هل القيم الليبراليّة هي اقتصاد السوق فقط؟.

د. عدنان عويّد

د. عدنان عويّد

سؤال مشروع يطرح نفسه علينا اليوم ونحن نشاهد تلك الدعوات المحمومة إلى تبني اقتصاد السوق الليبرالي, كما هو الحال في سورية الثورة اليوم بعد سقوط نظام الأسد. وبغض النظر عن طبيعة النظام السابق الاقتصاديّة التي ادعت الاشتراكيّة, في الوقت الذي تحول فيه الاقتصاد في سوريّة إلى اقتصاد عصابات مافيويّة تقوده قوى من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة من آل الأسد ومن يعمل لمصلحتهم. يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا وهو: هل اقتصاد السوق الليبرالي هو الهدف المنشود في هذه السوق بعيدا عن القيم الليبراليّة الأخرى التي أسس لها فلاسفة عصر التنوير.؟.

كثيراً ما قامت الأحزاب الحاكمة, وبخاصة من منظومة الأحزاب (الديمقراطيّة الثوريّة) في دول العالم الثالث المتبنية لمشروع الاشتراكيّة العلميّة في محاربة الفكر الليبرالي وبكل من مفرداته الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والفلسفيّة, في الوقت الذي نرى فيه قوى الإسلام السياسي تتبنى قيم (اقتصاد السوق الحر) إلى حد ما, انطلاقاً من أن الإسلام في جوهره مع الاقتصاد الحر, ( لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَة الشتاءِ والصَّيْف ) وحديث الرسول: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء). (صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة وصحيح الترغيب والترهيب).  ولكنهم في المقابل حاربوا بقية القيم الليبراليّة, على اعتبارها نتاج دار كفر, كالديمقراطيّة والعلمانيّة ومفهوم الدولة المدنيّة والمواطنة, وبالتالي الحد بالضرورة من قيم العدالة والمساواة بين مكونات المجتمع, أي هم حاربوا القيم الليبراليّة في صيغتها التقدميّة التي تبنتها الطبقة البرجوازيّة في بداية نشوئها ونضالها ضد قوى الاستبداد ممثلة بسلطات الملك والنبلاء والكنيسة, وكانت الثورة الفرنسيّة 1789, الممثل الحقيقي لهذه القيم. ولا بد لنا أن نشير هنا بأنه مع استلام الطبقة البرجوازيّة السلطة, وانغماسها في شهوتها وغنائمها, قامت هذه الطبقة بإفراغ القيم الليبراليّة التي طالبت بها قبل وصولها إلى السلطة من مضامينها الإنسانيّة, وهنا بدأت مسألة الصراع الطبقي تظهر وبحدة بين المالك والمنتج, فجاءت أفكار ماركس فيما بعد الناقدة للطبقة البرجوازيّة (المالك) التي قادت الثورة الفرنسيّة, وراحت بعد استلامها السلطة تستغل الدولة وسلطتها وتشوه القيم الليبراليّة التي نادى بها فلاسفة عصر التنوير, وتخليها عن كل قيمها ومبادئها الإنسانيّة التي شجعت على قيامها في بداية انطلاقتها, وهي القيم المشبعة كما أشرنا أعلاه بمفاهيم الحريّة والعدالة والمساوة ودولة القانون والمواطنة والتعدديّة والتشاركيّة في قيادة الدولة والمجتمع. وأخذت تتحول إلى طبقة مستغلة لشعوبها ومستعمرة لشعوب دول العالم الثالث, وهذا ما جعل ماركس يقول مقولته المشهورة عن البرلمانات الأوربيّة وهي: ( إن الطبقة العاملة في الأنظمة الرأسماليّة تختار من يقمعها في البرلمان كل أربع سنوات).

وبناءً على هذه التحولات العميقة التي انتابت الطبقة البرجوازيّة وقيمها, حوربت أيضاً القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة في جوهرها من قبل الأحزاب المتبنية للاشتراكيّة أو الاشتراكية العلميّة والقوميّة في دول العالم الثالث كما بينا في موقع سابق, طارحة البديل عن هذه القيم الليبراليّة, قيم الديمقراطيّة الشعبيّة, التي لا تختلف من حيث المضمون عن هذه القيم الليبراليّة المشبعة بالروح الإنسانيّة. فمقولة لينين الذائعة الصيت: (مزيداً من الاشتراكية يعني مزيداً من الديمقراطيّة), أي مزيداً من مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق عدالتها وحريتها ومساواتها وما يدخل في نسيج هذه الأهداف العريضة من قيم ومبادئ إنسانيّة تهم الفرد والمجتمع معاً. بيد أن مشروع العدالة الاشتراكيّة القائم على فكرة (الديمقراطيّة الشعبيّة) ممثلة في المنظمات الشعبيّة والاتحادات والنقابات المهنيّة التي تساهم في التشريع لمصالح الجماهير وتنميتها من خلال مشاركتها في إدارة أمور البلاد ومراقبة السلطة الحاكمة والدعوة لمحاسبتها, راحت هذه القيم الايجابيّة لمفهوم الديمقراطيّة الشعبيّة بدورها تتلاشى شيئاً فشيئاً مع وصول هذه الأحزاب إلى السلطة, وتحكم قادتها بها, وفرض سياسة الحزب الواحد, أو الحزب القائد, كصيغةً أساسيّةً في قيادة الدولة والمجتمع معاً, هذا عدا ممارسة هذه الأحزاب أيضاً لسياسة رأسماليّة الدولة في صيغتها الاحتكاريّة كأنموذج اقتصادي, أخذ مع مرور الأيام يُشكل من قادة وسياسيي هذه الأحزاب طبقة من البرجوازيّة الطفيليّة اغتنت على حساب أموال الدولة, الأمر الذي حول المنظمات الشعبيّة والنقابات المهنية بناءً على هذه السياسة إلى حزام ناقل للسلطة, تعمل على نقل ما تقرره قيادة الحزب ومن يتحكم في قيادته الفعليّة إلى مكوناتها التنظيميّة وبالتالي إلى الشعب, دون أن يكون لها – أي المنظمات والنقابات – ذاك الدور الايجابي الذي رسمته لها نظريات هذه الأحزاب في المشاركة والمراقبة لسياسات الدولة ومحاسبة من يخل بهذه السياسة. أو بتعبير آخر فقدت مقومات الديمقراطيّة الشعبيّة وآليّة عملها.

وتأسيساً على ذلك وغيره الكثير من الممارسات السلبيّة التي مورست من قبل قيادات هذه الأحزاب, تحولت هذه الأحزاب ذاتها بالضرورة وفقاً لسياساتها هذه إلى أحزاب شموليّة تمارس دكتاتوريتها على أعضائها أولاً, وعلى الشعوب التي تحكم باسمها ثانياً, خاصة بعد أن سيطرت العشيرة والقبيلة والطائفة على الدولة, وحولت هذه السيطرة الأحزاب ومنظماتها ونقاباتها ذاتها إلى أداة بيد من هم في قمة السلطة أو المتحكمين بها فعلياً من أجل خدمة مصالحه.

والمحزن أيضاً أن هذه القيم النبيلة إن كانت للاشتراكيّة أو الليبراليّة التقدميّة, أو القوى الاسلاميّة التي وصلت إلى السلطة, إن كان في مصر او تونس أو ليبيا أو العراق أو حتى سوريا اليوم التي راحت تبشر بالليبراليّة, ولكن في جانبها الاقتصادي فقط ولس الاجتماعي والسياسي والثقافي, فكان اقتصاد سوق السيارات الفارهة يسود في بنية الدولة والمجتمع مع بداية استلام رجال الثورة السلطة قبل تأمين لقمة العيش للمواطن.

إذاً وعلى هذا المعطيات لم يؤخذ بالمبادئ الأساسيّة للقيم الإنسانيّة من التهميش والاقصاء لا عند مؤسسيها من الطبقة البرجوازية في أوربا أولاً, ولا عند حملة المشروع الاشتراكي ثانياً, ولا عند حملة المشروع السياسي الإسلامي ثالثاً.

أمام هذه المعطيات يحق لنا أن نتساءل هنا ماهي القيم الليبراليّة في صيغتها الايجابيّة ؟, وهل تصلح قيمها كمشروع نهضوي لدول العالم الثالث المتخلف.؟.

القيم الليبرالية  وتجلياتها:

الليبراليّة منظومة أفكار وقيم ذات طابع إنساني تحققت تاريخيّاً حصيلة تطور طويل, تخلله الكثير من التناقضات والصراعات بين القوى المستغِلة والمستغَلة, وهي في المحصلة الوليد الشرعي للثورة التجاريّة والصناعيّة وحواملها الاجتماعيّة من الطبقة البرجوازيّة التجاريّة والصناعيّة في أوربا, ومن وقف معهم في بداية ظهورهم من أبناء الطبقة الرابعة الممثلة للقوى الاجتماعيّة المضطهدة تاريخيّاً, مثلما هي أيضاً التجلي النظري لعصر التنوير وما مثله هذا العصر من قيم إنسانيّة تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة والوقوف ضد القيم والأفكار والمبادئ الداعمة لاستغلال واستعباد القوى الممثلة لعصر الإقطاع كالملك والنبالة والكنيسة, مثلما هي ضد كل من يقف ضد العقل ودوره التاريخي في بناء الحضارة الإنسانيّة.

لا شك أن منظومة القيم الليبراليّة, أو أيديولوجيتها وحملتها من كتاب ومفكرين وفلاسفة, قد ساهمت بشكل فاعل في تغيير قيم وسلوكيات حياة المجتمعات والدول الأوربيّة من خلال نقدها العقلاني لكل ما هو غيبي وامتثالي ومطلق على مستوى الفكر, الذي مثله رجال الفكر الميتافيزيقي واللاهوتي(السكولائي – المدرسي) والسياسي القائم على التراتبيّة الاجتماعيّة, ومن خلال نقدها أيضاً لتك السلوكيات الاستبداديّة التي عملت وتعمل على الحط من القيم الإنسانيّة النبيلة التي تدل على إنسانيّة الإنسان وكرامته وحريته وإرادته ورغباته في تحقيق مصيره والحفاظ على حقوقه الطبيعيّة والقانونيّة المشروعة.

لقد تجسدت مع قيام الثورة البرجوازيّة ووصول حواملها الاجتماعية إلى السلطة, قيم الليبراليّة في المجتمع الأوربي وأصبحت منطقه الداخلي, وعلى أساسها نُظم المجتمع وانتشرت فيه قيم المواطنة والتعليم والإدارة والمؤسسات السياسية ونظم العمل وكل ما يحقق للإنسان كرامته وإنسانيته (الفرد والمجتمع). أي بتعبير آخر لقد أصبحت الليبرالية في صيغتها التقدمية التي يشر بها فلاسفة عصر التنوير, نموذج حياة للفرد والمجتمع الأوربي, وعلى أساسها تم تحديد الموقف من الماضي والحاضر والمستقبل بما يخدم الإنسان وجوهره الإنساني.

إن الليبراليّة في المحصلة كانت عند انطلاقتها الأولى كما أشرنا أعلاه, ضد الفكر الاستبدادي واللاهوتي الغيبي الأسطوري والميتافيزيقي المثالي الذاتي أو الموضوعي الساعي دوما لعزل  الفكر عن الواقع, والرافض لتطور الحياة, وفي مقدمة هذا التطور, تطور العلوم الطبيعيّة التي حطمت أسس المعارف الدينيّة الأسطوريّة في تفسير حركة الكون وتشكل حياة الإنسان والحيوان والنبات, وموقع الأرض من الشمس, وطبيعة دوران الأرض, والرافض أيضاً لوجود قوانين موضوعيّة مستقلة تتحكم بسير أو حركة الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة, وأخيراً وليس آخراً, رفض إمكانية امتلاك الإنسان القدرة على تسخير عقله وإرادته في اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع وتسخيرها لمصلحته.

حقيقة لقد حاربت القيم الليبراليّة التي حملتها الطبقة البرجوازيّة الوليدة, الاستبداد وقواه الماديّة والمعنويّة, واعتبرت الديمقراطيّة والعلمانيّة وسيلتين من الوسائل التي تساهم في بناء المجتمع المدني والدولة المدنيّة, والفسح في المجال واسعاً للقوى المظلومة والمستلبة المشاركة في بناء هذه الدولة والمجتمع.

نعم.. إن قيم الليبرالية التي أكدت على حرية الفرد وإرادته ودوره في التاريخ, لم تكن يوماً ذات نظرة أحاديّة, كأن تُختزل في الاقتصاد فقط, بل هي ذات طابع شمولي تتغلغل في كافة مجالات حياة الإنسان الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة, وهي في بداية صعودها أو مرحلتها الأولى, عبرت عن قيم تقدميّة مشبعة بالروح الإنسانيّة المتعلقة بالعلم والمواطنة والمرأة والتربية والثقافة والفن والأدب كما أشرنا في موقع سابق.

إن مشكلة القيم الليبراليّة تقع حقيقة في جانبها الاقتصادي (اقتصاد السوق الحرّة) الذي انبعث من صلبها وعمل على تحرير وإطلاق العنان لتطور قوى وعلاقات الإنتاج, وفرض هيمنة اقتصاد السوق وسيطرة روح الربح باسم الحريّة. إن هذا الانبعاث الاقتصادي ممثلاً باقتصاد السوق الحرّة اللامشروطة واللامسؤولة عن مصالح الإنسان المنتج, ساهم بالضرورة في انتشار نمط المجتمع الاستهلاكي, وساهم في نمو العلاقات غير العقلانيّة بين المالك والمنتج, وبالتالي خلق حالة واسعة من التفاوت الطبقي والاستغلال وما نتج عن هذه الحالة من غربة واستلاب وتشيئ وضياع  لقوى اجتماعيّة واسعة من أبناء المجتمع, حيث راحت هذه القيم الإنسانيّة التي بشرت بها الطبقة الرأسماليّة وثوراتها ضد الماضي وقيمه التقليديّة السلبيّة, تفقد بالضرورة سماتها وخصائصها الايجابيّة لتتكيف مع روح العصر الجديد الممثل لروح وجوهر الطبقة الرأسماليّة في صيغتها الاحتكاريّة المشبعة بالأنانيّة القائمة على المنافسة غير الشريفة والاحتكار, والتركيز على الحريّة الفردية, ونشر قيم ما بعد الحداثة المشبعة بالنهايات وموت أوتفسخ كل القيم النبيلة الممثلة لتلاحم الأسرة والمجتمع ومسؤولية الحرية الفردية تجاه الذات والآخر.

إذاً إن قيم الليبراليّة المشبعة بالقيم الايجابيّة  في مراحلها الأولى ممثلة بالحرية والعدالة والمساوة والمشاركة الجماهيرية في السلطة وغير ذلك من قيم, هي قيم صالحة لكل شعب ولكل أمّة في أي مرحلة تاريخيّة تسودها قيم الظلام والاستبداد والجهل والتخلف. ولطالما أن أمتنا العربيّة تعيش هذه الحالات المزرية من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تحت مظلة حكومات شعبويّة, فقيم الليبراليّة  في مرحلتها الأولى التي كانت وراء كل الثورات التقدميّة في أوربا بكل تجلياتها التي قمنا بعرضها أعلاه هي قيم صالحة لشعوبنا ومجتمعاتنا, وهي التي تشكل الرافعة الحقيقيّة لتجاوز واقع تخلفنا الذي فرض علينا لمئات السنين ولم تستطع القوى الحاكمة بكل مسمياتها أن تخلصنا منه, بل هي ساهمت كثيراً بسبب شهوة السلطة لديها,  أن تزيد من عوامل هذا التخلف وتعمق مسارته.

نعم… لكي نستطيع تجاوز هذا التخلف وتحقيق نهضتنا وتقدمنا والوصول إلى إنسانيتنا, لا بد لشعوبنا من تبني هذه القيم ومحاولة جعلها أحد العتلات الرئيسة التي ستدفع بالمجتمع والدولة معاً بعيداً عن روح الدولة الشموليّة واستبدادها, وما فرضته الحكومات المستبدّة على شعبها من ذل وخنوع وتخلف خدمة لمصالحها بعد أن اتخذت من الدولة وسيلة لتحقيق هذه المصالح الأنانيّة التي هيمنت عليها روح القبيلة والعشيرة والطائفة.

نقول في هذا السياق: بالرغم مما تخلفه ثورات الشعوب المضطهدة تاريخيّاً من دمار للدولة والمجتمع في بداية قيامها, بسبب ما مورس عليها من تجهيل وقمع للحريات, ومن إقصاء سياسي واقتصادي, إلا أن هذه الثورات تشير بهذا الشكل أو ذاك إلى أن الشعوب المتخلفة والمجهلة تاريخيّاً, قادرة أن تتعلم من تجاربها كيف تستطيع أن تتخلص من سيطرة الدولة الشموليّة, وتعيد ترتيب حياة الفرد والمجتمع في دولها ومجتمعاتها على قيم الليبراليّة أو الديمقراطية الشعبيّة أو حتى الإسلام العقلاني الذي يقبل الآخر لا فرق بينهما.. ليس عيباً أن تضحي الشعوب من أجل حريتها وعدالتها وكرامتها, والوصول إلى تحقيق طموحاتها. فهذه هي مسيرة الشعوب الحرة.

كاتب وباحث من سورية

d.owaid333d@gmail.com

 

 

تابعنا عبر: