فقه الواقع والمواطنة:

adnan
د. عدنان عويد 

لكي نكون مواطنين حقيقيين, بغض النظر عن شكل ديننا وتفريعاته الطائفيّة والمذهبيّة مسلمين كنا أم مسيحين في عالمنا العربي, علينا جميعاً أن نعمل على توظيف الدين خدمة للإنسان ورقيه وخلاصه من أزمته, لا توظيفه خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة تصب في خانة هذه القوى الاجتماعيّة أو تلك, مهما تكن طبيعتها سياسيّة كانت أو طبقيّة أو عقديّة.

هذه بعض الأفكار التي تصب في هذا التوجه, من رجل علمانيّ يعرف أن العلمانيّة ليست ضد الدين, بل هي دعوة لبناء المجتمع المدنيّ والدولة المدنيّة, دولة القانون والمؤسسات والمواطنة واحترام الآخر والتعدديّة والتشاركيّة, واحترام المرأة.. واحترام الدين بما يحمل من فضيلة وجعله لله والوطن للجميع. أي فصله عن السياسة حتى لا تلوثه السياسة وتبعده عن مقاصده الأساسيّة في المجتمعات المتعددة الديانات والمذاهب والطوائف والمكونات السياسيّة.

فقه الواقع والمواطنة:

هناك علاقة جدليّة بين الدين والمواطنة, فلا وجود للدين أصلاً دون المواطنة/ دون الإنسان, ولا مواطنة أصلاً دون التمسك بقيم الدين المثلى وفضيلته التي تؤكد على إنسانية الإنسان ورقيه والارتفاع به إلى مرتبة الخلافة, كل منهما يغني الأخر يؤثر به ويتأثر به. وعلى هذا العلاقة الجدليّة بينهما نؤكد على التالي:

1- علينا أن نقر بأن الكتب المقدسة, ومنها القرآن بالنسبة لنا كمسلمين هو أحد المصادر الأساسيّة للتشريع, وأن هناك الكثير من التشوهات والانحرافات التي أبعدته عن مقاصده, جاءت من الذين في قلوبهم زيغ, ووظفوا الدين لمصالح أنانيّة ضيقة, فراحوا يُفسرون ويُؤولون النص المقدس ووضع الأحاديث وفقا لهذه المصالح ..

2- إن الوحي قد توقف بعد موت الرسول, وبالتالي لا تنزيل أو مقدس قد نزل بعد ذلك… وأن كل ما جاء في المراحل التالية لوفاة الرسول, مهو تفسير وتأويل لهذا النص المقدس, وهي أراء أفراد وظفت لأهداف متعددة منها ما هو عام ومنها ما هو خاص, أي منها ما يعمل لمصلحة المجتمع بعامة, ومنها ما يعمل لمصلحة فرد أو جماعة محددة طبقيّاً كانت أو سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو دينيّاً.

3- إن باب الاجتهاد يجب أن يبقى مفتوحا خدمة لتطور المجتمع, وهذا ما يؤكد عليه فقه الواقع. فالنص المقدس نزل للواقع من أجل تغييره وتنميته, ولم يأت الواقع خدمةً النص, والذين يقولون بأن على الواقع أن يرتقي للنص, هم يعملون على ليّ عنق الواقع, ورفض حركته وتطوره وتبدله, وبالتالي تحويل الجديد إلى بدعة من جهة, وتحويل التعامل مع النص إلى مبدأ سرير بروكست من جهة ثانية. أي إذا كان الواقع أوسع من النص يجب تضيق الواقع ورفض كل جديد فيه وتبديعه, وإن كان النص أوسع من الواقع فعلى الواقع أن يتسع وفقاً لسعة النص, وفي كلا الحالتين يظل النص هو القابض على الواقع, وليس للإنسان أي دور سوى تطبيق هذا النص وفق ما يفهمه صاحب سرسر بروكست, أي رجال الدين الذين في قلوبهم زيع, أو الذين.  (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم | الآية 7 من سورة البقرة).

