باسل الرفاعي
عندما يسقط نظام استبدادي بعد عقود من السيطرة، فإن ما يتركه وراءه ليس مجرد فراغ سياسي فحسب، بل إرثًا من التغيرات العميقة التي تمس كل جانب من جوانب الحياة، في الشارع في الحديقة في المطعم في هواء المدينة القديمة. سوريا بعد سقوط بشار الأسد لم تعد كما كانت، لا بالنسبة لمن عاشوا تحت حكمه ولا لأولئك الذين غادروها بحثًا عن حياة أكثر أمانًا. اليوم، يعود المغتربون إلى وطنٍ بالكاد يتعرفون عليه، وطنٍ تحرر من القيود الأمنية، وأصبح أجمل، وأكثر رونقًا مما مضى. لم تعد كما كانت رمادية لا ميزة للونها، بل اكتست لوناً جديًا وألواناً براقة أكثر.
عندما غادر السوريون بلادهم في السنوات الماضية، كانوا يتركون خلفهم بلدًا محكومًا بقبضة حديدية، حيث تنتشر صور الأسد في كل زاوية، وتماثيله تفرض هيبته على الشوارع، وساحات الجامعات والمدن التعليمية والمجمعات السكنية؛ والمخابرات تراقب الأنفاس وتراقب كل تجمع لشكوكها أنهم يخططون لانقلاب ما او يشتمون الذات الرئاسية… أما اليوم، فقد أزيلت التماثيل، واختفت صور القائد، ولم يعد الخوف سيد الموقف كما كان. أصبحت سوريا فضاءً مفتوحًا للنقاش، لكنها في الوقت ذاته تبدو وكأنها فقدت جزءًا من هويتها المألوفة.
بالنسبة لكثير من العائدين، فإن سوريا الجديدة تبدو غريبة-جديدة عليهم أكثر مما كانت وهم في المهجر. هم الذين غادروها هربًا من القمع، يعودون ليجدوا وطناً تغير إلى حد يصعب التعرف عليه، ليس فقط في بنيته التحتية، بل في طريقة تفكير ناسه، في أحاديثهم، في أولوياتهم التي تبدلت بفعل المعاناة. أحد أكثر الأمور التي تفاجئ العائدين هو غياب القبضة الأمنية التي كانت تحكم كل شيء. لم يعد هناك خوف من الاعتقال بسبب كلمة، ولم تعد الهمسات الحذرة في المقاهي ضرورة كما في السابق.
وعلى الرغم من فوضى التساؤلات. من يحكم اليوم؟ من يضع القوانين؟ ومن يعيد بناء البلاد؟ والفراغ الذي بدأت تملأه القيادة الجديدة، إلا ان شعوراً من الراحة لا يقل أهمية عن أي شعور مضى ، فقط لأن النظام الاسدي البعثي سقط.
بالنسبة للمغتربين، العودة إلى سوريا بعد غياب سنوات أشبه بزيارة منزل الطفولة بعد أن هدم وأعيد بناؤه بطريقة مختلفة. الذكريات موجودة، لكن الجدران ليست هي نفسها. هذا الشعور بالاغتراب داخل الوطن هو من أصعب التحديات التي تواجه العائدين. كثيرون منهم يشعرون بأنهم أصبحوا غرباء نوعا ما كونها مدة الاغتراب طويلة للغاية وكبرنا وكبرت المدينة، فالمغتربون لم يعايشوا التحولات التي مرت بها البلاد، ولم يختبروا تفاصيل الحياة اليومية التي غيرت السوريين داخل الوطن.وجعلتهم يهرمون بسرعة هناك من يعودون بحماس لبناء ما تهدم، لإعادة إحياء الاقتصاد، للمساهمة في السياسة، لكنهم يصطدمون بواقع معقد حيث لا تزال آثار الحرب والصراع قائمة، وحيث القوى المختلفة لم تصل بعد إلى توافق حول شكل المستقبل. سوريا اليوم تقف عند مفترق طرق، وأبناؤها، سواء في الداخل أو الخارج، يحاولون إعادة تعريف علاقتهم بها. البعض يرى في سقوط الأسد فرصة لإعادة البناء على أسس جديدة، بينما يشعر آخرون بالضياع، فقد سقط الطاغية لكن البلاد لم تستعد استقرارها وهويتها الجديدة بعد.
ما الذي يعنيه الوطن لمن غادره وعاد ليجده مختلفًا؟ هل هو الذكريات، أم الأرض، أم الناس؟ هذه الأسئلة يطرحها كل مغترب سوري يعود ليبحث عن مكانه في وطنه الجديد-القديم. سوريا الحرة موجودة، لكنها لا تزال تبحث عن نفسها، تمامًا كما يبحث العائدون عن وطنهم فيها.
سيرة ذاتية: كاتب سوري، يدرس الهندسة الكهربائية و الطاقة في جامعة دمشق، له مجموعة محاولات شعرية أهمها نوح الياسمين، و ضفاف بردى، و ذكريات في عين الفيجة.