عن لجوء بشار الأسد واحتمالات تصفية الملف المتّسخ

مهيب الرفاعي

اللجوء السياسي Political Asylum بالأصل هو حماية تمنحها دولة ما لرعايا أجانب فروا من بلدانهم بسبب الاضطهاد أو خوف مبرر من الاضطهاد بناءً على العرق، أو الدين، أو الجنسية، أو الانتماء إلى فئة اجتماعية أو حزبية معينة، أو بسبب آرائهم السياسية. عادة ما تخضع إجراءات اللجوء السياسي لمجموعة من القواعد التي ترسم الخطوط العريضة للعلاقة بين طالب اللجوء والدولة المستضيفة، وتحدد حقوق وواجبات كل من الطرفين بحيث يتوجب على الشخص الراغب في اللجوء تقديم طلبه إما عند نقطة الدخول إلى الدولة أو في غضون فترة زمنية محددة بعد وصوله إليها وتقوم السلطات الأمنية بإجراء تقييم أولي للتأكد من جدية الطلب ومدى تطابقه مع القوانين الوطنية والدولية.، كعدم ارتكابه جرائم حرب مثبتة بالمعنى المعتمد في لوائح الاتفاقيات الأمنية الدولية.   في حال اجتياز هذه المرحلة يخضع طالب اللجوء لمقابلة مفصلة تهدف إلى جمع معلومات عن خلفيته وأسباب طلبه للحماية ثم يتم اتخاذ القرار النهائي بناءً على الأدلة المقدمة ونتائج المقابلة وفي حال رفض الطلب يحق لمقدم الطلب الطعن في القرار ضمن الإجراءات القانونية المتاحة.

هذه الإجراءات صالحة وقابلة للتنفيذ في الحالات الطبيعية للجوء الأفراد ورؤساء الأحزاب والمسؤولين من الصف الأول او الثاني في هرم القيادة في أي دولة.  وتتعهد الدولة المضيفة بتحمل مسؤوليات متعددة تجاه طالبي اللجوء حيث يجب عليها توفير الحماية لهم وضمان عدم إعادتهم إلى بلد قد يتعرضون فيه للاضطهاد وفقاً لمبدأ عدم الإعادة القسرية principle of non-refoulement؛ كما تلتزم بتقديم الخدمات الأساسية مثل المأوى والغذاء والرعاية الصحية والمساعدة القانونية خلال فترة دراسة الطلب ويعد توفير إجراءات عادلة وسريعة جزءاً أساسياً من التزامات الدولة تجاه اللاجئين حيث يجب أن تتم معالجة الطلبات بطريقة نزيهة وشفافة مع منح فرص الطعن والاستئناف عند الضرورة.

من ناحية أخرى يترتب على طالبي اللجوء التزامات معينة تجاه الدولة التي تستضيفهم حيث يتوجب عليهم الامتثال للقوانين والأنظمة المحلية والتعاون مع الجهات المختصة خلال عملية التقييم من خلال تقديم معلومات صحيحة وكاملة، و الامتناع عن إدلاء أي تصريح قد يؤثر على ملف اللجوء و يثير الشبهات و الخلافات  حول الملف بما يتعارض مع القوانين  و البروتوكولات الخاصة باللجوء  السياسي ما يؤثر على العلاقات الدبلوماسية مع الدولة الأم؛  كما ينبغي عليهم المشاركة في برامج الاندماج التي توفرها الدولة المضيفة مثل دورات اللغة والتأهيل الثقافي لضمان اندماجهم بشكل فعال في المجتمع الجديد.

أما في حال كان اللجوء يتعلق برأس السلطة في حالات سقوط الأنظمة ، أو حالات الانقلابات العسكرية، فإن الإجراءات والبروتوكولات تكون أقل وقد تختفي لاعتبارات دبلوماسية و “بريستيجية”. فرّ الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي إلى السعودية في عام 2011 لتكون جدّة منفىً سياسيًا له دون أي معلومات عنه ودون تداول أية اخبار منذ سقوط نظامه حتى اليوم. ولم يسبق لـ بن على بعد هروبه أن ظهر على أي شاشة سواء أكانت مقابلة صحفية او مشاركة في أي حدث إعلامي ليلتزم بذلك بالقوانين الخاصة باللجوء السياسي التي تنص على عدم المشاركة السياسية.

وفي صباح 8  ديسمبر من عام ٢٠٢٤ وبعد سقوط نظامه، بعد عملية ردع العدوان التي قادتها بنجاح فصائل المعارضة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام،  فر الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد إلى موسكو حيث منحه الكرملين وعائلته اللجوء السياسي وقد أكدت السلطات الروسية أن قرار منحه اللجوء جاء بناءً على اعتبارات إنسانية واتخذ بشكل شخصي من قبل الرئيس فلاديمير بوتين إلا أن روسيا لم تكشف عن مكان إقامته تحديداً ولم تعلن عن خطط فورية لعقد لقاء بينه وبين بوتين وقد أثار هذا القرار تساؤلات حول مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا بما في ذلك القاعدة البحرية في طرطوس وقاعدة حميميم الجوية وأكدت موسكو أنها ستجري مشاورات مع القيادة السورية الجديدة بخصوص هذه القضايا.  لم يزهر بشار الأسد في أي مناسبة او لم يصدر بيانًا او خطابًا يعلن فيه التنحي أو حتى خطته في التخلي ن السلطة عقب وصول المعارضة إلى دمشق. إلا ان حساب رئاسة الجمهورية العربية السورية الرسمي على فيسبوك نشر خطابًا حُذف لاحقًا طرح أسباب وإحداثيات الهروب من سوريا عبر وساطة روسية من قاعدة حميميم في اللاذقية وبسرية تامة. إلا ان الواقع أن بشار السد غائب تمامًا ولا تتوارد أية أخبار عنه أو عن زوجته أسماء الأخرس.

بعد زيارة وفد روسي إلى دمشق للقاء الرئيس أحمد الشرع، نقلت رويترز عن مصدر سوري مطلع على المحادثات التي جرت في دمشق بين المسؤولين السوريين ووفد روسي أن الرئيس الشرع طلب تسليم بلاده الرئيس المخلوع بشار الأسد ومساعديه المقربين الموجودين في روسيا؛ دون تعليق واضح من قبل المسؤولين في الكرملين عن هذه المعلومات. لكن على ما يبدو اننا أمام سيناريوهات عدة حول تسليم بشار الأسد لدمشق؛ قد تتقاطع وقد لا تتقاطع بحسب مجريات العلاقات بين موسكو ودمشق .

فبحسب تجارب الرؤساء الذين حصلوا على اللجوء السياسي تشير إلى احتمالات متعددة تتشكل وفقاً لعوامل مختلفة منها طبيعة العلاقة بين الرئيس المخلوع والدولة المضيفة ومدى استمرار نفوذه السياسي والضغوط الدولية والإقليمية وبناءً على ذلك يمكن استشراف بعض السيناريوهات المحتملة لمصير بشار الأسد. يعد السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن يبقى الأسد تحت الحماية الروسية في إقامة مغلقة بعيداً عن الأضواء والإعلام على غرار ما حدث مع شاه إيران محمد رضا بهلوي بعد لجوئه إلى عدة دول قبل أن يستقر أخيراً في مصر دون أي دور سياسي فعال؛ او كما الحال لدى الرئيس السوداني جعفر النميري الذي قدم لجوءً لمصر عام 1985؛  في هذا الوضع قد يحصل الأسد على إقامة في مجمع آمن داخل روسيا لكنه سيكون خاضعاً لرقابة أمنية صارمة مع تقييد تحركاته واتصالاته الدولية.  بالإضافة إلى ذلك فإن روسيا رغم منحها له اللجوء قد تفضل تقليص ظهوره الإعلامي وتفادي أي تصريحات سياسية قد تؤثر على علاقاتها مع القيادة السورية الجديدة أو المجتمع الدولي.

من الممكن أيضاً أن تستخدم موسكو الأسد كورقة ضغط في المفاوضات حول مستقبل سوريا سواء مع القوى الدولية أو القيادة السورية الجديدة؛ وفي هذه الحالة قد يُسمح له بالتواصل مع بعض الحلفاء السابقين لترتيب بعض الأوراق والملفات التي كانت عالقة أيام تقلده الحكم. رغم أن روسيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية إلا أن الضغوط الغربية قد تتزايد عليها لتسليم الأسد لمحاكمته بتهم جرائم حرب خاصة مع وجود أدلة موثقة حول الانتهاكات التي ارتكبها نظامه خلال سنوات الحرب.  وبالتالي تساهم في تحقيق العدالة الانتقالية في البلاد وتكفّ بذلك مهزلة “عودة الأسد” وأمنيات الموالين له بالعودة. لكن موسكو قد ترفض تسليمه مباشرة إلا إذا حصلت على ضمانات أو مكاسب سياسية كبرى مثل رفع العقوبات الغربية عنها أو الاعتراف بوجودها في سوريا بشكل رسمي وقد تلجأ إلى إخراجه من أراضيها بطريقة غير مباشرة عبر إرساله إلى دولة ثالثة حليفة لها مثل بيلاروسيا أو إيران.

قد تنتهج موسكو نهجاً متطرفًا وعنيفًا،  وتتجرأ أن تتخلص من عبء  الأسد الدبلوماسي والأمني و شبح ملف نظامه المتسخ بمجموعة من الجرائم والانتهاكات الجسيمة بحق الشعب السوري، وتسمح لنفسها بالتخلص منه بطريقة او أخرى، شأنه شأن  أي معارض لحكم فلاديمير بوتين؛ وبذلك تنتهي من ملف قد يعقّد العلاقات مع دمشق وحلفاء نظامها الجديد.

كما حدث مع العديد من الحكام السابقين الذين فقدوا السلطة قد ينتهي المطاف بالأسد إلى قضاء بقية حياته في المنفى حتى وفاته بعض الأمثلة التاريخية تشمل الجنرال مانويل نورييغا من بنما الذي توفي بعد سنوات في السجن أو عيدي أمين رئيس أوغندا السابق الذي عاش في السعودية حتى وفاته دون أي دور سياسي في حالة الأسد من المحتمل أن يعيش في عزلة داخل روسيا حيث سيوفر له الكرملين الحماية لكنه سيظل محاصراً سياسياً.

السيناريو الأقرب للواقع هو بقاء الأسد تحت الحماية الروسية في إقامة مغلقة مع استخدامه كورقة ضغط عند الحاجة لكن دون أي دور سياسي فعال ومع مرور الوقت قد يزداد الضغط على موسكو لتحديد مصيره إما عبر تسليمه لمحاكمة دولية أو ترحيله إلى دولة ثالثة وفي النهاية ستحدد التحولات في سوريا والتوازنات الإقليمية والدولية كيف سينتهي مصيره في المنفى، ولكن من غير المرجح أن يعود إلى السلطة أو يكون له تأثير مباشر في مستقبل البلاد بشكل او بآخر.

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً