طبقًا لأرقام وزارة الصحة فى غزة تجاوز عدد القتلى (47) ألفًا، وعدد الجرحى أكثر من (112) ألفًا، لكن بعض المصادر الطبية الدولية ترتفع بالرقم إلى أكثر من سبعين ألفًا، فقدوا حياتهم، وهذا الرقم أقرب إلى الدقة، ذلك أن أرقام وزارة الصحة تستند على من أمكن تحرير شهادة وفاة له، المؤكد أن هناك آلافًا تحت الأنقاض، خاصة من الأطفال وكبار السن الذين لا يملكون سرعة الحركة والتصرف لتجنب القصف والقتل، وفى لحظات الهول لم يبلغ بوفاتهم ولا أقيمت لهم جنازات.
بعد الهدنة اكتشف أن هناك أكثر من ألفى شهيد تبخرت جثثهم جراء النيران.
الأرقام مفزعة ومفجعة، وحينما تساءل بعضنا، اعتراضًا على الوحشية الإسرائيلية وعلى الزج بالمدنيين فى هذا الأتون: ألم يكن ممكنًا تجنب هذه المذابح؟.. كان الرد هو الإحالة إلى ثورة الجزائر حيث «المليون شهيد» وإلى حرب فيتنام حيث الأرقام أكثر، ناهيك عما جرى فى الحرب العالمية الثانية، الاتحاد السوفيتى وحده فقد أكثر من عشرين مليونًا، الأرقام المعلنة بين الروس أنهم أكثر من ثلاثين مليونًا، هذا كله صحيح، لكن هذه البلدان كلها انتهت التضحيات لديها بالاستقلال التام وجلاء المحتل، أما فى الحال الفلسطينى لم يتحقق الاستقلال، كانت مطالب حماس- أثناء التفاوض- الوصول بالكاد إلى وضع يقترب مما كان عليه قبل يوم السابع من أكتوبر 2023، هنا يصبح التساؤل عن مدى دقة تقديرات الموقف والرهانات التى قامت عليها عملية السابع من أكتوبر، والمدى الذى يمكن أن يذهب إليه الطرف الآخر فى التوحش.
أثبتت الأيام والوقائع أن معظم التقديرات لم تكن دقيقة، كان التقدير الأول أن الحكومة الإسرائيلية والمزاج الإسرائيلى لن يحتمل الحرب أكثر من عدة أسابيع ثم يسعون إلى التهدئة، وثبت غير ذلك، المتطرفون فى الحكومة الإسرائيلية يريدونها حربًا أبدية، رئيس الوزراء المأزوم «بنيامين نتنياهو» وجدها فرصة لإعادة تنظيف اسمه أمام الرأى العام فى إسرائيل وللمد فى عمر حكومته.
كان الرهان كذلك على ما سُمِّى «وحدة الساحات»، ولم يتحقق، بل إن إيران منذ الأيام الأولى تنصلت من العملية واكتفت بالتعاطف، لكن الأخطر من ذلك هو عدم إدراك الهدف الإسرائيلى الذى تريده ولا تملك أن تعلن عنه.
تفاخر بنيامين نتنياهو أمام خصومه السياسيين وأمام اليمين المتطرف الذى زايد عليه أنه نجح طوال السنوات الماضية، منذ سنة 1996 فى تعطيل إقامة الدولة الفلسطينية، زعيم المعارضة أكد أنه مع «حل الدولتين لكن.. ليس الآن»، دون أن يذكر متى، الإجابة العملية «لا».
بعض الذين توصلوا إلى استحالة حل الدولتين فى ظل كل الظروف والمعطيات القائمة، ذهبوا إلى حل الدولة الواحدة، ثنائية القومية واللغة، هذا ما يبدو من أفكار رجل مثل «إيلان بابيه» وعدد من العلمانيين/ الإنسانيين فى إسرائيل وحول العالم، بعض المثقفين العرب باتوا يؤمنون- مؤخرًا- بهذا الحل، يقترحونه على استحياء، لكن إسرائيل لا تريد حتى أن تناقش هذا التصور، فضلًا عن أنه لا يجد قبولًا عربيًا أو فلسطينيًا. القرارات الدولية منذ قرار التقسيم فى نوفمبر سنة 1947، تتحدث عن دولتين وكذلك قرارات القمم العربية. اتفاق أوسلو بُنى على هذا التصور.
إسرائيل تتصور أنها يمكنها الإفلات من ذلك كله، عمليًا لا تريد أن ترى دولة فلسطينية، هى لن تسمح بذلك، كما أنها لن تقبل بدولة ثنائية القومية، هم يريدون دولة عبرية/ يهودية. الخروج من مآزق القرارات الدولية وتصميم الجوار العربى هو بالتخلص من الشعب الفلسطينى، هى لا تعتبرهم شعبًا، تسميهم الفلسطينيين.