4- إن العقل قبل النقل .والنص الذي لا يتفق والعقل يجب أن لا يؤخذ به والاستسلام له.. والأمر العقلاني في التفسير والتأويل والفقه وعلم الكلام والسير, هو ما يتفق ومقاصد الدين الخيرة. والشك باب المعرفة ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي..).(البقرة – 260).

5- علينا أن نلغي تقديس أقوال الناس والأشخاص… فهم بشر يصيبون ويخطئون, وأن لا وساطة بين الناس وربهم, وإن مسألة عدم تقديس أقول الناس لا تلغي في الحقيقة الجوهر الإنساني الوارد في هذه الأفول  التي تتفق ومقاصد الدين الخيرة, فكل قول إيجابي من الضرورة أخذه والبناء عليه, أما اعتبار كل ما قاله مشايخ السلف في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى, هو حقيقة مطلقة وهو القول الحق, فهذا لا يتفق وجوهر الدين ذاته الذي يؤمن بالحركة والتطور والتبدل. فالعلم يتطور, ومناهج البحث تتطور, والوصول إلى الحقيقة أصبح علما قائماً بذاته, لا تتخلله الأهواء والمصالح الخاصة.

6- إن تغير الأحكام مرتبط بتغير الأحوال… وإن الضرورات تبيح المعذورات, وإن في الأصل الاباحة.

7- وعلينا أن لا نعوّل كثيرا اليوم على الفقه وحده كما حدده أأمتنا الفقهاء في حل قضايا الناس المتطورة والمتجددة دائما, فأمور دنيانا نحن أدرى بها, فهناك  قوانين وضعية تأخذ بها اليوم كل دول العالم تقريباً وفي مقدمتها الإسلاميّة.. فباب المعاملات يجب أن يترك للقانون الوضعي الذي يضعه الإنسان وفقاً لمصالحه, عدا الأحكام المتعلقة بقضايا المحاكم الشرعيّة الوارد فيها نص مقدس..

8- وأن لا نجعل من الدين وسيلة للتكسب وخدمة للسلطان وتبرير ظلمه وفساده, واعتبار كل ما يقوم به هو أمر مقرر من الله حباً بالناس أو عقاب لهم من الله, وبالتالي لا بد من طاعته.

9- وأن نقر بأن مناهج التفكير التي نُظر من خلالها إلى النص الديني في العصور الوسطى, قد تجاوزها الزمن وتطور العلوم.. وقد قدم لنا العلم الحديث مناهج علميّة تتعامل مع الظواهر ماضيها وحاضرها بعقلانيّة وليس بعواطف وذاتية ورؤى أسطوريّة وخرافيّة…

10- وأن نخرج من فقه الحيض والنفاس وسفاسف الامور التي لا تغني ولا تقدم فضيلة.. لأن الفضيلة لا تتحقق بالخطب الرنانة أو بالدعاء, وإنما بالعمل وإزالة أسباب الفساد والقهر وظلم الناس..

11- وأن القرآن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات, والله نهانا عن اتباع المتشابهات..

12- وأن نأخذ من الحديث ما يتفق ومقاصد الدين التي تؤمن بالإنسان وحريته وعدالته ومساواته وكرامته, وأنه خليفة الله على الارض.. أي نأخذ من الحديث المتواتر والمشهور وكل حديث يتفق وجوهر النص القرآني الداعي لتحقيق مصالح الناس.

13- وأن لا نظل نعتمد على سير السلف, واعتبارها قدوة لنا في كل ما نقوم به.. (فتلك أمّة لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون) البقرة .134…

14- وأن نتعامل مع النص المقدس وفقا لخصوص السبب قبل عموم اللفظ, حتى لا نلوي عنق التاريخ والنص معاً, ونجبر الناس على عمل أشياء لم تعد توافق العصر..

15- وأن لا نستخدم العقل لتثبيت النص كما فسره وأوله السلف, وإنما للحكم عليه وفق مقاصده الخيرة التي تخدم الإنسان ورقيه, مقتدين باجتهاد عمر بن الخطاب في المؤلفة قلوبهم وتوزيع الغنائم وغيرها…أي علينا أن لا نخاف الفلسفة والمنطق.. وأن نأخذ بالقياس العام لا الخاص فحسب.. أي أن لا نقف عند قياس الجزء على الجزء .. بل التعامل فقهياً من خلال  قياس الجزء على الكل حيث في الكل تكمن مقاصد الدين ..

16- وأن ليس كل من ربى دقنا ولبس جبة وعمامة وحمل مسواكا وسبحة وقصر دشداشته أصبح رجل دين وفقيه وأمام… فالدين معرفة, والمعرفة ملك لكل فرد يسعى إلى اكتسابها, بتربية الدقن أو بدونه, بلبس العمامة أو بدونها. (إقرأ باسم ربك الذي خلق), فالدعوة للقراءة هنا مفتوحة على كل الناس والمعرفة حق للجميع.

17- وأن نحيّد الدين عن السياسة في الدول أو المجتمعات المتعددة الطوائف والمذاهب.. فالدين لله والوطن للجميع.

18- وأن نقنع أنفسنا أولاً والآخرين ثانياً, بأن الدين ليس مذاهب وطوائف وفرق, بل هو عقيدة توحيد ومقاصد خيرة للناس, والصادق من رجال الدين عليه أن لا يظهر مذهبيته في لباسه وطقوسه (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون..) ..

19- وأن نحرم قتل المختلف وزندقته وتكفيره لأن الله يقول من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. والأنبياء ليسوا أوصياء على الناس, والله يهدي من يشاء, ولو شاء ربك لآمن الناس أجمعين. في الوقت الذي علينا أن نحاسب من يدعوا إلى الفتنة عبر القول والممارسة بالطائفيّة والمذهبيّة والفرقة الناجية, أو القول بالالحاد.

20- وأن نحترم المرأة التي خلقنا الله وإياها من نفس واحدة, وأنها ليست ضلعاً ناقصاً أو قاصراً او شاردة إبل. بل هي إنسانة من لحم ودم, لها ما للرجل من حقوق وواجبها. وهي في المحصلة الأم والأخت والابنة والزوجة.. فالأم مدرسة إذا أعددتها. (۞ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189). فالمرأة ليست ضلع قاصر أو كشاردة الأبل, او ناقصة عقل ودين.

21- وأن لا نتعامل مع القرآن ككتاب علم, فالعلم يتطور ويتبدل وهذا لا يتفق مع قدسيّة القرآن الذي جاء كتاب عقائد وشرائع), والأخلاق لا تقتصر على المعاملات بين أفراد المجتمع فحسب, وإنما الأخلاق شموليّة في دلالاتها, فالدعوة إلى محو الأميّة أخلاق والدعوة إلى اكتساب المعرفة أخلاق, والدعوة إلى تحقيق التنمية التي تخدم الناس بكل اتجاهاتها أخلاق… إلخ. القرآن ليس له علاقة بالنظرية النسبية, وتطور الأجناس, والمعادلات الكيميائية, والمعطيات الفيزيائية.

22- وأخيرا أن فقه المواطنة لا يقوم إلا في الدولة المدنيّة.. أي دولة القانون والمؤسسات والتعدديّة وتداول السلطة واحترام الرأي والرأي الآخر..

هذا غيض من فيض يمكننا أن نبين من خلاله ما هو الدين الصحيح, وما نريد منه لبناء إنسان سوي يحترم نفسه والآخرين ويعمل على إعمار هذه الأرض.. وبالتالي ما يساهم بالوقوف بوجه تجار الدين ومرتزقته, وما علاقته بالمواطنة.

كاتب وباحث من سورية

D.owaid333d@gmail.com

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً