلاف آخرين، معظمهم من الأطفال والنساء، وتهجير 95% من السكان قسريا، وتدمير 86% من منازل ومباني ومنشآت القطاع المختلفة.
وفي الضفة الغربية، تتواصل عمليات التهويد واقتحام الأماكن المقدسة وهدم المنازل في مدينة القدس، مع تصاعد الاستيطان الاستعماري وعمليات الضم الزاحف، واعتداءات المستوطنين، وجرائم الإعدام الميداني، والاقتحامات شبه اليومية للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وعمليات الاعتقال التي طالت المئات، إضافة إلى عمليات التهجير القسري لسكان التجمعات البدوية والرعوية في المناطق المصنفة (ج).
وفي أراضي 48، تتواصل جرائم التمييز العنصري وحملات القمع البوليسي وتكميم الأفواه، وهدم المنازل ومحاولات تهجير السكان الفلسطينيين في النقب.
لكن اخطر الفصول في تاريخ الصراع كان ولازال يتمثل في إبادة قطاع غزة وسكانه بمختلف الأسلحة الفتاكة، وسلاح التجويع والعقوبات الجماعية، حيث يعيش سكان غزة كارثة إنسانية تتفاقم كل يوم جراء عرقلة ومنع دخول المساعدات والاحتياجات الإنسانية. وتمكنت دولة الاحتلال من مواصلة حرب الإبادة بفضل الشراكة الأمريكية في العدوان، التي تجسدت في الدعم المالي والعسكري والسياسي لدولة الاحتلال، إضافة لدعم وتواطؤ بعض الدول الأوروبية ذات الخلفية الاستعمارية، وعجز المجتمع الدولي الفاضح عن وقف العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الجماعية، وانهيار منظومه الأمم المتحدة واليات الحماية الدولية التعاقدية وغير التعاقدية الواردة في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي الخاص بحقوق الانسان.
وعلى المستوي العربي، اتسمت الحالة العربية بين فتح معارك الاسناد في لبنان والعراق واليمن، وبين إدانات وتحركات دبلوماسية، والتصدي السياسي والدعم المالي المحدود للسلطة الفلسطينية، وانفاذ المساعدات الإنسانية بمقدار ما هو متاح. وبالمجمل، اتسم التضامن العربي الرسمي والشعبي بتفاوت بين الدول، سواء بالغياب، أم الضعف، أم العجز، أم فقدان التأثير، ومن بينها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. ورغم القرارات التي تم اتخادها لوقف العدوان وإيصال المساعدات، إلا ان معظمها لم يتم متابعة تنفيده، كما أن فقدان التأثير العربي لدي الأطراف الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بقي سيد المشهد، حيث لم تقطع أو تلوح بعض الدول بقطع العلاقات مع إسرائيل، أو الولايات المتحدة، أو التلويح بالضغط باستخدام المصالح الاقتصادية، أو حتي اتخاذ مواقف حازمة من إسرائيل والولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية التي دعمت أو تواطأت مع دولة الاحتلال في حربها على قطاع غزة، بل بعض الدول قامت بمنع وإعاقة المسيرات والتحركات الشعبية الداعمة لقطاع غزة، وإن سجل لبعض الدول العربية دور مهم في تدفق المساعدات الإنسانية لسكان القطاع.
أما فلسطينيا، ورغم الحاجة الملحة للوحدة الوطنية، فقد استمر تفاقم الانقسام السياسي، وفشلتت كل الجهود الوطنية والعربية والدولية في انجاز توافق وطني فلسطيني يشكل أساسا لمواجهة جرائم الاحتلال والمخاطر الوطنية. كما اتسم الأداء الرسمي بالعجز والتردد والانتظار والتفرد وغياب الدور المطلوب في مساندة سكان القطاع. وخيمت على التحركات والفعاليات الشعبية والمجتمعية والنقابية في التجمعات الفلسطينية، وخاصة في الضفة الغربية والقدس وأراضي 48، سمات الضعف والغياب والموسمية.
تأتي هذا الورقة لتصف وتحلل الأداء الوطني وبصيغة نقذية بعد 15 شهرا من الابادة الجماعية في قطاع غزة، والاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين في الضفة الغربية، والاتنهاكات لحقوق الفلسطينيين في أراضي 48، وتصف تبعات ومخاطر غياب التوافق الوطني بالحد الأدنى في ضوء مخططات الاحتلال وجرائمه المتواصلة، وتداعيات ذلك على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وخاصة مستقبل قطاع غزة.
أولا: موصلة المفارقة بتعميق الانقسام
تستمر حرب الإبادة الجماعية التدميرية الإسرائيلية على قطاع غزة والشعب الفلسطيني، للشهر الخامس عشر على التوالي، والذي ارتكبت خلاله ابشع المجازر والجرائم الدولية من قتل واستهداف المدنيين وخاصة الأطفال والنساء والصحفيين والاطقم الطبية ، وتدمير المنازال والاعيان المدنية وفرض العقوبات الجماعية التي فاقمت ولاتزال المأساة الكارثية التي يعانيها أهل القطاع بتلاشي أدنى متطلبات وأسباب الحياة ، فالموت الرهيب يحكم حصاره الوحشي على غزة ويحصر أهلها بين موت بالقصف والرصاص، وآخر بالجوع والمرض جراء الكارثة الإنسانية.
فيما تتصاعد جرائم الاحتلال الاسرئيلي في مدينة القدس المحاصرة منذ بداية الحرب بإحكام شديد يحول دون الناس ومسجدهم الأقصى، ويتواصل الاستطيان الاستعماري وإرهاب المستوطنين في الضفة الغربية إضافة الي اقتحام المدن والمخيمات وارتكاب جرائم القتل الميداني والتدمير الهمجي للممتلكات والبنى التحية الى جانب حملات الاعتقال والتنكيل بالاسري، وإجراءات تقويض السلطة الفلسطينية.
ما يملي بصورة عاجلة وملحة، وجوب وقف حرب الإبادة، وجرائم الاحتلال، وتوفير أشكال الإغاثة الإنسانية لسكان القطاع، وهما المساران الواجبان تلازماً، وعلى الفور، رغم أهمية مسار اليوم التالي للحرب الذي يستحوذ على الاهتمام، فأولوية، اليوم قبل الغد، الآن هي مضاعفة الجهود واتخاذ كل التدابير اللازمة لوقف هذه الجريمة المتمادية، وإنقاذ ما تبقى، ما يجعل من التقاعس عن انهاء حرب الإبادة الجماعية، أو عرقلة جهود وقفها، تماهٍ مباشرٍ معها.
ورغم وضوح الالولويات في ضرورة الوحدة في مواجهة التحديات والمخاطر، الا ان المفارقة كانت تعمق الانقسام اثر عملية طوفان الاقصي وما تلاها من حرب الإبادة الانتقامية التدميرية وتوسيع جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث تكريس الجدل حول عملية الطوفان وتداعياتها، سواء لجهة الحديث عن عدم استشراف رود الفعل الإسرائيلية المتوقعة قبل القيام بها، وغياب القراءة لميزان القوي الإقليمي والدولي، والرهانات التي فشلت سواء لجهه التحركات الشعبية في الضفة وأراضي 48، وقوة محور المقاومة وجاهزيته للانخراط في مواجهة شاملة، وعلاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة وأوروبا، ومدي قوه هذا التحالف المؤيد لإسرائيل، الامر الذي مكنها من الحصول على ضوء أخضر ودعم أميركي وأوروبي غير مسبوق لإبادة قطاع غزة، وارتكاب كل الجرائم الدولية، والتسبب في دمار لأكثر من 86% من منازل ومباني ومنشآت قطاع غزة، وقرابة 160 الف شهيد وجريح ومفقود، وأكثر من 8000 معتقل، ونزوح متكرر قسري لمعظم سكان غزة، الذين يعيشون ظروفا كارثية في ظل المجاعة وانتشار الأمراض ونقص الخدمات.
ورغم ما قامت به قوات الاحتلال من جرائم وإلقاء أكثر من 100 ألف طن من المتفجرات على القطاع محدود المساحة، لم يمنع ذلك المقاومة من الاستمرار في مواجهة الاحتلال بما توفر لديها من قدرات بشرية ومادية وعسكرية، حيث سطرت بطولات فاقت الخيال، في ظل فارق القوة الكبير، وتمكنت المقاومة الفلسطينية في إيقاع خسائر بشرية واقتصادية لدي الاحتلال، عدا عن العزلة الدولية جراء ارتكاب جرائم الإبادة المتوحشة.
ويضاف الي ذلك صمود اهل القطاع العظيم، وما حققه التضامن الدولي في مواجهة جرائم الاحتلال الوحشية، ومساندة نضال الفلسطينيين من اجل حقهم في تقرير المصير وانهاء الاحتلال، إلى جانب استعادة مكانة القضية الفلسطينية في قلوب وعقول أجيال جديدة ومؤيدين جدد، وسقوط سردية الاحتلال وغطاء معادة السامية لكل فعل ضد الاحتلال، عدا عن صدور جملة من القرارات الدولية من الأمم المتحدة، وعدد من التغييرات السياسية والقانونية كاعتراف بعض الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، ومحاكمة إسرائيل امام محكمة العدل الدولية، وصدور قرارات اعتقال من محكمة الجنائيات الدولية، والتحركات الشعبية الداعمة لفلسطين وقطاع غزة.
غير أن ما سبق لم يحل دون تعرض قطاع غزة لنكبة وكارثة لا تزال تتواصل جراء استمرار حرب الإبادة التي كبدت سكان القطاع أعظم التضحيات والخسائر البشرية والمادية والاقتصادية، وتغييرات ديمغرافية وجغرافية في تركيبة السكان، حيث تتزايد كل يوم خسائر سكان القطاع طالما استمر العدوان الإسرائيلي المنفلت من كل قيود القانون الدولي الإنساني وتدابير محكمة العدل الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وكأن معادلة الدم لتحريك التضامن الدولي وبعض المؤسسات الدولية والقوى في هذا العالم الظالم قدر على الفلسطينيين.
وبدلا من أن توحد عملية طوفان الأقصى الفلسطينيين، في ظل حجم تضحيات سكان غزة الأكبر في تاريخ الشعب الفلسطيني منذ النكبة عام 48، إضافة الى التضحيات الناجمة عن جرائم الاحتلال في الضفة والقدس ومناطق 48، الا ان النتيجة للأسف تمثلت في تعميق الانقسام الفلسطيني على كافة المستويات، والذي لم يكن وليد الطوفان وما تلاه من حرب الإبادة، ولكنه تعزز جراء تراكم سياسات ومخططات إسرائيل في ضرب المشروع الوطني والوحدة الفلسطينية، وعبر ممارسة سياسات العصا والجزرة لأطراف الانقسام، التي لم ترق لمستوي المخاطر الوطنية في محطات سابقة وحتي اثناء الإبادة الجماعية بما يوجب ادارك خطورة استمراره كونه يساهم في تحقيق مصالح الاحتلال الإسرائيلي.
لقد تواصل مسلسل تعميق الانقسام إلى حد غياب واضعاف دور المؤسسة الوطنية الجامعة المعبر عنه بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي أصبحت بندا في ميزانية السلطة، وأفشلت كل محاولات إصلاحها وإعادة بنائها على أسس الشراكة وبموجب اتفاقيات القاهرة للمصالحة الوطنية. كما غاب الاتفاق على برنامج وطني وخطة نضالية وقيادة موحدة ليتجلى الواقع الفلسطيني المنقسم حتى في الرؤية والخطاب والبوصلة السياسية، والمنشغل في جزء كبير من أدائه في مواجهة الخصوم السياسيين، خاصة بعد الانتخابات التشريعية الثانية ونجاح حركة حماس في الانتخابات، ولاحقا سيطرتها بالقوة المسلحة على قطاع غزة، بدلا من تركيز الجهود على مواجهة الاحتلال وجرائمه ومخططاته.
ولذلك، انشغلت الحركة الوطنية والمجتمع المدني بمعالجة تداعيات الانقسام بشكل جوهري، وللأسف ذهبت ادراج الرياح كل محاولات تحقيق المصالحة والتوافق على إعادة بناء مؤسسات النظام السياسي. وفي المقابل، ساهم عدم ارتقاء الفعل السياسي من السلطة والمنظمة والقوى المختلفة، وخاصة حركتي فتح وحماس وباقي المكونات الوطنية والاجتماعية على كافة المستويات الفلسطينيّة في مواجهة السياسات الإستراتيجيّة الإسرائيليّة، في تكريس حالة من الانقسام الافقي والعمودي في الحركة الوطنية والمجتمع في مختلف التجمعات الفلسطينية، ما أوصل الحالة الوطنية لمستوي من الاحتقان والاختلافات اثر فشل جهود المصالحة المختلفة وتأجيل الانتخابات، وسوء الأوضاع الاقتصادية، وغياب الاتفاق على خطة لمواجهة جرائم الاحتلال التي تصاعدت مع تشكيل حكومة اليمين الفاشي في إسرائيل، التي أعلنت عن برنامج الضم والاستيطان والتهويد واستمرار الحصار والاعتداءات من الاحتلال ومليشيات المستوطنين والاستفزازات في المسجد الأقصى، ما ساهم في تصاعد المقاومة في الضفة الغربية في مواجهة اقتحامات قوات الاحتلال لمخيمات ومدن الضفة والقرصنة على أموال الضرائب والتنكيل بالأسري وغيرها من انتهاكات وجرائم للاحتلال .
في هذا السياق، جاءت عملية طوفان الأقصى بشكل مفاجئ، وبقرار ومبادرة من حركة حماس، لتشكل صدمة وإهانة واخفاق استراتيجي لدولة الاحتلال، عدا عن الخسائر الفادحة التي تكبدتها دولة الاحتلال خلال ساعات معدودة، وليتبعها إعلان إسرائيل الحرب على قطاع غزة وسن قانون للحرب يمكن إسرائيل من استخدام كل طاقاتها في هذه الحرب، مع تشكيل حكومة وحدة وطنية إسرائيلية رغم الانقسامات الإسرائيلية التي توحدت في كرهها ورفضها للحقوق الفلسطينية وهنا المفارقة وحدة العدو رغم كل الانقاسامات الافقية والعمودية في دولة الاحتلال ، في مقابل تعميق الانقسام فلسطنيا رغم كل القواسم المشتركة وحجم التضحيات والتحديات .
حيث شنت دولة الاحتلال وآلتها الحربية حرب الإبادة بشكل وحشي وتدميري مدفوعة ايدلوجيا صهوينة عنصرية ورد فعل انتقامي غير متوقع وغير مسبوق في تاريخ الحروب عبر التاريخ، ووظفت كل أدوات القوة الغاشمة بدعم امريكي وغربي، حيث استغلت إسرائيل العدوان لفرض واقعٍ جديد على أرض فلسطين التاريخية يكرس مزيدا من الانقسام الجغرافي والسكاني، وخاصة في قطاع غزة الذي تعرض لنكبة وعمليات قتل وتدمير بهدف اجراء تغيير ديمغرافي وجغرافي في القطاع وجعله منطقة غير قابلة للحياة وتهجير سكانه خارج الأراضي الفلسطينية.
كما تم تعديل سياسات الضم الاستعماري لأرضي الضفة الغربيّة دونما سكان بطريقة تثير أقل الاستياءات الدولية، فيما فرضت في مناطق 48 ما يمكن وصفة بحكم عسكري غير معلن.
في سياق مخطط شامل لتكريس واقع التقسيم الجغرافي والسكاني، وفرض معادلة السيطرة الاستعمارية الجديدة، والقبول القسري بها من قبل المكونات الفلسطينية، فالخيارات امام الفلسطيني كما يظهر في خطة الحسم إما الموت أو التهجير والابعاد والأسر، او قبول العيش وفقا للقواعد والمخططات التي يرغب بها الاحتلال.
ثانيا: بين التبرير وتراشق الاتهامات.. الخدلان سيد الموقف
في ظل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، ظهر وبشكل جلي غياب دور المنظمة والسلطة الفلسطينية وضعف التضامن الشعبي من مختلف التجمعات الفلسطينية، خاصة في الضفة الغربية والقدس ومناطق 48 اللهم بعض التحركات الخجولة والموسمية، حيث غابت فعاليات النقابات والمسيرات الشعبية والوقفات وخطوات الاسناد الواجبة من الشخصيات والنخب ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية المختلفة والكتل الطلابية والحركات النسوية والمجتمعية والشعبية التي كانت تملأ الميادين بتحركاتها المتعلقة ببعض القضايا المطلبية. ولم تتمكن قوى المقاومة من إحداث فارق في رفع كلفة الاحتلال عبر مواصلة العمليات النوعية، كما لم تستطع النخب والقوي الشعبية من المساهمة في استنهاض الحالة الوطنية لأسباب ومبررات متعددة، منها تكرار عبارة منع تكرار ما حدث في غزة في الضفة او مناطق 48، بحيث بات خطاب المسؤولين والنخب يركز على تعزيز الصمود وحماية الوجود باعتباره الأولوية، وكأنه مقبول عليهم ان تضحي غزة لوحدها وان يطلب منها التحرك من اجل الضفة والقدس في شعارات كانت ترددها الجماهير لغزة، ومنها هتاف “من شان الله يا غزة يلا”.
لقد أظهر ذلك الضعف القيادي والنخبوي، إلى حد غياب دور المؤسسات والقوى السياسية والنخب المجتمعية في الدفع باتجاه موجه انتفاضة شعبية او قيادة تحركات شعبية مستمرة او بالحد الأدنى مقاومة رمزية ضد مخططات الضم الاستعماري والتهويد والاعتقالات التعسفية وتضامنا مع غزة، التي شكلت عبر تاريخية رافعة للمشروع الوطني والنهوض والتصدي لمخططات الاحتلال. كما ظهرت صور استهتار المسؤولين وإقامة الحفلات واللقاءات وورش العمل وافتتاح الأنشطة وغياب حتى الأنشطة الإعلامية… وظهرت خلال حرب الإبادة صور الاستهتار الشعبي بمعاناة ودماء أبناء جلدتهم في قطاع غزة، حتى الفعاليات التضامنية الرمزية غابت بالمجمل، حيث انعقدت المقارنات بين الجماهير في أوروبا والولايات المتحدة، وامريكا اللاتينية وغيرها وتحركاتها الدائمة، فيما غابت هذه المشاهد في الضفة الغربية والقدس ومناطق 48. فيما لا يقلل النقذ السابق من جهد كل من بادر وعمل واجبه تجاه قضيته وأبناء وطنه في قطاع غزة، ما يجعل من تقديم الشكر له بمثابة الواجب في ظل غياب القيام بالواجب من قبل الكثيرين.
ثالثا: أداء المؤسسات الرسمية الفلسطينية خلال حرب الإبادة
منذ بدء حرب الإبادة الجماعية تقريبا، غاب دور المنظمة والسلطة التي تلكأت وتقاعست عن القيام بواجباتها القانونية والأخلاقية والإنسانية الوطنية، وتصرفت قيادتها ولاتزال كان العدوان يجري في دولة اخري، حيث وصلت السلطة علاقاتها مع دولة الاحتلال، وإن استمرت في إدانة العدوان الإسرائيلي، الا انها لم تتخذ أي خطوات ذات مغزي بالمعني السياسي بتنفيذ قرارات الاجماع الوطني بتدويل الصراع، وسحب الاعتراف بدولة الاحتلال، ووقف التنسيق الأمني، والتحلل من قيود اتفاق أوسلو، والاعلان عن خطوات لتجسيد دولة فلسطين التي بقت اسما معترفا به في الأمم المتحدة دون البدء بتشكيل لجنة لإعداد دستور للدولة العتيدة، وإقرار خطوات فعلية تجسد الدولة ومؤسساتها، وتوظيف انضمامها للمنظمات والاتفاقيات الدولية لصالح حماية الفلسطينيين. فلم تقم بإحالة وضع الإبادة في قطاع غزة لمحكمة الجنائيات الدولية، حيث تمت الإحالة من 7 دول ليس من بينها فلسطين، كما لم تتحرك او تبادر دولة فلسطين لرفع دعوي في محكمة العدل الدولية بموجب عضوية فلسطين في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وتلكأت بالانضمام لدعوى جنوب افريقيا التي جاءت خطوة متأخرة، إضافة الى ضعف الأداء الدبلوماسي الفلسطيني، وعدم توظيفه كما ينبغي في المنظمات الدولية أو دول العالم بما يرقي لمستوى الجرائم التي تقترفها دولة الاحتلال الإسرائيلي، الا ما رحم ربي من السفراء الذين يمكن عدهم على أصابع اليدين.
وظلت المنظمة غائبة بشكل غير مسبوق، وإن لم تكن بخير طيلة سنوات خلت، من حيث غياب الدور والفاعلية، وكذلك غياب اطراف وزانة في الحركة الوطنية عن تركيبتها، فيما اقتصر ما قامت به خلال حرب الإبادة على عقد ثلاثة اجتماعات شكلية ومتأخرة، أولها جاء بعد سبعة اشهر من العدوان الإسرائيلي، وانحصر أبرز مخرجاته في ادانة العدوان الإسرائيلي. وخلافا للمطالبات الشعبية، لم تتم المبادرة لعقد اجتماع الاطار القيادي المؤقت المتوافق على انتظام اجتماعاته إلى حين إعادة بناء منظمة التحرير، ولا دعوة مجلسها الوطني أو المركزي بصيغتهما الراهنة او بصيغة توافقية بإدخال حركتي حماس والجهاد الإسلامي ضمن تركيبها في ظل التوافق على البرامج الوطني وقرارات الشرعية الدولية، الأمر الذي تتطلبه الحالة الراهنة، حيث بقيت الخشية لدى الرئيس والفريق المهمين علي المنظمة من حصارها، فيما لم تبادر المنظمة بخطوات فعلية لتعزيز التوافق الوطني، او حتي تفعيل مؤسسات المنظمة التي غاب الرئيس عن اجتماعين من اجتماعاتها، واقتصرت تحركاته على تلبية الدعوات الرسمية، لتبقي المنظمة عاجزة ومشلولة الحركة ومحتكرة قرارتها ومعلقة بإرادة الرئيس.
وكذلك كان حال مؤسسات السلطة، التي تقاعست عن القيام بدورها الذي يوجبه القانون، في حين استمرت بدفع رواتب موظفيها فقط، ولم تبادر السلطة لإعلان غزة منطقة منكوبة، بما لذلك من استحقاقات لدعم الصمود والإعفاء الضريبي وتخصيص الموازنات لدعم سكان القطاع او وضع الخطط من الوزرات المختلفة كل في مجاله لدعم القطاع ومواجهة جرائم الاحتلال. كما لم تقم وزارة التنمية الاجتماعية والمالية بإدراج ضحايا العدوان ضمن شبكة الأمان الاجتماعي، فضلا عن غياب دور مؤسسة اسر الشهداء والجرحى، الذي كان ممكن تفعيله عبر رابط لتسجيل الشهداء والجرحى ودعمهم. كما غاب دور مجلس الوزراء في تشكيل صندوق وطني لدعم سكان قطاع غزة على طريقة “صندوق عز” وتخصيص طابع أو رسوم على الخدمات لصالح قطاع غزة، إلى جانب غياب دورها في ارسال المساعدات الإنسانية والأدوية والطواقم الطبية والدفاع المدني والمعدات، وحتي قيام الجهات القانونية بتشكيل لجنة وطنية لملاحقة مجرمي الحرب أو حتى تشكيل لجنة لتقديم المساعدات وضمان حضور الوزراء والرئيس لمعبر رفح طيلة مدة فتحة، اللهم أن الرئيس أعلن بعد عام تقرييا من بدء العدوان من على منبر البرلمان التركي عن رغبته بزيارة غزة، دونما أية خطوة لتجسيد هذه الإعلان، كما رفض كل المبادرات والدعوات الوطنية و العربية لتشكيل حكومة كفاءات وطنية تدير الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتعيين نائب للرئيس رغم إعلان بعض الدول عن قدرتها على تسويق حكومة التوافق وزيادة التمويل لميزانية السلطة للوفاء بالتزاماتها تجاه غزة والضفة الغربية في ظل أزمة الحكومة المالية الحادة .
وبذلك استعصت كل المحاولات لتحقيق اختراق في عملية المصالحة، او حتى إجراء اصلاح قانوني واداري للمنظمة والسلطة بالتوافق، رغم اتفاق الفصائل في موسكو وبكين والقاهرة على تشكيل حكومة الكفاءات الوطنية، حيث وضع الرئيس كل الاتفاقيات على الرف بعد توبيخ وفد حركة فتح في كل مرة يجري الحديث فيها عن تقدم، ما يؤكد ان ارسال الوفد كل مرة كان بهدف المجاملة او شراء الوقت. كما مضى الرئيس في خطواته منفردا بتغيير حكومة د. محمد اشتية، وتعيين د. محمد مصطفي رئيسا للوزراء، رغم معظم التحفظات الوطنية والعربية والدولية. ولاحقا أصدر مرسوما يقضي بتولى رئيس المجلس الوطني رئاسة السلطة لفترة انتقالية في حالة شغور منصب الرئيس خلافا لكل من القانون الأساسي، وميثاق المنظمة، وفي ظل غياب دستور لدولة فلسطين.
لقد أبدى الرئيس توجسا من أية عملية تغيير او إصلاح خشية الإطاحة به، مستعيدا تجربة الرئيس الراحل ياسر عرفات “أبو عمار” عندما زكّى الرجل الثاني الذي كان هو، مما ساهم في تجاوز الأول ودعم الخليفة المحتمل، ولا يزال الرئيس على تخوفاته حتي من أقرب المقربين له، ورفض تعين نائبا فعليا ، وكان آخر عمليات الرفض والمانعة للتوافق الرفض لاتفاق الفصائل، بما فيها حركة فتح، على تشكيل لجنة اسناد لقطاع غزة لفترة انتقالية، ويشكل أعضاؤها بموجب مرسوم رئاسي، وتعمل تحت ولاية الحكومة في الضفة الغربية، استجابة لمبادرة مصرية ترمي لنزع الذرائع من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتانياهو الذي يواصل حرب الإبادة، معلنا بأنه لن يسمح لا لحماس ولا السلطة بالحكم في قطاع غزة. كما هدفت المبادرة إلى ضمان التوافق على إدارة فلسطينية لمرحلة انتقالية للقطاع وتعمل تحت أنظمة السلطة، إلى حين التوافق الوطني على تشكيل حكومة كفاءات، وإعادة بناء كل المؤسسات الوطنية، بانتظار توفر الظروف لإجراء الانتخابات الشاملة.
وجاء رفض الرئيس دون أن يقدم أي بدائل يمكن التوافق حولها، باستثناء تقديم خطاب لفظي عن رغبته بزيارة غزة، وجاهزية السلطة لتسلم قطاع غزة وادارتها، ودون اتخاذ خطوات تقتضيها المصلحة الوطنية وفقا لقرارات المجلس الوطني والمركزي ، أو حتى التحضير لإدارة قطاع غزة من خلال الاضطلاع بالواجبات المنصوص عليها في القوانين الفلسطينية ذات الصلة، أو بالحد الأدنى الذي يمكن القيام به خلال حرب الإبادة الجماعية من دعم صمود المواطنين في غزة وتعزيز منظومة الخدمات الإنسانية، وقيادة حملة دولية لوقف العدوان، وعمل ما يوجبه انضمام دولة فلسطين للأجسام الدولية، أو حتى تحضير خطوات متفق عليها لما بعد الحرب متى قدر لها ان تتوقف، بما يشمل التحضيرات المبنية على مشاركة القوى الوطنية والقطاع الخاص والمجتمع المدني والفعاليات الشعبية، وحتي حصر لموظفيها في القطاع مع وضع خطة للاستفادة من كودارها أو ضمان تقديم الدعم الاغاثي العاجل لموطفيها ومنتفعي الشؤون الاجتماعية وعائلات الشهداء والمتضررين، بما في ذلك التحرك لدعم منظومة الخدمات الصحية وشبكتي الاتصالات والانترنت، والبنوك، وتوفير المساعدات، ودعم الجمعيات الأهلية في قطاع غزة، وغيرها الكثير من الخطوات.
في المقابل، طرحت السلطة ذرائع متعددة لتبرير تقصيرها، أو قامت بإطلاق حملات إعلامية للرد على منتقديها تارة بالانقسام وتحميل حماس المسؤولية، وتاره أخرى برفض نقل ما حدث في غزة إلى الضفة، ومرات بدعوى رفض الوصاية الإقليمية، أو تبادل الاتهامات مع حركة حماس وفصائل المعارضة واتهامها بالتبعية لإيران وغيرها من الاتهامات، التي كان جزء منها خارج الخطاب الوطني والعلاقات الوطنية من قبل بعض الناطقين أو المسؤولين، فيما الجزء الاسوأ الذي استخدمت فيه موارد السلطة في اعمال أمنية على خلاف القانون والأخلاق الوطنية، والذي تمثل مولصلة الاعتقالات السياسية ، واطلاق حملات الكترونية لتشوية المعارضين ، والاتهامات بفزاعة الانفصال ، بل وشراء خدمات الذباب الاكتروني في حملة لقمع أي انتقاد للرئيس او غياب لدور الحكومة او المنظمة ، ولتبرير التقاعس او الاستجابة لجهود ونداءات المصالحة وترتيب البيت الداخلي. ووصلت حملات التشوية والشيطنة والتراشق الإعلامي ذروتها مع حصار الأجهزة الأمنية للسلطة المتواصل لمخيم جنين واندلاع الاشتباكات المسلحة مع المقاومين فيه، والتي تنذر بالاتساع جراء رفض السلطة الاستجابة للجهود الوطنية والمجتمعية الهادفة لتطويق الاقتتال الداخلي وحماية السلم الأهلي.
وفتح حوار وطني ينتهي بالاتفاق على رؤية وبرنامج وطني يلتزم به الجميع، بما في ذلك اتفاق حول وحدة الشعب والقضية والجغرافيا والدم والمصير المشترك. إذ لم تقدم المؤسسات الوطنية عملا يليق بهذه المحددات، وخاصة بالارتقاء لمستوى المسؤولية الوطنية والقانونية في التعامل مع قطاع غزة، بل ولم تفكر السلطة حتى برفع العقوبات الجماعية التي فرضتها على موظفيها ومواطني قطاع غزة منذ عام 2017.
ومع ذلك، بقي الخطاب الرسمي متمسكا بالادعاء كل مرة بجاهزية السلطة وخطتها لليوم التالي في ظل إغفالها للمسؤوليات والدور المطلوب منها لوقف الإبادة الجماعية ودعم سكان القطاع، بما في ذلك اطلاق الحكومة خطتها التي تظهر أية مراجعة سريعة لكل محاور عملها غياب قطاع غزة، فضلا عن قرارات مجلس الوزراء التي لن لا تجد فيها الا الترحم على الشهداء وادانه جرائم الاحتلال، فيما القرارات المتعلقة بقيام الحكومة بواجباتها في دعم غزة ومواطنيها وقطاعاتها الخدمية شبه غائبة، الا من بعض الأنشطة المتواضعة التي لا تعبر حتى عن الحد الأدنى الممكن القيام به وليس المأمول، وإن قدمت الحكومة خطة لإعادة الاعمار لقطاع غزة بما يظهرها كأنها حريصة على الإمساك بالموارد المالية ما بعد توقف الحرب ودونما القيام بالواجبات اللازمة خلال الحرب.
ولعل مشهدا اخرا يوضح غياب دور السلطة والمنظمة، يتجلى في ضعف دورها إزاء 160 الف نازح قسرا من قطاع غزة الى الخارج، حيث لا توجد أية مؤسسات رسمية الا السفارات التي لا يعرقل عملها شي في تقديم الخدمات الا الخطط والميزانيات المرصودة، وحجم علاقات السفارة في كل دولها ومتابعتها، فقد اقتصر دور السفارات على متابعة التحويلات الطبية وإصدار الأوراق الثبوتية والمعاملات الرسمية وبعض الخدمات التي بادرت اليها سفارات دولة فلسطين في مجال التعليم، سواء عبر رابط التعليم الإلكتروني، أو تقديم بعض المساعدات من خلال الجمعيات والمساعدة لمرة واحدة او مرتين لبعض المرضي والجرحى، والمتابعات الضرورية، في ظل إطالة أمد العدوان الإسرائيلي. ويعني ذلك عدم إعداد الخطط مسبقا، أو تخصيص أية ميزانية طارئة لدعم أنشطة ودور السفارات الفلسطينية، وخاصة في مصر، للاستجابة لمعظم الاحتياجات الإنسانية، لهذا العدد الكبير من النازحين الذين واجه معظمهم ظروفا إنسانية كارثية – وما زالوا – جراء فقدانهم مصادر دخلهم واعمالهم.
رابعا: أداء حركة حماس واللجنة الادارية
تفردت حركة حماس بقرار الطوفان وفي إدارة المفاوضات، حيث قادت الحركة وباقي فصائل المقاومة عملية التصدي لقوات الاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة الجماعية وفقا لاستعدادتها وقدراتها المحدودة مقارنة بقدرات الاحتلال وحلفائه العسكرية، كما قادت بعض التحركات السياسية، ومن أبرزها إدارة عملية التفاوض بشكل غير مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي، من خلال جهود الوسطاء القطريين والمصريين بدرجة أساسية. ورغم تشاورها مع الفصائل، إلا انها لم تلفح، وربما لم ترغب، في تشكيل وفد موحد للمفاوضات، عدا عن فشل جهودها وجهود الفصائل سابقا، واثناء حرب الإبادة الجماعية، في تشكيل جبهة مقاومة موحدة، أو حتي ضمان تحرك قاعدتها الشعبية إلى جانب قواعد باقي الفصائل في التجمعات الفلسطينية الأخرى التي أظهرت ضعفا كبيرا، عدا عن مواجهتها ظروفا وتحديات من حلفائها قبل خصومها واعدائها، إضافة الي انعكاسات بيئة كل تجمع فلسطيني بما يحفل به من قيود وعراقيل وفرص على أدائه العام، رغم ارتفاع مستوي تأييد الحركة خارج قطاع غزة.
من جهة أخرى، تعرضت الحركة لضربات قوية من عمليات اغتيال وقتل واعتقال طالت عددا كبيرا من قادتها وكوادرها السياسية والميدانية، ومقاوميها، ومنتسبيها، كما و ركز الاحتلال الاسرائيلي وعبر جرائمة الإبادية علي قتل مفاصل وقيادات العمل الحكومي في غزة وتدمير المؤسسات الحكومية والخدمية والتعليمية والصحية والمنشاءات الحيوية والبنية التحتية ، بهدف إنهاء حكم الحركة وسيطرتها على قطاع غزة.
وكان من نتائج ذلك توقف معظم العاملين في الجسم الحكومي، جراء فقدان التواصل وتدمير المقار الحكومية، وحالات الفقد والنزوح القسري، ما أحدث تغييرات لم تكن تتوقعها لجنة العمل الحكومي وحتي حركة حماس. وهو ما ساهم في إحداث ارتباكات متعددة، وإن تعاطت معها اللجنة ببدائل سرعان ما كان يتم تغييرها جراء الاستهداف المتواصل من الاحتلال، والتغييرات التي أحدثها الهجوم البري الواسع علي مناطق مختلفة من القطاع. وأدى ذلك الى خروج الآلاف من الموطفين عن الخدمة، ونزوح بعضهم الى خارج القطاع. ورغم كل مظاهر الفوضى والفلتان والكارثة الإنسانية تواصل حركة حماس إدارتها لأوضاع قطاع غزة، حيث لا تزال الشرطة تتلقي الشكاوى، وتعمل على تأمين المساعدات الإنسانية وحل بعض المشكلات، ولا تزال المحاكم الشرعية تعمل بطاقة محددوة، فيما تواصل البلديات وأجهزة الدفاع المدني ووزارة الصحة ومكتب الاعلام الحكومي ومعظم الوزرات عملها، وإن كان بشكل محدود وفقا لمقتضيات الحال في كل منطقة.
ورافق كل ذلك مظاهر الضعف والتراجع في مستوي السيطرة والإدارة وتقديم الخدمات المختلفة، لاسيما مع طول أمد حرب الإبادة الجماعية، التي تركت تداعيات كارثية على سكان القطاع ومستوى حصولهم على الخدمات في ظل ضعف وتدمير وانهيار منظومه الخدمات، وعرقلة أو منع الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية وباقي الاحتياجات لقطاع غزة، مع استخدام سلاح التجويع والعقوبات الجماعية وتعمد استهداف المدنيين في الضغط على سكان القطاع والحاضنة الشعبية لفصائل المقاومة، والتوحش غير المسبوق في ارتكاب الجرائم والتدمير الشامل للقطاعات الخدمية، خاصة الطواقم الطبية والأجهزة الأمنية والشرطة والدفاع المدني والبلديات، ومصلحة وقطاع المياه، وزارة الاشغال، والاقتصاد، والإعلاميين، والمحاكم والنيابة العامة، والوكلاء والمدراء العامين.
ورغم كل تداعيات حرب الإبادة وتراجع التأييد الشعبي لحركة حماس في قطاع غزة جراء تحمليها المسؤولية عن ردود فعل الاحتلال، إلا أن الحركة لا تزال القوة الأولى في القطاع، حتى في ظل ما فقدته من قيادات وكوادر وعاملين فيها او في مؤسسات العمل الحكومي، وإن تضاءلت قدراتها العسكرية والإدارية، بشكل أدى إلى تراجع مستوى قدرتها على السيطرة وتقديم الخدمات والقدرة على إيجاد بدائل أو ابتكار حلول لمواجهة جرائم الإبادة المنظمة والممنهجة التي يقوم بها الاحتلال.
الامر الذي أتاح نشوء حالة من التراجع الحاد في مستوى الخدمات والفوضى والفلتان الأمني التي يعود سببها لاستهدف الاحتلال للشرطة والأجهزة الأمنية، إضافة الى اللجان الشعبية ووحدات تأمين المساعدات التي شكلت من الفصائل أو من العائلات.
وساهمت حالة الفوضى المتعمدة من قبل الاحتلال في نشوء تشكيلات عصابية بعضها مرتبط بالاحتلال، ويعمل بالقرب من تواجد قواته. كما عجزت اللجنة الإدارية الحكومية، رغم التعميمات الصادرة عنها، عن ضبط الأسواق أو ارتفاع الأسعار، أو مواجهة مظاهر الاحتكار، والعمولات على التحويلات المالية من داخل القطاع وخارجه. كما ارتفعت مظاهر المشاجرات العائلية والاعتداءات على المواطنين، وسجلت انتهاكات متعددة على خلفيات متنوعة تتعلق بطريقة التعامل مع انتشار السرقات والتشكيلات الإجرامية. وسجلت أيضا اعتداءات على بعض المواطنين على خلفية إبداء الرأي وانتقاد حركة حماس، إلى جانب شيوع مظاهر احتكار المساعدات وحالات فساد من قبل بعض الموطفين التابعين للحكومة في توزيع المساعدات في ظل نقص الاحتياجات، وأحيانا عدم تلقي الموطفين في غزة مخصصاتهم الشهرية.
لقد سعت حركة حماس ولجنة العمل الحكومي إلى إحباط هدف دولة الاحتلال في القضاء على حكم الحركة، من خلال التدمير المنهجي المتواصل للهياكل المؤسسية لإدارة شؤون القطاع، إلا أنه في كل مرة تعود فيها اللجنة الحكومية لضبط بعض الأوضاع وإعادة ترميم بعض المرافق الخدمية، وخاصة المستشفيات، والاشراف على إقامة مخيمات ومراكز الإيواء وتوزيع المساعدات وضبط الأمن في أي منطقة، وفتح بعض الشوارع المدمرة، كانت قوات الاحتلال تتعمد إعادة تدمير ما تقوم به طواقم العمل الحكومي، وحتى المنظمات الدولية والأهلية التي سعت اللجنة الحكومية للتعاون معها أو تقديم التسهيلات لمواصلة عملها.
ولكن الصورة الأسوأ تمثلت في عجز الأجهزة الأمنية والتنظيمات الفلسطينية ولجان الحماية الشعبية والعائلية عن وقف مظاهر السرقات وقطع الطرق والتشكيلات العصابية التي تكاثرت وأصبحت عبئا على سكان القطاع والعمل الحكومي والمنظمات الدولية وحتي القطاع التجاري؛ فسرقة البضائع والمساعدات باتت ظاهرة يومية تظهر ضعف السيطرة على القطاع، حيث حاولت الحركة والأجهزة الأمنية من خلال فريق “سهم” التصدي لبعض التشكيلات العصابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع العشرات من القتلى وضحايا من الشرطة ومؤمني المساعدات الإنسانية. كما تسبب هذا الأمر في تعطيل وعرقلة عمل المؤسسات الدولية للقيام بدورها جراء جرائم الاحتلال الإسرائيلي من جهة، ومظاهر السرقة للمساعدات والتعدي على مخازن هذه المؤسسات من جهة أخرى، إضافة الي عدم كفاية المساعدات والملاحظات على طريقة وآليات توزيعها.
وفي ضوء ذلك، سادت أوساط سكان القطاع مشاعر السخط والنقمة حيال الأداء الحكومي للجنة الإدارية، والعصابات، والسلطة، ومقدمي المساعدات من المؤسسات الدولية والأهلية، وحتى المبادرين في ظل بعض الأخطاء التي جرى رصدها في ظل اتساع حجم الاحتياجات وعدم دخول البضائع والمساعدات وارتفاع الأسعار. الأمر الذي جعل سكان قطاع غزة فقراء حد العدم، وعاطلين عن العمل بعدما فقدوا كل أعمالهم ومصادر رزقهم، يعيشون على المساعدات الشحيحة، التي لا تصل لهم بانتظام. كما ان المساعدات والبضائع التي دخلت لم تكن توفر معظم الاحتياجات الأساسية التي يبحث عنها المواطنون، وحتي لو وجدت فمعظمها يباع بأسعار مبالغ فيها تفوق القدرة الشرائية للمواطنين، جراء دفع مبالغ طائلة مقابل التنسيقات للشاحنات والضرائب والرسوم، إضافة إلى نفقات التأمين والخاوات لعصابات سرقة المساعدات أو لتجار الحروب الذين تواطؤوا والتقت مصالحهم مع مختلف الأطراف المنتفعة من الوضع القائم، لضمان الاستكساب والتربح المبالغ فيه على حساب معاناة سكان غزة من ضحايا الإبادة الجماعية، ما يوضح غياب القدرة الحكومية على ضبط الأسعار، أو وقف مظاهر الاحتكار، أو معالجة مظاهر الفساد، أو حتى معالجة الجريمة بالطرق القانونية، أو التدخلات التي باتت الحكومة عاجزة عن التدخل فيها، بل وأدى تدخلها في أحيان كثيرة الى رفع الأسعار بدلا من خفضها وعرقلة إدخال البضائع والمساعدات.
ولا بد من الإشارة أيضا إلى غياب وتراجع التنسيق بين مختلف الجهات الحكومية في غزة والضفة حتى بحدوده الدنيا التي كانت سائدة ما قبل العدوان الإسرائيلي. كما عرقلت دولة الاحتلال دخول المساعدات والطواقم الإنسانية والعاملين في الأمم المتحدة، ومنعت دخول معظم الفرق الطبية والدفاع المدني والأجهزة والمعدات لتعويض ما دمرته آلتها الحربية، أو لتوفير احتياجات الجهات الخدمية الإنسانية. فقد تحكمت سلطة الاحتلال وجيشها في كل ما يدخل للقطاع، وأحيانا سمحت بإدخال بعض المساعدات التي سرعان ما قامت بقصفها، كما منعت في معظم الأحيان دخول الوقود المشغل لمحطات المياه والصرف الصحي والشاحنات ومعدات البلديات وعربات الإسعاف والدفاع المدني، لعرقلة جهود مقدمي الخدمات، سواء من الحكومة أم المنظمات الدولية.
ورغم التقدير والاحترام والتثمين لجهود من بقي على رأس عمله من العاملين في المرافق الحكومية، وخاصة قطاعات الصحة والدفاع المدني والخدمات والشرطة وغيرهم ممن عملوا في ظروف غير مسبوقة في ظل جرائم إبادة طالت الآلاف من العاملين في الهياكل الخدمية الحكومية وعائلاتهم، وبغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، فيما سيذكر التاريخ ان طواقم الدفاع المدني والقطاع الصحي بقيت على رأس عملها رغم استهدافها المتكرر، وتنقلت طواقم الدفاع المدني والإسعاف مشيا على الاقدام وعملت بالأيدي وبمعدات بسيطة لإنقاذ الضحايا واجلاء جثامين الشهداء ونقل المصابين، فيما عمل الأطباء بكل أدوات الطب البدائي وطب الحروب لتقديم الخدمات الصحية. وخلال فتح معبر رفح لعبت وزارة التنمية الاجتماعية في غزة دورا في استقبال المساعدات الإنسانية وتوزيعها على المواطنين وعلى المستشفيات ومراكز الايواء الحكومية، رغم عدم تعاون بعض الجهات الدولية والعربية التي قدمت المساعدات لقطاع غزة مع اللجنة الحكومية في قطاع غزة.
خامسا: أداء الجهات الدولية والعربية والفلسطينية الاهلية
ومع تطورات الأوضاع الناجمة عن حرب الإبادة الجماعية واستهداف واجتياح مدن القطاع والمخيمات بشكل متكرر، ضعفت وتراجعت قدرات اللجنة الحكومية أو طواقمها في مختلف المجالات، بما فيها تنسيق المساعدات مع الجهات الدولية والعربية، بشكل أتاح لمعظم الجهات تقديم المساعدات حسب الطريقة التي تفضلها، والتي تتناسب مع ظروفها في كل منطقة في القطاع، حيث تدخلت جمعيات الهلال الأحمر في الدول العربية لإيصال المساعدات في إطار جهود بعض الدول، وخاصة مصر والأردن والإمارات وقطر والسعودية، التي تحملت العبء الأكبر في انفاذ المساعدات لقطاع غزة، وكذلك جمعيات دولية أخرى مثل المطبخ العالمي وبرنامج الغداء العالمي والجمعيات الاهلية الدولية الإنسانية والصحية والخدمية.
ولعل أهم الاستجابات الإنسانية تمثلت في المساعدات المقدمة من وكالة الغوث، التي كانت تعد شريان الحياة لسكان القطاع سابقا، باعتبار أن 75% من سكان قطاع غزة من اللاجئين منذ النكبة عام 1948، ومن ثم تكررت مأساة النزوح القسري المتكرر خلال الحرب الحالية، حيث تحول كل سكان غزة الى نازحين قسرا، بشكل جعل قطاع غزة منطقة منكوبة وغير صالحة للحياة. وقد تعمد الاحتلال من اللحظة الاولى للعدوان استهداف وكالة الغوث الدولية ومقارها ومؤسساتها التعليمية والصحية ومستودعاتها والعاملين فيها، حيث استشهد قرابة 258 موظفا منها، عدا عن منعها من العمل في كل مناطق الاجتياحات البرية، إضافة الى التحريض عليها واتهامها بالإرهاب، الأمر الذي ساهم في وقف بعض الدول تمويل الوكالة في ظل الكارثة الإنسانية المتفاقمة التي يعانيها سكان قطاع غزة، وهو ما أثر على مواردها وقدرتها على تقديم الخدمات التي تزايدت الحاجة إليها، وصولا الى إقرار الكنيست قانونا لمنعها من العمل في الأراضي الفلسطينية، ما يشكل كارثة كبرى للفلسطينيين، وبخاصة في قطاع غزة، اذا تم انفاذ هذا القانون غير الشرعي والذي يرقي لمستوي الجريمة الدولية.
من جهة أخرى، لعبت الجهود الإنسانية الطارئة من الدول العربية والمنظمات الدولية وبعض الشخصيات الفلسطينية من مختلف التجمعات، والتي سوف يذكرها التاريخ وسكان غزة، دورا مهما في اسناد القطاع، خاصة الجهود المصرية التي ساهمت في انفاذ 70% من المساعدات، التي أشرفت على تقديمها جمعية الهلال الأحمر المصري، والدعم الإمارتية وحملة الفارس الشهم التي اشرف عليها تيار الإصلاح الديمقراطي، والدعم القطري الذي أشرف عليه الهلال الأحمر القطري وجمعية قطر الخيرية، والهلال الأحمر الكويتي، والهلال الاحمر السعودي، والجهود الأردنية في ادخال المساعدات، والجهود التركية والجزائرية والماليزية، وجهود الدول العربية ودول العالم المختلفة، وإن كان ليس كافيا في مواجهة احتياجات إنسانية كبرى لسكان القطاع، من خيام وأغطية وغداء ومياه وأدوية ومعدات، والتي إن وفرتها بعض المساعدات يعرقل وصولها الى القطاع من قبل دولة الاحتلال، فيما لعبت المنظمات الأهلية والجهود العائلية والشخصية والقطاع الخاص في قطاع غزة دورا مهما في تقديم الخدمات والاستجابة الإنسانية بحدود قدراتها التي تراجعت جراء حرب الإبادة الجماعية وتوقف التمويل او ضعف الإمكانيات.
ولعل من الجدير ذكره الدور الأبرز الذي لعبة معظم سكان غزة، رغم كل المظاهر السلبية من نسبة ليست قليلة من المواطنين، الذين استغلوا حاجات النازحين ورفعوا الأسعار للإيجارات والخدمات والبضائع. إذ ان الصورة الأعم توضح ان معظم سكان القطاع وقفوا الى جوار بعضهم وقدموا النموذج في التكاثف والمساعدة والمساندة وتعويض النقص في العاملين بالتطوع في كل المجالات، والعونة والفزعات الشعبية، والمبادرة، إضافة الى انتشال الشهداء بأيديهم ودفنهم واستضافة بعضهم البعض، وتقاسم بعض الاحتياجات، عدا عن ابتكار كل البدائل لمواصلة الحياة في ظل حرب الإبادة الجماعية. كما قدم سكان غزة نموذجا لحاضنة شعبية فتحت عليها أبواب جهنم من جيش الاحتلال وتحملت ما لا يحتمله بشر، وإن تذمرت واشتكت وعبرت عن التعب والمعارضة لطريقة إدارة المفاوضات، حيث طالبت بوقف الحرب بأي ثمن للحفاظ على تبقى، وإن أفصح البعض منها عن معارضته لطوفان الأقصى باعتباره مغامرة أو مقامرة، أو اعترض البعض على خطابات بعض القيادات بحدة المزاج، أو تذمر الناس من الجوع والخذلان من أشقائهم في تجمعات الشعب الفلسطيني الأخرى، أو سجل البعض منهم اعتراضه على اطلاق الصواريخ من أماكن عاد اليها النازحون قسرا بعد اخلاء قوات الاحتلال لها بشكل يعيد مسلسل التهجير القسري لهم.
ولعب الانقسام سابقا وأحداث الاقتتال والانتهاكات الداخلية دورا في الجدل حول طرق وأساليب النضال الوطني وجدوى المقاومة، وعقد المقارنات بين السلطة في الضفة وبين واقع قطاع غزة. ومع ذلك يسجل لسكان غزة رغم معاناتهم الكارثية تشكيل شبكة أمان انساني واجتماعي للمقاومة ولمقدمي الخدمات الحكومية والقائمين على المساعدات، علما ان مطالب وقف العدوان وضمان تدفق المساعدات الإنسانية باتت الأولوية لسكان القطاع والعاملين في الجهات الحكومية والدولية والأهلية، ممن جربوا الفقد والاصابة والاعتقال والخوف والترويع والجوع، والافتقار الى الرعاية الصحية للمرضى والمسنين والحوامل والرضع، وانعدام الكهرباء ونقص غاز الطهي والوقود وعدم توفر مياه الشرب الصالحة ودمار البيوت والأعمال التجارية، والعيش في خيام لا تصلح صيفا ولا شتاء، مع غياب الخصوصية للنساء، والفقر، وتغير في أنماط الحياة الاجتماعية وفقدان الأمان الشخصي والعام.
مع ما سبق توضيحه، وعلى أهمية كل الجهود الدولية والأهلية والجهود الحكومية والشعبية والفصائلية والشخصية، إلا ان الكارثة فاقت كل التوقعات وجريمة الإبادة الجماعية فاقت كل التصورات بما يجعل العبء أكبر من طاقة الفلسطينيين وحدهم فيما لو كانوا موحدين، فما بالنا وواقع الانقسام وغياب الوحدة ما زال قائما؟! فقد ساهم الانقسام وضعف إمكانيات لجنة العمل الحكومي وضعف دور المؤسسات الوطنية “السلطة والمنظمة” في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والإنسانية والخدمية، وغياب التنسيق والوحدة بين الفلسطينيين، في تقديم صورة سلبية سابقا، وتعمقت في ظل حرب الإبادة، باعتبارها الأسوأ في إدارة الذات والصراع على الشرعية والتفرد في القرار سلما وحربا، بل وتعذر الاتفاق على عقد اجتماع قيادي جماعي، أو حتى التوافق على خطة استجابة إنسانية تحيد فيها التباينات والخلافات السياسية بين غزة ورام الله، مع ما يتركه ذلك من تداعيات وطنية وإنسانية في وقت أحوج ما يكون فيه الفلسطينيون الى تجاوز خلافاتهم والتوحد في مواجهة المخاطر الوطنية الإنسانية. وبدلا من البحث والتنافس في خدمة الناس استمرت حالة تبادل الاتهامات والتبرير والتراشق الإعلامي على المستوى السياسي القيادي، بل وتعدي الأمر ذلك الى ارتفاع حدة الانتهاكات الداخلية والصراعات والانقسامات الفئوية ومطاهر الاعتداء على المواطنين والاعتقالات، وارتفع منسوب الكراهية، وتصاعدت الخلافات السياسية في الحركة الوطنية وبين النخب المختلفة، وحتى بين المواطنين أنفسهم، وبين الشخص ونفسه في صراع الذات والآخر والانكار والعجز عن مواجهة الواقع، وغياب المنطق والمعايير. فالواقع صادم ومفجع والمعادلات السياسية والمجتمعية السابقة لم تعد قائمة في غزة التي تركت وحدها تقريبا في معركة غير متكافئة، لتسمر حرب الإبادة ويتعمق الانقسام الفلسطيني، حيث يتراجع الأمل كل مرة في إنهاء الحرب، ومعه تتراجع مؤشرات التوافق بالحد الأدنى على برنامج واستراتيجية وقيادة جماعية، وحتى تشكيل أي هيكل اداري وطني موحد، ما ترك فراغا كبيرا في فلسطين ودور نخبها ومؤسساتها القيادية.
ولعل صورة الحالة القيادية والمؤسسات الفلسطينية لدى العالم، رغم تضامن معظم دول وشعوب العالم مع فلسطين والفلسطينيين، وخاصة في قطاع غزة، جراء محنة الإبادة الجماعية والصور الوحشية لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، وصور البطولات المقدمة رغم الكارثة الإنسانية، إلا ان صورة النظام السياسي ظلت بلا رضى، حيث الصورة السلبية التي تعبر عن سوء حال المؤسسات والتفرد في إدارتها واستمرار الانقسام وغياب الشرعية الديمقراطية وانتشار الفساد، وضعف الأداء الوطني على كل المستويات، لدرجة ان بعض الدول تقدمت في القيام بالواجب المطلوب على ما يتوجب القيام به من دولة فلسطين تجاه شعبها وقضيته الوطنية ومأساته المتفاقمة. ويصح القول إنها كانت ملكية أكثر من الملك، سواء في قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، أم القيام بتحركات قانونية ودبلوماسية وإنسانية أكثر من السلطة أو المنظمة التي بدت غائبة وضعيفة وكأنها بلا مؤسسات، لتظهر في خطاب الدبلوماسيين والأمم المتحدة والدول المختلفة. ورغم الحديث الدائم عن التضحيات ومعاناة الفلسطينيين من قبل الاحتلال، إلا انها عكست في المقابل صورة مفزعة من إلقاء اللوم على الفلسطينيين وانقسامهم القيادي وضعف وترهل مؤسساتهم، وغياب قدرتهم على التوافق على رؤية وطنية واستراتيجية شاملة وقيادة موحدة.
وقد وصل بعض هذه الحالات حد التندر والاستخفاف والشقفة وتحميل المسؤولية للفلسطينيين عما لحق بهم، والى أين وصلت قضيتهم جراء الانقسام والتفرد وغياب المؤسسات؛ دولة بلا دستور ولا برلمان، ومنظمة بإرث كبير من التضحيات والمكانة، ولكن بلا مؤسسات، ولا خطة للتحرر، ولا قيادة جماعية لقيادة عملية التحرر، وسلطة بلا سلطة ومنقسمة وبلا مؤسسات وبلا محاسبة، ولا قانون، حيث الحكم الفردي المستمد شرعيته من التعيين، ليقدم الفلسطينيون صورة بائسة حول قدرتهم على حكم أنفسهم وإدارة شؤونهم.
سادسا: إضعاف للجبهة الداخلية ومقومات الصمود والمواجهة
ولا شك في أن الانقسام السياسي وعجز الفلسطينيين وكياناتهم ومؤسساتهم السياسية والمجتمعية على إدارة وتجاوز خلافاتهم في ظل المخاطر التي تهددهم جمعيا، قد مس بصورتهم وقضيتهم وأضعف قدرتهم على المواجهه، كما لم تفلح جهودهم الداخلية والمبادرات والجهود العربية والدولية في تمكنهم من تجاوز حالة الانقسام، أو إجراء الانتخابات الشاملة، أو حتى التوافق الوطني على الحد الأدنى، وذهبت جهود اتمام المصالحة أدراج الرياح طول سنوات خلت.
فيما تواصل الانقسام حتى اثناء العدوان الإسرائيلي رغم إدارك الفلسطينيين بأنه مصلحة إسرائيلية حرصت دولة الاحتلال على إدامتها واستثمارها لصالح مخططاتها، مع الإقرار بأن إدامة الانقسام ليست مدفوعة بما فعلت إسرائيل وحسب، بل هناك عوامل داخلية وخارجية، من بينها جماعات المصالح ومواقع القوة والنفوذ المستفيدة من الوضع القائم وفقدان الثقة، واختلاف الرؤى، وتداخل عوامل إقليمية ودولية، ساهمت كلها مجتمعة في ادامة الانقسام بصرف النظر عن أوزان تأثيرها.
وتبين مراجعة تجارب ودروس التاريخ الطويل من الصراع مع الاحتلال، الذي سطر فيه الشعب الفلسطيني بطولات وتضحيات عظيمة، التأثير الحاسم للانقسامات الداخلية على قدرة هذا الشعب على الصمود وإحباط أهداف المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني، إذ انه مني دوما بانتكاسات سياسية جراء اختلال ميزان القوى والانقسامات القيادية العائلية والتنظيمية، وغياب القيادة الجماعية القادرة على ترجمة هذه التضحيات والنضال الوطني في كل محطة الى مخرجات سياسية تقرب الفلسطينيين من أهدافهم الوطنية، باعتبار ان النضال السياسي يهدف الي تحقيق افضل الممكنات في لحظة سياسية ما.
كما ساهم غياب الاتفاق على برنامج واستراتيجية وقيادة جماعية وتكلس وعدم فاعلية المؤسسات الوطنية التي غابت عنها الديمقراطية والمشاركة الفاعلة للفلسطينيين من مختلف التجمعات، وهيمنة الفرد أو الحزب الواحد علي المؤسسات الوطنية وانقسامها، وانتشار الفساد فيها، وانعدام المساءلة عن الانتهاكات الداخلية، في تكريس صورة سلبية عن الفلسطينيين، وحتي المبادرات الوطنية الجمعية فشلت في التوحد على أسس الحد الأدنى في انقسام نخبوي بات تقليدا فلسطينيا، وكأن الانقسامات وغياب التوافق وغياب العمل المؤسساتي وقواعد الديمقراطية والإدارة الرشيدة، باتت قدرا على الفلسطينيين، رغم كل الكفاءات العلمية والمهنية الوطنية والقيادية في أوساطهم، إضافة إلى خبراتهم المتعددة وقدراتهم الفردية في مختلف المجالات.
ولعل بنية المصالح الشخصية والفئوية والسلطوية، ساهمت – ولا تزال – في تغييب الرشد الوطني والأداء المطلوب لضمان مواجهة التحديات والمخاطر، التي تتطلب ارتقاء الكل لمستوى المسؤوليات، حيث تفسر عوامل كثيرة غياب الدور واستمرار الانقسام في ظل حالة التبعية المالية لمعظم القيادات والنخب لأطراف الانقسام، عدا عن الحالة المصلحية التي غذتها المنظمة والسلطة بما تملكانه من أدوات احتواء، إضافة الى أدوات القمع البوليسي والعقوبات التي ساهمت في اقصاء المعارضين من العمل التنظيمي، أو المؤسساتي، أو تقريب أو إبعاد القطاعات والشخصيات الاقتصادية والمجتمعية عبر الإضرار بمصالحها.
وهناك عامل آخر أثر في اتساع التراجع والخوف ويرتبط بدور بعض الأجهزة الأمنية التي تغولت على الفضاء العام ومساحات الفعل المجتمعي والاقتصادي، وحقوق المواطنين، لتصبح قواعد غياب القانون، ومقولات مصلحية من نوع “قرد مؤلف ولا غزال مخالف”، و”اربط الحمار عند ما بقولك صاحبه”، و”نجاح أخي فشلي”، و”عند مخالفة الدول ضب رأسك”، و”مية عين تبكي ولا عين أمي تبكي”، بمثابة قواعد شائعة يجب مراعاتها في العمل والعلاقات لدى غالبية كبيرة، رغم تغليف هذا الأداء بتبريرات المصلحة الوطنية وغيرها. وهناك عوامل أخرى داخلية وخارجية أدى تدخلها إلى جعل المجتمع الفلسطيني بمكوناته المختلفة في حالة انكشاف وفوضي، وصلت حد فقدان الثقة بالذات والمؤسسات، وباتت صور الانفصام الشخصي والداخلي وكأنها جزء من الهوية المكونة لملامح الشخصية الفلسطينية التي باتت ضحية الاحتلال الإسرائيلي والأخطاء والخطايا الوطنية، حيث تجد في الشخص الواحد في الوقت ذاته أكثر من رأي ورؤية ما بين نقمة وقبول، وما بين معارضة وتأييد، لتصبح الفهلوة والتملق والشطارة، وقيم المحسوبية والوساطة، والمعايير الجغرافية والعائلية، والولاءات الشخصية، والمناشدة والمكرمة، بديلا لقيم الثورة والحق والواجب والعدالة والتعددية وسيادة القانون والكفاءة، وليصبح عندها المنتقد للأخطاء والمطالب بالتغيير وبتحكيم المعايير في حكم الخصم، وأحيانا في موقع العدو، وربما أكثر، حيث تدني الأمر الى مستوى التخوين والتكفير والملاحقة والاعتقال وتلفيق التهم، والاغتيال المعنوي، والمنع من السفر، أو الحرمان من حق الحصول على جواز السفر، بل والقتل في بعض الحالات.
ويمكن رصد الانقسام التاريخي في جسم الحركة الوطنية الذي غلبت فيه التناقضات الثانوية على التناقض الرئيس في مراحل تاريخية، وكذلك مع ضعف الحركة الوطنية وصعود الحركة الإسلامية ورحلتها في توليد بديل عن المنظمة قبل إقرارها بوحدانية التمثيل متأخرا، رغم استمرار ملاحظاتها وملاحظات قوى ونخب أخرى على حال المنظمة والسلطة.
كما يمكن تسجيل مراحل الانقسام الأبرز في عمر الحركة الوطنية المعاصرة، التي ترافقت مع توقيع اتفاق أوسلو، الأمر الذي ولد انقساما متواصلا منذ توقيع الاتفاق وتشكيل السلطة، بين معارضة وتأييد حتى في داخل حركة فتح التي قادت التوقيع على الاتفاق، تبعه صراع حول السلطة ومن أجلها، وحول أدائها وإدارتها، ثم توج بانقسام سياسي ومؤسساتي أفضى إلى بناء سلطتين تحت الاحتلال، تتفرد الاولى في إدارة السلطة في الضفة والمنظمة، وتتفرد الثانية في إدارة قطاع غزة، حيث فشلت كل الجهود الفلسطينية والعربية والدولية لإنهاء الانقسام وإتمام المصالحة مع تعمق حالة التفرد وغياب المؤسسات والانتخابات العامة.
وفي هذا السياق، يبرز الانقسام حول إصلاح وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس الشراكة وإجراء انتخابات لمجلسها الوطني، حيث يرفض الطرف المهيمن عليها فتح ملف إصلاحها أوإعادة بنائها، رغم تراجع دورها ومكانتها التمثيلية والمعنوية، وضعف أداء أجسامها ومؤسساتها الشعبية، وبقائها جسما يتم استخدامه من قبل الرئيس بما يبقي هيمنته المطلقة على النظام السياسي. كما ينعقد الانقسام حول طرق واستراتيجية الصراع مع الاحتلال، بين استراتيجية التفاوض واستراتيجية المقاومة المسلحة، وأيهما أجدى في تحقيق الأهداف الوطنية. وهناك آخرون يطالبون بالجمع بين الاستراتيجيات، فيما تنادي أطراف أخرى بشق مسار جديد يقوم على التوافق على برنامج وطني واستراتيجية نضالية شاملة وقيادة جماعية وإدماج حركتي حماس والجهاد الإسلامي في المنظمة، عبر التوافق الوطني لفترة مؤقتة لحين إجراء الانتخابات الشاملة، في حين يطالب آخرون بتجسيد مؤسسات الدولة الفلسطينية، من خلال خطوات فعلية وعدم انتظار قبول الاحتلال أو موافقته على ذلك.
وسط كل ذلك، يبقي التداخل بين السلطة ومؤسسات الدولة والمنظمة قائما، في صورة تتجسد في الرئيس الفرد، دونما عمل مؤسساتي، فلا سلطة قائمة على مبادئ سيادة القانون بعد حل المجلس التشريعي، والهيمنة على القضاء، وتشكيل الرئيس الحكومات منفردا على خلاف القانون الأساسي، وسلطة في غزة تديرها وتشكلها حركة حماس بشكل منفرد، فيما تواصل كلا السلطتين تعطيل العملية الديمقراطية وإجراء الانتخابات، بحيث استمرت عملية استعصاء المصالحة التي قامت على رؤية حركة فتح والرئيس لاستعادة السيطرة على قطاع غزة واقصاء حركة حماس، فيما تريد حركة حماس بقاء هيمنتها الانفرادية على القطاع والمشاركة في السلطة في الضفة والمنظمة، الى ان جاءت قيادة حركة حماس الأخيرة التي قدمت مقاربات صالحة للمصالحةـ رفضت كلها وعطلت وعرقلت بما فيها “مبادرة العاروري والرجوب” لإجراء الانتخابات التي تم تأجيلها قبل يوم من موعد بدء الدعاية الانتخابية تحت كلمة حق يراد بها باطل، وهو عدم موافقة إسرائيل على إجرائها في مدينة القدس، مع ما تركه تأجيل الانتخابات من تداعيات أبقت المشهد السياسي في حالة الانقسام والصراع.
وسبق ذلك وترافق معه، فشل كل الدعوات لإجراء مراجعة نقدية لتجربة الحركة الوطنية، وإنجاز المصالحة التاريخية بين المكونات السياسية الفلسطينية، ومطالبات بوقف التفرد في إدارة المؤسسات الوطنية في الضفة والقطاع، وإجراء الانتخابات، وتطبيق اتفاقيات المصالحة في القاهرة والجزائر التي جري تعطيلها، وتبعتها لقاءات برعاية موسكو وبكين والقاهرة أفضت الى توافقات وتوقيع اتفاقيات وضعت لغاية الان على الرف من قبل الرئيس، فيما تواصل استعصاء التوافق الوطني والمصالحة خلال حرب الإبادة الجماعية، ليقف الفلسطينيون على مفترق طرق امام نكبة جديدة وحرب إبادة ومخططات ضم واستيطان وتمييز عنصري، في ظل استمرار الفشل في وقف الحرب، وعدم القدرة على التصدي لمخططات وجرائم الاحتلال والعجز عن الوفاء باحتياجات المواطنين الإنسانية. أما القيادات، فإنها تستمر في الصراع على البقاء في الحكم والسلطة، وعدم التوافق على المرحلة الانتقالية إن كان هناك وقف للحرب والعدوان في غزة، ما بين رؤية عودة السلطة دون توافق وطني، وبين حكومة كفاءات، أو لجنة إسناد بتوافق، وبين رؤية إسرائيلية لحال القطاع والضفة، ورؤية أمريكية أخرى، ورؤى إقليمية وعربية متعددة.
سابعا: تكريس الاحتلال وانقلاب المعادلات
في ظل الأهداف الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة من العدوان الوحشي على قطاع غزة، واصلت دولة الاحتلال حربها الإبادية وانتقامها من قطاع غزة وسكانه، واضعه الحرب هدفا بحد ذاته، ومستخدمة المفاوضات غطاء لإطالة أمدها، بشكل يمكنها – عدا عن المحافظة على بقاء نتنياهو في الحكم، واستمرار تماسك الائتلاف اليمني الفاشي الحاكم – من تطبيق مخططاتها تجاه القطاع، والتي ظهرت على لسان أكثر من مسؤول إسرائيلي، حيث تواصل قوات الاحتلال العمل على إجراء عمليات التغيير الجغرافي والديمغرافي في القطاع بنية الإبقاء على وجود احتلالي مستدام في القطاع، تحرص خلاله على جعل القطاع منطقة غير صالحة للحياة، وتمنع فيه التواصل الجغرافي بين مدن القطاع في الشمال والجنوب، بهدف منع عودة النازحين قسرا واستكمال افراغ شمال القطاع من السكان وتدميره كليا، بحيث لا يستطيع أحد العودة اليها والعيش فيها.
وفي حال نجاح هذا المخطط في الشمال، سوف يطبق في مدينة غزة ومحيطها، بما يعمق من أزمة اللجوء القسري واللاجئين، والتي يترافق معها القضاء على وكالة الغوث الدولية، فيما تواصل إسرائيل التصريح بعدم موافقتها على إنهاء الحرب، بما يعني أحد أمرين: إما احتلال كامل للقطاع، وإن كان مكلفا لها بشريا واقتصاديا، لكنه يمنحها مزايا لتوظيف جريمة الإبادة وتدمير القطاع واستكمال عملية التهجير الكلي أو الجزئي لسكانه متى فتحت أي نوافذ عربية أو دولية أو لاقت القبول من إدارة الرئيس ترامب، الذي شكل فريقا يبدو داعما بشكل مطلق لإسرائيل، وإما أن تتسع الصفقة لتطال الضفة الغربية وضمها والسيطرة عليها بالحد الأدنى من السكان، مع خلق أوضاع تسمح بتهجير كل أو جزء من سكانها. كما تعمل الإدارة الأميركية على إنجاز مزيد من صفقات التطبيع، وخاصة مع السعودية، رغم أن الطريق لا يبدور سالكا على هذا الصعيد في ضوء موقف السعودية التي تريد وقف الحرب وفتح مسار جاد لإقامة الدولة الفلسطينية، كما تقود من أجله تحالفا دوليا وعربيا، مع استمرار الرفض المصري والأردني والعربي والدولي لمخططات التهجير، بما يفتح الباب أمام صفقة جزئية يجري التفاوض عليها، ولكنها لا تنهي الحرب، وبما يضمن لإسرائيل بقاء السيطرة الأمنية على القطاع والضفة، واستكمال بنية سيطرتها الاحتلالية على الضفة والقطاع، وإن سمحت بتشكيل هيئة مدنية لإدارة القطاع، أو أبقت على السلطة طالما التزمت بالوظيفة الأمنية وتعهدها بعدم القيام بأية خطوات قانونية أو تحركات على المستوى الدولي تلحق الضرر بإسرائيل.
وبناء على ما سبق من إيضاحات تؤكدها الوقائع على الأرض التي قام بها الاحتلال في القطاع ويقوم بها في الضفة الغربية، وفي ضوء مخططات الاحتلال المعلنة وتصريحات نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين، تبقى المشكلة في القراءة الفلسطينية والدولية والعربية التي تركز على تدفق المساعدات الإنسانية، ونتائج المفاوضات والبحث عن تهدئة ومتابعة التفاصيل حول التفاؤل الحذر بقرب التوصل الي اتفاق، وتحقيق اختراقات في عملية تضليل ومناورات إسرائيلية تشكل غطاء لإطالة أمد الحرب، وتخفيف الضغط الدولي المطالب بوقف الحرب وقتل المدنيين، وكذلك تخفيض أو إسكات الأصوات الداخلية، وخاصة لعائلات الأسرى الإسرائيليين ومؤيديها المطالبين بصفقة شاملة تفرج عن جميع الأسرى حتى لو كان الثمن إنهاء الحرب، عدا عن التغطية على طبيعة الأهداف الإسرائيلية التي يجري العمل لتكريسها على الأرض، وتشي بشكل جلي بدوام الاحتلال، وتقليص مساحة القطاع، وتقسيم قطاع غزة الى وحدات جغرافية غير موحدة في الشمال والجنوب، بصورة قريبة لهندسة مناطق الضفة؛ شمال وجنوب ووسط، ومناطق (أ وب وج). وفي الوقت الذي تدرك فيه حركة حماس والسلطة السعي الإسرائيلي الاستراتيجي لتقويضهما ورفض حكمهما لغزة، إلا أن كلا منهما يناور بطريقته من اجل البقاء ضمن الهوامش التي يتحيها الاحتلال الإسرائيلي الجزئي والمستدام لإدارة بعض شؤون السكان، ودون ان يتحمل الاحتلال كلفة المسؤوليات القانونية والإنسانية وفقا لقواعد القانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة، الذي داستها سابقا والآن طائرات ودبابات الاحتلال في غزة والضفة.
في المقابل، بقي خطاب النخبة المتباين والخطاب الفصائلي وخطاب السلطة يدور حول الصراع على البقاء والتمسك بالسلطة، الأمر الذي عمق من حالة الانقسام لدرجة أن أي متابع للخطاب السياسي الفلسطيني يلاحظ انفصال معظم القيادات السياسية والنخب عن الواقع الكارثي لسكان غزة، والذي يخفي من ورائه التغييرات في الجغرافيا السياسية التي تسعى إسرائيل لفرضها في الضفة الغربية وقطاع غزة لضمان فرض السيطرة الاستعمارية الدائمة على الضفة الغربية وقطاع غزة وضم أجزاء واسعة منهما الى دولة الاحتلال.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وحرب الإبادة الجماعية، لم تتوقف الجهود الوطنية والعربية والدولية في محاولة لوقف الحرب وضمان تدفق المساعدات، وبحث مصير قطاع غزة الذي يحدد بناء على نتائج المعركة الدائرة التي تعاملت معها دولة الاحتلال باعتبارها حرب وجود، مستخدمة معظم قواتها العسكرية، ومظهرة وحشيتها ومخططاتها الاستعمارية التي جرى الكشف عن معظمها، سواء فيما يتعلق بالفلسطينيين أم المنطقة والإقليم، وبعضها قديم جديد أو خضع خلال الحرب للتجريب والتطوير في ضوء الوقائع وردود الأفعال الفلسطينية العربية والإقليمية والدولية، التي كان أخطرها مخطط تهجير سكان القطاع الى سيناء. وهو المخطط الذي أوقفه صمود الناس والمقاومة من ناحية، وموقف مصر الرافض للتهجير من ناحية أخرى، ما أدى الى تجميد المخطط مؤقتا، واستبداله بعمليات تهجير قسري داخلي، مع الإبقاء على المخطط الرئيسي الذي لم تسقطه دولة الاحتلال من حساباتها، الى أن تحين الفرص المناسبة.
وفي الوقت اتذي تتسع فيه دائرة العدوان، بقيت إسرائيل تناور بالمفاوضات في علمية تعمية واشغال العالم والفلسطينيين في الحديث عن المفاوضات واليوم التالي، مع المطالبة المتكررة بإطلاق سراح الأسرى، والتمسك بتحقيق أهداف الحرب في إنهاء وتدمير قدرات وحكم حركة حماس ومنع أي تهديد من قطاع غزة مستقبلا وتأمين الحدود، رغم ان العدوان تجاوز استهداف حركة حماس وقدراتها وحكمها ليطال كل سكان غزة، وأطفالهم قبل كبارهم، ونساءهم قبل رجالهم، وهذا ما تؤكده نتائج حرب الاحتلال المتواصلة، واحصائيات ضحايا الإبادة. كما ان العدوان استهدف معظم بيوت ومخيمات ومدن القطاع دون استثناء والبنية التحتية وقطاعات الخدمات ومعظم المنشأت المدنية والآثار والمساجد والكنائس والمدراس والجامعات والمستشفيات، محولا القطاع إلى منطقة منكوبة ومدمرة بشكل شبة كلي في كل المناطق التي تعرضت الى الهجوم البري. فقد واصل جيش الاحتلال الضغط العسكري بكل الأسلحة والطرق المجرمة ليضع كل سكان غزة أمام كارثة الجوع والمرض والأوبئة دون استثناء، والأمر لا يقتصر على القطاع بل يطال الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى والأماكن الدينية، وإن ظهر ان مخططات الضم تقرر تطبيقها بالتدريج بما يقلل من الإدانات الدولية، كما تم فرض حكم شبة عسكري على الفلسطينيين في مناطق 48 وسن ترسانة من التشريعات العنصرية أشبه بقرارات الحكم العسكري منها للقوانين الدستورية التي تكفل المساواة وضمان حقوق المواطنة.
وأدت جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسات التجويع إلى انشغال الفلسطينيين في متابعتها ومطالبة المجتمع الدولي بوقفها ومتابعة ردود الأفعال على جرائم الاحتلال والتحركات الدولية التي بدت عاجزة عن إنهائها، ووقف الدعم الأمريكي والغربي من بعض الدول ذات الخلفية الاستعمارية، ليتركز امل الفلسطينيين على المتابعة مع الوسطاء لبذل الجهود لوقف الحرب، ليتصدر المشهد الى جوار الجهود المصرية والقطرية والولايات المتحدة التي لم تظهر جدية في استخدام قدراتها للضغظ على إسرائيل، بل في كل مرة يفشل فيها نتنياهو جهود الوسطاء ويضع العراقيل تعود الولايات المتحدة الى تبني وجهة نظر إسرائيل والاعلان عن كون حماس المعرقل لفرص إتمام الصفقة، رغم ابداء الحركة ومن خلفها فصائل المقاومة المرونة لتجاوز بعض العقبات.
وبذلك واصلت الولايات المتحدة منح إسرائيل الغطاء لاستمرار الحرب. ورغم إظهار معارضتها لدخول رفح او احتلال أجزاء من قطاع غزة، أو الاستيطان فيه، أو توسيع الحرب لتصل إلى حرب إقليمية، إلا ان نتنياهو مضى في مخططاته لتلحق به الولايات المتحدة وتدعم ما فعلته إسرائيل، منذ بدء الحرب، في ظل مواصلة مسؤوليها الطلب من حماس تسليم الاسرى والاستسلام، وضمان تمكين “السلطة المتجددة” من حكم القطاع.
وبينما أظهرت الولايات المتحدة دعما غير محدود لإسرائيل، متبنية مواقفها ومدافعة عن جرائمها، تراوحت المواقف العربية بين المطالبة بوقف العدوان وضمان تدفق المساعدات الإنسانية وفتح أفق لتسوية سياسية قائمة على مبدأ حل الدولتين، والتوصل إلى صفقة تبادل على مراحل ثلاث يتم فيها ضمان تبادل الأسرى وتعزيز الاستجابة الإنسانية وإعادة الاعمار، فيما بقي التساؤل عن طبيعة الحكم في حال الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في ظل رفض حكم حركة حماس ورفض عودة السلطة. لذا توالت الاقتراحات الوطنية والعربية والدولية، التي قدمت مقاربات منها ما يطالب بإصلاح السلطة ومؤسساتها لتولي المسؤولية عن قطاع غزة، وأخرى تطالب بوجود قوات عربية ودولية، فيما يركز معظم النداءات الوطنية التي قام عليها عدد من الشخصيات وقيادات في القوى الفلسطينية، بما فيها قيادات من حركة حماس وفتح، من حيث الجوهر على تشكيل حكومة وحدة وطنية أو كفاءات وطنية وتطبيق اتفاقات المصالحة السابقة.
كما تركزت رؤية السداسية العربية، وخاصة جهود قطر والسعودية والإمارات على وقف الحرب وتشكيل حكومة تكنوقراط وإصلاح السلطة واختيار شخصية فلسطينية تحظى بقبول دولي، وتعيين نائب للرئيس، بما يمكن من تسويق الحكومة والسلطة ويضمن فتح آفاق دولية تتماشى مع المطالبات الدولية بحل الدولتين.
في المقابل، لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الفصائل، بما فيها فتح وحماس، على تشكيل هيئة مدنية او لجنة إسناد مجتمعي بعد تعذر الاتفاق على تشكيل حكومة كفاءات مهنية، بناء على اقتراح مصري، ليواصل الرئيس وضع كل المطالبات والاتفاقيات على الرف، بما أفشل كل الجهود والمطالبات الفلسطينية والعربية والدولية للتوافق الوطني، وعطل مقاربة قيام السلطة بالحد الأدنى من واجباتها تجاه سكان غزة طيلة فترة العدوان، سواء بالإيعاز بتقديم المساعدات واعلانها منطقة منكوبة وحشد الدعم الدولي والميزانيات لصالح إغاثة سكانها، أو قيادة التحركات الدولية وتجنيد قدرات السلطة الصحية والإنسانية في خدمة سكان القطاع.
ولعل من الجدير توضيحه بان هناك فرقا بين المنظمة ومن يقودها وطريقة اتخاذ القرارات وتنفيذها، كما أن هناك فرقا بين السلطة ومن يديرها، فالخلاف ليس على هيكل السلطة التي يجب أن يعاد بناؤها على أسس سيادة القانون وضمان تحولها الى سلطة خدمية لكل الفلسطينيين، مع نقل وظيفتها السياسية للمنظمة، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، والتي يجب ترسيخ استقلاليتها ويعاد تفعيل دورها ومؤسساتها على أسس الشراكة والديمقراطية.
أما الدولة، فيجب عدم اقتصار وجودها على شخصية الرئيس، في ظل الخلط بين مؤسسات السلطة والدولة والمنظمة، اقتصار الفعل بإصدار الكتب الرسمية في بعض الحالات على ترويسه الدولة، وتارة السلطة، حتى في تقديم التقارير الدولية والمراسلات. فالانضمام للمنظمات الدولية والاتفاقيات والمتابعات يتطلب مؤسسات دولة وقوانين دولة ورجال دولة، ما يوجب الشروع في متطلبات تجسيدها بدءا من اعداد وإقرار دستورها بطريقة ديمقراطية، وصولا لنقل مؤسسات السلطة تدريجيا اليها والبدء في خطوات تجسيدها رغما عن الاحتلال، وتماشيا مع الجهود الدولية وقرارات الأمم المتحدة والاعتراف الدولي، والتهيئة لانعقاد المؤتمر الدولي الذي دعا اليه قرار الجمعية العامة والمزمع انعقاده في حزيران 2025.
ثامنا: لماذا وصلنا إلى هنا؟
بناء على ما سبق، يتضح ان غياب التوافق الوطني، وخاصة في فترة حرب الإبادة، يعود الى أسباب رئيسة يمكن تلخيصها بالتالي:
1. موقف السلطة والرئيس
السبب الأول ممانعة الرئيس الذي رغب بالنأي بنفسه وبالسلطة عن حركة حماس والطوفان، في محاولة للحفاظ على بقائه وعدم دفع ثمن الوحدة مع حماس التي بات رأسها تحت المقصلة، في توهم بان ذلك يمكن ان يحافظ على بقائه ودوره اللاحق، وضمان إعطاء دور للسلطة في قطاع غزة، مع الامتناع عن القيام بمعظم الواجبات القانونية التي يمليها عليه منصبه السياسي والقانوني. وبدلا من ذلك، مارس الرئيس العمل السياسي عبر القيام بمناورات متعددة تحافظ أولا على بقائه الشخصي ومصالحه، وتمنع أو تعرقل أية عمليات إصلاح حقيقة بما يقطع الطريق على محاولات إضعافه بعد ان سيطر على كل المؤسسات الوطنية، وبات لا أحد يملك معارضته. وفي اطار ذلك، جاءت الاستجابات بتبديل الحكومة وارسال الوفود للحوار والاستجابة المحدودة لطلبات الدول بإجراء بعض التغييرات التي قام بها مضطرا، وبصيغته وفقا لما يريد.
وفي مجال التوافق الوطني، اتسم أداء الرئيس قبل الحرب وخلالها بصيغ أقرب للمجاملة السياسية منها للعمل الجدي المطلوب لإصلاح وتفعيل المؤسسات الوطنية وتنفيذ ما يتم التوافق حوله، ومع كل صيغة للاتفاق يلجأ الرئيس الى تقديم بعض الخطابات الرسمية المنادية بالوحدة وجاهزية السلطة والمنظمة للقيام بدورهما، رغم إدراك الجميع بوجود ضعف شديد وغياب الفعالية في المؤسسات الوطنية. ومؤخرا، ترافق خطاب جاهزية السلطة مع خطوات أمنية على الأرض لاستمرار ضبط الأوضاع في الضفة لتجديد اعتماد السلطة فيما تبقى من الضفة الغربية، بما يفتح الباب لاحقا لقبولها في غزة، وخاصة في طل بعض الدعوات الإسرائيلية للتخلص من السلطة.
2. موقف حركة حماس
السبب الثاني اعتقاد ورغبة حركة حماس في وقف حرب الإبادة وضمان الاستجابة الإنسانية وإعادة الاعمار ورفع الحصار، طنا منها ان هذا ممكن في ظل ما قدمته المقاومة من بطولات وتضحيات، إضافة الى احتفاظ الحركة بورقة الأسرى. ورغم فارق القوة، وكل ما فعلته إسرائيل من قتل ودمار وكارثة إنسانية، تقلل الحركة ومعها أطراف أخرى من تداعيات عدم تقدير رد الفعل الإسرائيلي، بل وترى أن التضحيات تعد بمثابة استحقاق وطني تفرضه طبيعة النضال ضد الاحتلال كما فعلت معظم الثورات في العالم، في إصرار على صوابية موقفها ورؤيتها، وتكابر في ترديد سردية مفادها أن خسارة القيادات الأولى والكوادر الأساسية وعائلاتهم ومقدرات الحركة جاءت دفاعا عن فلسطين دون مراجعة فعلية للثمن الذي دفعته الحركة وقطاع غزة والتداعيات الإستراتيجية لذلك. وفيما تضيف ان إسرائيل تلقت ضربات موجعة من المقاومة التي قامت بما عجزت عنه جيوش عربية، ومواصلة الصمود لأكثر من 14 شهرا، مع عمليات الإسناد من المحور وإن فصلت الساحات، ما تسبب لإسرائيل بخسارة كبيرة في الأرواح والممتلكات والاقتصاد والمكانة الدولية وأظهرها على حقيقتها الاستعمارية وطبيعتها التوسعية والعدوانية ومخططاتها التوراتية بإقامة إسرائيل الكبرى من الفرات للنيل.
ويعني ذلك ان الحركة، وعلى الرغم من صوابية بعض ما تقول، إلا انها لم تقم بشكل جدي بتقييم موضوعي لنتائج وتداعيات الطوفان على قطاع غزة، الذي دفع كلفة فاقت ما دفعه الشعب الفلسطيني خلال عقود من النضال، عدا عن التدمير والنكبة التي حلت بالقطاع، وعودة الاحتلال للقطاع سواء بشكل مستدام أو جزئي، فضلا عن إدراك الحركة بان إبعادها عن الحكم أصبح مطلبا دوليا عدا عن كونه إسرائيليا لضمان وقف الحرب وإعادة الاعمار وتدفق المساعدات. وواقع الحال أن هذا الإدراك قد تأخر، فمنذ بداية جولات التفاوض واصلت حماس إدارة التفاوض بشكل منفرد دون ان تسعى لتشكيل وفد مشترك من الفصائل، أو ان تدعو قيادة حركة فتح للمشاركة في الوفد، وإن حرصت حماس على التشاور الدائم مع باقي فصائل المقاومة واللقاء مع بعض الشخصيات الوطنية ووضعهم في صورة المفاوضات.
لقد ارتكزت رؤية الحركة في الأشهر الأولى، وبعد تحقيق الاختراق في اتفاق التهدئة الأول الذي استمر لخمسة أيام ومدد ليومين، بانه يمكن مع مفاوضات التهدئة تحقيق قدر كبير من عودة الأوضاع الى ما كانت عليه، بما يضمن لها البقاء بصيغة أو أخرى في الحكم بقطاع غزة، أو ضمان دورها ومكانتها في أية صيغة حكم، كون الجميع يعرف بانه دون توافق معها ومع الفصائل لا يمكن ان يتمكن أحد من حكم القطاع، وكذلك ضمان تحقيق رؤيتها في الانضمام لمؤسسات النظام السياسي، وخاصة منظمة التحرير التي تطالب حماس ومعها الكثيرون بإعادة بنائها على أساس الشراكة والاتفاقيات الموقعة. ولذا عبرت عن رفض عودة السلطة على ظهر دبابة إسرائيلية، مشترطة التوافق الفلسطيني على رؤية اليوم التالي الذي يجب ان يكون فلسطينيا، لتطرح بداية تشكيل حكومة وحدة وطنية فصائلية، وعندما شعرت بتعذر ذلك قبلت كل المبادرات والصيغ التي تحافظ لها على مكانتها واستظلالها بالوحدة الوطنية وما تبقى من الشرعية الفلسطينية، رغم ادركها بانها لابد أن تكون خارج أية حكومة يتم تشكيلها، لذلك وافقت على حكومة كفاءات مهنية، وعند تعذر ذلك بسبب رفض الرئيس المتكرر لتشكيلها وذهابه منفردا في تشكيل حكومة محمد مصطفي كأمر واقع، وافقت الحركة على تشكيل لجنة إسناد مجتمعي مستقلة مقدمة تنازلات كبيرة في تخليها عن الحكم، وعن دورها في مشهد الحكم بقطاع غزة، لتفاجأ حماس وباقي الفصائل برفض الرئيس تشكيلها رغم موافقة وفد حركة فتح عليها.
3. موقف القوي والنخب والمؤسسات الشعبية والأهلية
تظهر تطورات المشهد في قطاع غزة ان هناك شعبا يتعرض للإبادة والعدوان والاحتلال وجرائمه من ناحية، وانه يعطي الأولوية لإنهاء حرب الإبادة وضمان تدفق المساعدات الإنسانية وتعزيز الاستجابة العاجلة لمختلف احتياجاته وضمان تقديم الخدمات اللازمة له. ومن ناحية أخرى، يظهر الشعب رغبة حقيقة وتوق الى أي توافق وطني يحقق له الوحدة وتكاتف الجهود لتعزيز صموده وإعادة الاعمار والتعويض، بعد ان أنهكته حرب الإبادة وذل العيش في المجاعة والنزوح وانتشار الفوضى والفلتان والسرقات والتشكيلات العصابية، وأتعبه الانقسام والتفرد والصراع على السلطة والتفرد في إدارة الشأن العام، سواء سلما ام حربا، وأنهكه الانقسام في النظام السياسي، إضافة الي شعور الناس في غزة بالخدلان الفلسطيني الرسمي والشعبي في الضفة الغربية ومناطق 48، عدا ادانته للعجز الدولي الفاضح الذي وصل حد التواطؤ في جريمة الابادة الجماعية.
ورغم جسامة التضحيات وعظم التحديات والمخاطر الوطنية والإنسانية، فشلت لغاية الان كل مقاربات التوافق الوطني في ظل كل الجهود الداخلية والخارجية التي تدفع نحو صيغة تضمن الحفاظ على وحدة الجغرافيا والحكم، على الرغم من كل ما تنطوي عليه من تنازلات من أي طرف لصالح وحدة المؤسسات القيادية وحفظ المصالح الوطنية ودعم صمود الناس في مواجهة الاحتلال، كون الأولوية لوقف حرب الإبادة والحفاظ على بقاء الشعب والقضية واحباط مخططات عودة الاحتلال وتطبيق خطة الحسم والضم والتهجير.
تبدو غزة وفلسطين عموما وكأنهما بحاجة الى معجزة لإنقاذهما من الإبادة والاحتلال، ومن قيادتهما ونخبهما العاجزة عن الاتفاق على رؤية شاملة بالحد الأدنى، وبدلا من التفكير في المستقبل وتوظيف توحيد الطاقات في المواجهة، واستحداث وتفعيل أدوات العمل الوطني بما يستجيب للتحديات، يبقى الحفاظ على الذات والطبقة الحاكمة والحنين الشعبي الى ما قبل السابع من أكتوبر سيد الموقف لدى العقل الفلسطيني الذي تجاوزته الأحداث والوقائع، كما تجاوزت الحياة الرهان على القانون والمجتمع الدولي والتحركات العربية والإسلامية والانسانية التاريخية التي تبقي بطولات تتغنى الغالبية الشعبية بها، فيما القوى الداعمة للقضية الفلسطينية مع كل التقدير لها، فإن مصالحها وقراراتها الخاطئة لا تكفي لردع الاحتلال الذي أعلن عن خوضه حرب وجود، بما مكنه من فرض معادلة جديدة في الصراع وتقاسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط ، فيما يبقى غياب المشروع العربي النهضوي الموحد، وإن شهدنا تبدلات لمقاربات عربية مختلفة إلا انه لا يمكن الرهان عليها بعد في عالم أحادي القطب، وإن بدت بعض مظاهره في التوجه نحو نشوء عالم متعدد الأقطاب لم يتبلور بعد. كما خلا العالم تقريبا من الزعماء والنخب القيادية الريادية إلا من بعض الدول التي قامت بالحد الأدنى من واجباتها الأخلاقية، رغم ان صورة العجز الدولي الفاضح ظلت حاضرة وعاجزة عن وقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي، لتبقى منطقة الشرق الأوسط منطقة الصراع المفتوحة على النفوذ والمصالح التي تتكرس فيها هيمنة الأقوياء على حساب الشعوب ودول المنطقة، فيما النظام الدولي يرتد عما حققه من منجزات إنسانية لحماية حقوق الانسان ومنع الصراعات وتصفية الاستعمار.
تاسعا: استنتاجات
ما بين حماس وفتح، نخب وقوى وشخصيات ومراكز ومؤسسات تطرح المبادرات التي تنطلق من تطبيق اتفاقيات المصالحة، وعلى راسها اتفاق بكين القاضي بتشكيل حكومة كفاءات وطنية، فيما تنطلق مبادرات أخرى من أولوية التوافق الوطني على رؤية وخطة للمرحلة وإدارة مؤقتة للمرحلة الانتقالية، بعد تعذر تشكيل حكومة الكفاءات، ورفض إسرائيل لكل من السلطة وحماس، بأية صيغة على إدارة قطاع غزة، وبالتالي ترى ضرورة تسليم القطاع للسلطة وتمكينها من ادارته، فيما تطالب اخري بالتوافق علي تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي لإدارة القطاع لمرحلة انتقالية لتعمل حتي ولاية السلطة والحكومة .
كما تطالب مبادرات أخرى بالتركيز على إعادة بناء المؤسسة الوطنية الجامعة ممثلة بمنظمة التحرير وضمان انخراط كل الفصائل فيها والكفاءات بالتوافق، وان المدخل لذلك هو عقد الاطار القيادي الموقت للمنظمة على أن يتم تشكيل المجلس الوطني بالتوافق لحين اجراء الانتخابات، ويترك للمجلس الاتفاق علي برنامج ساسي وخطة وطنية وانتخاب قيادة موحدة.
وتطالب مبادرات أخرى باستقلالية قطاع غزة وتحييده عن الخلافات بعيدا عن السلطة التي تقاعست عن القيام بواجباتها، وعن حماس التي نفذت عملية الطوفان وأعطت إسرائيل الذريعة لتفعل ما فعلته في قطاع غزة.
وتنطلق مبادرات أخرى من تحميل الاحتلال مسؤولية جرائمه، وكون الاتفاق على التهدئة المتوقع سيكون جزئيا في ظل ما قامت به إسرائيل، مع انشاء بنية عسكرية لإدامة الاحتلال، بما في ذلك انشاء وحدة الأنشطة الإنسانية وتعزيز الإدارة المدنية لدورها في حشد التمويل الدولي ومتابعة السيطرة والتحكم في منسوب المساعدات، وفي ظل افراغ شمال غزة من السكان، بمعني ان يتحمل الاحتلال مسؤولياته وفقا لأحكام القانون الدولي الإنساني.
كما تصب بعض الصيغ للمبادرات في اطار الاستخدام السياسي عبر المباركة والتأييد والتفويض لخطوات طرف على حساب معارضة الاخر، أو توظف الأطراف المبادرات كما فعلت مع مبادرة الدعوة الي قيام السلطة والمنظمة بدورها في قطاع غزة وفقا لتوافق وطني وفصائلي على تمكين السلطة من إدارة قطاع غزة، لتعلن السلطة ترحيبها بالبيان، وثم تطلق حملة إعلامية موجهة تحول من خلالها المبادرة الى تأييد وتفويض لشرعية الرئيس والمنظمة والسلطة، وكأن النخب المبادرين يمنحون شهادات الشرعية أو يفوضون أحدا دون أن يقوم بواجباته، مستخدمة “فزاعة انفصال غزة”، لأنها تحتاج إلى مساحة أوسع، وان اثبت غزة وعبر شلال الدماء في أنها الأوفى والأكثر ارتباطًا وسعيًا وتضحية للحفاظ على المصير الفلسطيني الجمعي.
لتظهر السلطة حتي الان رغبة كلامية في استلام غزة وادارتها، ولكن دون ان تبادر الي فعل جاد لدعم صمود سكانها وإعلان القطاع منطقة منكوبة وتقديم المساعدات لهم والقيام بواجبات السلطة التي يوجبها القانون الفلسطيني تجاه قطاع غزة وباقي المناطق الفلسطينية.
فيما يوظف اخرين النداءات لدعم لجنة الإسناد المجتمعي وتشكيلها باعتبارها خيارا تكمليا مرتبط بمسار التهدئة، وان كان خيارا هجين ولكنه مصمم ليتيح للجميع النزول عن الشجرة، سواء الاحتلال أو القوى الفلسطينية، إذ إنه ودون إجابة واضحة عن اليوم التالي التي تضمن عدم سيطرة حركة حماس رسميًا على الحكم في القطاع، وعدم سيطرة السلطة ايضا، سيكون من الصعب أن يتحول مسار أي تهدئة إلى مسار شامل لوقف إطلاق النار، ورغم اتفاق الحركتين بناء على الجهود المصرية علي هذا الخيار الا انه وجه رفض وممانعة حتي الان من قبل الرئيس وحركة فتح.
فيما ظهرت مطالبات من البعض بإدارة مخلصة ونزيهة تكون مصلحتها انقاذ و إعادة غزة الى حياتها الطبيعية وحماية سكانها وإدارة أوضاعها لحين اتفاق الفصائل الفلسطينية وإجراء الانتخابات العامة في ظل فشل جهود التوافق الوطني، فيما تذهب مبادرات أخرى الى طلب تدويل القطاع وضمان وجود قوات عربية ودولية تمنع المخططات الإسرائيلية في استكمال الاحتلال وادامته والاستيطان في القطاع، وتضمن هدنة طويل الأمد، بما في ذلك ضمان منع عرقلة عمل وكالة الغوث والمنظمات الدولية في إيصال المساعدات والقيام بالخدمات، إضافة الي توفير استدامة مالية لإعادة الاعمار، وتوفير الحماية للمدنيين، فلا السلطة ستكون قادرة على حماية المدنيين ولا الفصائل الفلسطينية، ما يتطلب توفير الحماية بوجود قوات دولية في ظل غياب التوافق ولضمان تدفق المساعدات وعمليات اعادة الاعمار .
ولعل تحليل المبادرات والنداءات السابقة يظهر انطلاق معظمها من مدرسة المثالية السياسية بشأن ما ينبغي أن يكون، وهذا يتطلب ارتقاء القيادات الى مستوى أخلاقي ومستوى المسؤلية الوطنية وتغليب العام على الخاص، وهو أمر غائب في الحركة الوطنية والقيادة الفلسطينية، حيث تغلب الاعتبارات الفئوية والشخصية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني.
فيما بعضها انطلق من المدرسة التوفيقية لدرجة مراعاة أعلى درجات التوافق والتقاسم في حمل الأعباء الوطنية والإنسانية ورفض المعادلة الصفرية “إما نحن أو هم”، وهؤلاء في الغالب مكون وطني يدرك صعوبة تجاوز ثقل حركة فتح وارثها الساسي وقوة وحضور حركة حماس.
فيما بعض المبادرات الأخرى انطلق من مدرسة الواقعية السياسية التي تدعو للتوافق على الحد الأدنى ورؤية الوقائع على الارض، ومراعاة أفضل الممكنات المطلوبة والأنسب للمرحلة حتى لا يكون مصير الخطوات الفشل كما حدث سابقا في كل اتفاقيات المصلحة، ويختار هؤلاء الخيارات الأنسب لإدارة المرحلة الانتقالية، مفضلين حكومة توافق، فإن لم يحدث فلتسلم الإدارة للسلطة بعد توافق مع الفصائل الوطنية والإسلامية وحتي علي حالتها الراهنة وان لم تقم بدورها يجب في خلال حرب الإبادة، متذعرين بان لجنة الإسناد المجتمعي سوف تعمل تحت مظلة السلطة، فالأولي تمكين الحكومة الحالية علي رغم كل الملاحظات عليها.
وهناك آخرون ينطلقون في مطالباتهم من فكرة التفويض والبيعة، وهؤلاء أصحاب مصالح يتسللون من خلال التوافق، وفي النهاية يجيرون الفعل دعما لمصالحهم الشخصية أو رؤيتهم التي يرونها أكثر صوابية. والخطورة انهم يعتقدون امتلاك الحقيقة ويرفضون مناقشة أفكارهم ويرفضون الآخر، فيما يعتبر بعضهم نفسه أكبر من مستوى الحوار والنقاش وفقا لخبرته السياسية والفكرية مع أن نظرة موضوعية لحالنا الوطني، رغم هذه الخبرات الفكرية، تظهرنا للأسف بمظهر الخيبة والعجز الفادح وإلا ما كنا وصلنا الى ما وصلنا اليه. فإذا كنا نرفض التنازل لبعضنا البعض رغم وضوح المشهد بالاستهداف لكل ما هو فلسطيني في غزة والضفة وأراضي 48، وإن كان بتفاوت الجرائم، فما بالنا مع الوسطاء من الأشقاء والأصدقاء الذين استضافوا وفود الحوار الوطني التي لم نطبق مخرجات ما اتفقت القيادات السياسية عليه، ليبقى الانقسام حاضرا، بل ويتعمق ويتجذر في العقل والممارسة السياسية الفلسطينية، ويتكرس مع التغذية المستمرة من إسرائيل، ومن بعض الأطراف الإقليمية والدولية، الأمر الذي أبقي معه أصحاب المصالح الذين توسعوا في اطار جهودهم القائمة على مدرسة التركيز على إظهار فشل الآخر وتحميله مسؤولية استمرار الانقسام، ورفعوا من اعداد المستفيدين من بقائه، مستخدمين طرق الاحتواء والقمع السلطوي للمناوئين، ما أبقى العجز والقصور النخبوي والشعبي عن انهاء الانقسام وإعادة تفعيل المؤسسات الوطنية على أسس ديمقراطية.
لقد تمدد الانقسام وطال النخب الفكرية والاجتماعية والشعبية التي توزعت بين أطراف الانقسام، فيما صمتت أخرى خوفا على مصالحها، وعمل القلة من اجل فتح الفرص والحوار وممارسة الضغوط الشعبية على طرفي الانقسام.
كما توزعت القوى الأخرى بين الاصطفاف مع أحد طرفي الانقسام أو العجز عن بلورة بلورة تيار وطني ثالث قادر علي فرض معادلة تنهي التفرد والانقسام والتشظي وتفتح أفقا جديدا في العمل الوطني، وتجعل من التوافق فرصة قائمة وتضغط على كل الفرقاء، عدا عن ضخ دماء جديدة في الحقل الوطني، بما يعزز فرص المصالحة والتحضير لاحقا لإجراء الانتخابات والتغيير الديمقراطي والتفعيل والتوحيد لكل مؤسسات النظام السياسي على أسس ديمقراطية تكفل بناء شراكة بين كل الفئات والشرائح ومن مختلف التجمعات الفلسطينية، وهذا أمر يحتاج الى وقت.
في المحصلة، تذهب معظم المبادرات والنداءات أدراج الرياح كأنها صرخات في واد، دون مناقشة فعلية لكل الأفكار أو حوار وطني جاد تتطلبه اللحظة السياسية الراهنة والمأزق الكبير الذي نعيشه، وتداعيات حرب الإبادة الجماعية التي تحتاج الى تضافر كل الجهود الوطنية دون اقصاء، لوقفها، مضافا اليها الجهود العربية والدولية لتعزيز الاستجابة الإنسانية ، وضمان الانسحاب الإسرائيلي، وفتح أفق لعملية إعادة الاعمار التي فيها من الاشتراطات الكثير، عدا عن اختيار الأنسب والأكثر ملاءمة أو الجمع بين اكثر من فكرة او وضع الالولويات، بدلا من تسجيل الرفض او القبول في ظل معطيات واضحة لمواقف فلسطينية وعربية ودولية لا تريد السلطة دون إصلاحات جادة وحقيقية، ولا تريد حماس في مشهد الحكم، وإن كان أي حكم قادم يحتاج الى التوافق معهما، فيما يغفل البعض مصالح السواد الأعظم من الناس الذي يدرس خيار البقاء او الهجرة متي اتحيت له الفرصة هربا من حالة الانقسام والأوضاع التي وصل اليها قطاع غزة والضفة الغربية والقدس.
ولعل البيان الأخير الذي أطلقته مجموعة من الشخصيات المستقلة يأتي في سياق مطالبة السلطة بتحمل مسؤولياتها التي يوجبها القانون الفلسطيني، والذي يأتي في توقيت حساس ولينزع الذرائع من السلطة التي تقاعست عن القيام بواجباتها تجاه غزة، ويطالبها بعد 15 شهرا بالقيام بدورها بما في ذلك إعلان غزة منطقة منكوبة، بما لذلك من استحقاقات ادارية ومالية، وصرف مخصصات الشؤون الاجتماعية، وضمان شمول عائلات ضحايا الابادة ضمن شبكة الأمان الاجتماعي، واعفاء سكان القطاع من الضرائب والرسوم، وتقديم الدعم الإنساني للنازحين قسرا، والتحرك القانوني والدبلوماسي، والحوار مع مختلف المكونات والتوافق مع الفصائل المختلفة، واظهار جدية، بما في ذلك القيام بالاصلاحات الواجبة وضمان اجراء تعديلات توافقية لضم كفاءات وطنية ومهنية من قطاع غزة في الحكومة بما يوازي حجم التحديات والعمل المطلوب منها في قطاع غزة، وان تعلن صراحة عن القيام بواجباتها بخطوات فعلية، لا أن توظف النداءات للتفويض والتأييد لها، في محاولة لقطع الطريق على جهود التوافق على لجنة الإسناد المجتمعي التي باتت قاب قوسين أو أدني من الإعلان عنها جراء رفض السلطة لها، والرفض قبلها لحكومة الكفاءات، وكذلك رفض عقد الاطار القيادي، ورفض تطبيق اتفاقيات المصالحة ووضعها على الرف.
من جهة أخرى، يأتي افتراض بان سيطرة السلطة وعملها في غزة يمكن ان يتم بدون توافق فصائلي ، او ان عودتها بذات الهياكل سوف يجعل منها اكثر قبولا من المجتمع الدولي، أو ان إنهاء الانقسام على أهميته سوف يوقف مخططات الاحتلال، وللأسف يبدو اننا – والأمر يشملني – دائمو العواطف وتحكمنا أمنياتنا في بعض الأحيان ورغبتنا في منح بعض الأمل للناس والتي يكذبها الواقع الذي تسعي إسرائيل من خلاله الى إدامه احتلالها لغزة والضفة ومواصلة انفاذ مخططاتها.
ونظرا لارتباط شكل الحكم في غزة بجهود وقف إطلاق النار، في ظل رفض الاحتلال الإسرائيلي وجود كل من حماس والسلطة في مشهد الحكم، يجب الاسراع في التوافق الوطني لفرض شكل مقبول فلسطنيا وعربيا ودوليا يمكن فرضة وضمان قبوله، حتى لا يعيش قطاع غزة فراغا في اليوم الذي تتوقف فيه الحرب، وبما يقطع الطريق على ذرائع ومخططات الاحتلال التي ترغب بحعل اليوم التالي يوما إسرائيليا. ويمنع انزلاق القطاع الى أتون الفوضى والاقتتال والفقر وغياب العدالة وعرقلة التعويض وإعادة الاعمار والتهجير الطوعي و القسري.
والى ان يتضح المشهد الذي تناور فيه إسرائيل أمام المجتمع الدولي والأمم المتحدة ودول الاقليم والفلسطينيين رفضا لإنهاء الاحتلال، ساعية كعادتها لفرض أمر واقع جديد يرفضه العالم في البداية ويقبله لاحقا، ويتعامل معه كأمر واقع، بما في ذلك وقف عمل وكالة الغوث الدولية، لتبدأ رحلة البحث عن بدائل تقبلها إسرائيل.
عاشرا: خاتمة
تبقى معطيات المشهد الوطني والعربي والدولي تراهن على فرضية ان الهدنة الجزئية سوف تتحقق، ثم تفضي الى وقف الحرب وانسحاب إسرائيلي من قطاع غزة، وإن كان هذا من الصعوبة بمكان وغير متوقع وفقا للمؤشرات الميدانية وتصريحات الحكومة الفاشية في إسرائيل، كما يتوقف على جملة معيطات سياسية من بينها سياسات ترامب ودعمه لمخططات إسرائيل، ومدى القدرة العربية والفلسطينية على فرملة اندفاعة إسرائيل نحو حسم الصراع، واجبارها على دفع ثمن جرائمها في غزة، عندها تغدو مقاربة تحويل التضحيات الى فرصة لوقف جرائم الاحتلال العمل علي إنهاؤه أو على الأقل عرقلة مخططاته أكثر واقعية.
مما سبق وفي سياق القراءة الموضوعية المتجردة لحالنا الوطني نستنتج فشل الرهان على القيادة وأصحاب المصالح الموظفين لديها، والقوى والفصائل والمؤسسات والنخب طول حرب الإبادة وما قبلها، بحث تبدو كأنها تقادمت وتآكلت وترهلت وفسدت ولم توحدها المخاطر الوطنية السابقة ولا حرب الإبادة الجماعية المستمرة وجرائم التهويد والضم الاستيطاني الاستعماري، ومخططات التهجير وحسم الصراع، ليبقى الرهان على الفاعلين في الشعب الفلسطيني والشباب والأجيال القادمة بمساندة أحرار العالم، من دول وشعوب وحركات وقوى تغيير داعمة للإنسانية والقضية الفلسطينية، ورافضة لشريعة الغاب الأميركية والإسرائيلية، وازدواجية المعايير لبعض الدول الأوروبية، بما يمكن من مواجهة التحديات بخطة ورؤية ونضال شامل يوظف المتغيرات والفرص لصد مخططات الاحتلال ومنعه من تحقيق أهدافه الإبادية ومخططات التهجير وشطب الحقوق الفلسطينية، حتى وإن كانت صيغ المواجهة مختلفة في كل تجمع فلسطيني وفقا لظروفه ومعطياته، بما في ذلك ابتكار أدوات مستحدثة بمواجهة مستحدثة لمنع هدر التضحيات والمكتسبات الوطنية والدولية ولحماية البقاء والمشروع الوطني الفلسطيني، لحين تغيير ميزان القوى الإقليمي والدولي وحصول الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعودة اللاجئين.
يتطلب كل ذلك قراءة فلسطينية جديدة واعية ترى الصورة الحقيقة الكلية مع توظيف كل الأدوات الوطنية الملائمة لمواجهة المخططات الإسرائيلية والخطوات الفعلية التي تكرسها إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية، وعدم الانشغال بالتفاصيل، بشكل يجعل الوحدة ضرورة للمواجهة بديلا عن الاقصاء، وتراشق الاتهامات وتوسيع شقة الخلاقات الى اقتتال داخلي تظهر اعراضه في جنين.
ولعل التوافق الوطني على الحد الأدنى وتكريس الحوار الوطني وإعادة تفعيل المؤسسات الوطنية وفقا لرؤية وطنية وخطة متفق عليها وبلورة قيادة جماعية يكون الأساس للتكفير عن خطايا الانقسام والتفرد، وتدمير الذات الذي امتد لأكثر من 17 عاما.
ورغم الحاجة من كل الأطراف لإجراء تقييم موضوعي وصولا الى مراجعة وطنية شاملة لاستخلاص الدروس والعبر، لكن عامل الوقت ليس في صالح الفلسطينيين الذين لا يملكون ترف التركيز على التشخيص والتقييم فقط، وإنما يجب ان يقوموا بكل الأدوار دفعة واحدة، فما كان قد كان، والنار لا تزال مشتعلة في المنزل وعلى الجميع ان ينزل عن الشجرة لإطفاء الحريق أو لا يبقى أحد يعتقد ان وجوده على ساري السفينة سوف يمنعه من الغرق.
ويفرض هذا الأمر تبني مقاربة تقوم على المسارعة لبذل كل الجهود الوطنية من اجل وقف حرب الإبادة الجماعية والعدوان الإسرائيلي، وضمان تدفق المساعدات الانسانية، والاتفاق علي رؤية وخطة لإدارة المرحلة الانتقالية في غزة لحين التوافق علي ترتيب البيت الداخلي الذي يجب ان يتم العمل من اجله مع مواصلة الجهود لتدويل القضية الفلسطينية وتوظيف كل الأدوات النضالية الملائمة، وتعظيم الاشتباك الشعبي والدبلوماسي والقانوني، والاتفاق على خطة للمواجهة، وتوظيف كل العلاقات العربية والدولية لتشكيل حائط صد أمام مخططات الاحتلال لحسم الصراع، فالتحديات الكبرى توجب تغييرا نوعيا في الرؤى والأدوات والشخوص والسياسيات، ما يجعلنا قادرين على مواجهة المخاطر والتحديات الوطنية والإنسانية والحفاظ على الشعب والقضية. وهذا لا يمكن ان يتم في ظل تكلس النظام السياسي وتقاعس المؤسسات الوطنية عن القيام بدورها، وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية التي يجب ان يعاد تفعيلها على أسس التوافق والشراكة والديمقراطية، بما يضمن الاتفاق على برنامج سياسي وطني تحرري، واستراتيجية وخطة وطنية تراعي ميزان القوى وتعمل على تغييره لصالح القضية الفلسطينية، وقيادة موحدة تتابع طريق النضال والسعي لتوظيف التضحيات والمتغيرات الدولية من أجل دحر الاحتلال وتقرير المصير وتحقيق الاستقلال الوطني وعودة اللاجئين.