فى اللحظات الأولى من يوم السابع من أكتوبر، قدمت الحكومة الإسرائيلية للعالم، ما جرى على أنه «محرقه جديدة»، أطفال تقطع رؤوسهم ويحرقون، نساء يغتصبن ثم يقتلن وتبنت الإدارة الأمريكية ذلك التصور، الرئيس الأمريكى بايدن ردد بعض هذه الحكايات فى مؤتمر صحفى، ثم تراجع، المهم أن الحكومة الإسرائيلية بنت خطتها على طرد أهالى غزة ودفعهم نحو سيناء، على الحدود، حتى إن أحد «الخواجات» تساءل، مَنًّا: ولماذا لا نفتح لهم ممرات آمنة وفق اتفاقية جنيف لدخول سيناء؟، وصاح بعض الهاتفين «افتحوا الحدود لإخوتنا»، لكن الدولة المصرية كانت منتبهة لخطورة ذلك التصور ورفضته، تكفى تجربة الذين خرجوا من ديارهم سنة 1948 على أن يرجعوا بعد أيام، ثم لم يعودوا إلى يومنا هذا، عدلت إسرائيل الاقتراح بأنه ليس من الضرورى أن يقيموا فى سيناء، وأن يذهبوا إلى العمق المصرى بعيدًا عن سيناء، اقترحوا مدينتى العاشر من رمضان والعبور.
مع فارق العقود والكلمات والظروف، هذا الاقتراح قدم سنة 1947 إلى رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى ورفضه، جاء الاقتراح وقتها من السفير الأمريكى فى القاهرة حين كانت إدارة الرئيس «هارى ترومان» تحشد وتعد لاستصدار قرار التقسيم، ثم قدم بعدها بعام إلى رئيس مجلس الشيوخ الدكتور محمد حسين هيكل (باشا)، وكان كذلك رئيسًا للبرلمان الدولى، وسخر منه، التفاصيل كاملة فى مذكرات «النقراشى» ومذكرات «هيكل».
وإذا لم يكن التهجير الودى أو القسرى ممكنًا، يبقى الحل الآخر هو الإبادة الجماعية أو التطهير العرقى، سمها ما شئت، وهذا ما جرى فى الحرب الأخيرة وما سبقتها من مواجهات فى غزة، هنا ينبغى أن نتوقف عند دلالات أرقام وعمليات القتل، لسنا فى مسابقة نظرية فى زيادة الأعداد، دعونا الآن من المليون شهيد أو حتى مليونين، كلما زادت الأعداد هنا زاد اقتراب إسرائيل من حلمها الكبير، تفريغ فلسطين من أهلها وإنهاء الوجود الفلسطينى تمامًا.
أخشى من التهوين فى مسألة الأعداد قياسًا على الحالتين الجزائرية والفيتنامية، قد يعطى ذلك الحكومة الإسرائيلية الذريعة لمزيد من القتل ويصبح الأمر «عاديًا»، لدى بعضنا، فريق آخر منا يتصور أن زيادة الأعداد قد تمثل ضغطًا معنويًا وسياسيًا على الحكومة الإسرائيلية وتحرك المنظمات الدولية ضدها، وحتى الآن نرى الإدانة والتحرك الدولى المحدود يركز على الجانب الإنسانى فقط، تقديم معونات إنسانية، أغذية وأدوية، توجيه اتهام لرئيس الوزراء الإسرائيلى ووزير الدفاع، لكن لا يتطرق هؤلاء إلى قضية ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلى واستقلال فلسطين، بايدن نفسه كان يصرخ فى التليفون مطالبًا نتنياهو بالسماح بدخول الأغذية والأدوية للفلسطينيين، تحدث كثيرًا عن المساعدات الإنسانية وكلف الجيش بإنشاء رصيف عائم على ساحل غزة لدخول المواد الغذائية، لكنه هو نفسه من كان يقدم السلاح ويرسل جنرالاته إلى «تل أبيب» للتخطيط والتنسيق العسكرى مع جيش الدفاع الإسرائيلى، ناهيك عن المدد المعلوماتى والمخابراتى الذى لم يتوقف.
فور بدء الهدنة فى غزة خرج مقاتلو حماس من الأنفاق ببزاتهم وبنادقهم، وصباح الخميس الماضى، نفذت حماس عقوبة الإعدام فى ستة من المواطنين، اتهموا بالتعاون مع العدو، أى أن حماس كما هى، ما زالت تحكم وتتحكم، كوادرها لا تزال موجودة لم تمس، بعض القيادات اُغتيلت فأفسحت المجال لقيادات أخرى كانت تنتظر وتستعد، وكل ما قام به جيش الدفاع الإسرائيلى هو عملية طحن وإبادة للمواطنين المدنيين، وهم لا شأن لهم بما جرى، كل جريمتهم أنهم فلسطينيون، لا نريد الذهاب إلى الفهم التآمرى وهو أن وجود حماس على هذا النحو، يعد ذريعة كبرى لإسرائيل كى تواصل حلمها البعيد وهو القتل المنظم والممنهج للشعب الفلسطينى، بحيث يأتى يوم بعد عقد أو عقدين، ربما نصف قرن، لا يكون هناك معنى للحديث عن ضرورة قيام دولة فلسطينية، يكون الشعب قد تآكل وتكون الأرض قد ابتلعت.
باختصار هل ممكن البحث عن شكل آخر من المقاومة لا يسمح أو لا يقدم الذرائع للحكومة الإسرائيلية بمواصلة عملية إبادة الشعب الفلسطينى؟.
نقلاً عن “المصري اليوم”