إيران بين بناء قوة الردع والتلويح بامتلاكها

هدى رؤوف

فقدت طهران قدرتها حتى على التلويح بتوظيف أذرعها فلم تعد تتحدث عن وحدة الساحات ونصرة المستضعفين بصورة تتحدى بها إسرائيل وواشنطن

اتبعت إيران مساراً قائماً يشجع إدارة دونالد ترمب الجديدة على انتهاج المفاوضات، وفي حين لم تؤت هذه الرسائل ثمارها حتى الآن بل قام ترمب بتوقيع مذكرة لتطبيق سياسات الضغط الأقصى وتوسيع الفئات التي تشملها العقوبات المرتبطة بالنفط، بدأت طهران مراجعة أسلوب دعوات التفاوض من أجل إبراز قدر من القوة وأنها ليست في حال ضعف أو انكسار.

الردع في أبسط معانيه هو امتلاك دولة ما قدرات تجعلها قادرة على منع طرف آخر من القيام بفعل ما، وجزء من مفهوم الردع عسكري قائم على تراكم القدرات العسكرية التي تخلق حال الردع، وجزء آخر نفسي قائم على إدراك الطرف الآخر قدرات الطرف الأول.

ونظراً إلى عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة “حماس” وترتبت عليها تداعيات إقليمية، كان الخاسر الأكبر فيها هو ما يسمى “محور المقاومة” وبخاصة إيران، فإضافة إلى إضعاف أذرعها الإقليمية المكونة لـ “محور المقاومة”، بدءاً من “حماس” ومروراً بـ “حزب الله” و”الحشد الشعبي” وانتهاء حتى الآن بنظام بشار الأسد، نجد أن طهران فقدت قدرتها حتى على التلويح بتوظيف هذه الأذرع كما في السابق، فلم تعد تتحدث عن وحدة الساحات ونصرة المستضعفين بصورة تتحدى بها إسرائيل وواشنطن.

وفي حين عملت إيران على مدى الحرب الدائرة في غزة على تجنب الدخول حتى أُضعفت جميع أذرعها ولم تحرك ساكناً، لا بالتلويح بأمن الخليج والملاحة في مضيق هرمز، ولا بالإشارة إلى الحوثيين وأمن الملاحة في البحر الأحمر، بل على العكس من ذلك اتبعت مساراً يشجع إدارة دونالد ترمب الجديدة على انتهاج المفاوضات، وفي حين لم تؤت هذه الرسائل ثمارها حتى الآن بل قام ترمب بتوقيع مذكرة لتطبيق سياسات الضغط القصوى وتوسيع الفئات التي تشملها العقوبات المرتبطة بالنفط، بدأت طهران في مراجعة أسلوب دعوات التفاوض من أجل إبراز قدر من القوة وأنها ليست في حال ضعف أو انكسار، وهنا جاءت رسائل المرشد الإيراني التي تقلل من شأن التفاوض مع واشنطن وأهميته في حل مشكلات إيران، وجاء الرئيس مسعود بزشكيان ليتحدث عن رفض التفاوض تحت ضغط، لكن تصريحاً خرج عن الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني المحسوب على التيار المعتدل وصاحب إنجاز إتمام الاتفاق النووي، قال فيه إن “بعضهم يزعم أن المرشد الأعلى يعارض المفاوضات، والقيادة لا تعارض مبدأ التفاوض، لكن نظراً إلى الظروف فقد تعارض اليوم ولكنها توافق على تغيير الظروف بعد بضعة أشهر، ولا يوجد معارضة مطلقة”.

وأوضح روحاني أن القضية الأولى هي تعزيز وجعل الردع الإيراني أكثر فاعلية مع تصحيح الإستراتيجية الرئيسة للبلاد في ما يتعلق بالأمن القومي، مضيفاً “لن يجري ضمان الأمن القومي من دون الردع، والأمن الوطني لا يصنع بالخطابات والكلمات والشعارات بل يحتاج إلى القوة التي تعمل كرادع للعدو، إذ يجب على العدو أن يعلم أنه لا يملك سلاحاً فعالاً وأنه إذا امتلكه فإنه سيواجه هجوماً مضاداً خطراً وشديداً، ولذلك لا ينبغي له أن يتجرأ على الهجوم”.

ويؤكد كلام روحاني فكرة الردع، وبما أن إيران لم يتبق لها من قدرات تستخدمها وتلوح بها إلا القدرات النووية، فإن المقصود هنا هو العمل على بناء القدرات النووية وإطالة أمد سياسة التعتيم والغموض التي تتبعها في ما يخص الأنشطة النووية التي تحول بين إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمنشآت النووية، حتى تضمن إيران من جهة أن لديها ورقة تستطيع أن تفاوض بها أمام واشنطن، ومن جهة أخرى أن تمتلك قدرات نووية حقيقية تعتمد عليها في ظل تآكل وضعف أذرعها، ولقد استقر في إدراك النخبة الإيرانية أن الاعتماد على شبكة الوكلاء، بقدر ما كان مهماً في تحقيق مصالحها، إلا أن إضعاف البلاد يبدأ من إضعاف تلك الشبكة الإقليمية ومن ثم إضعاف قدرة طهران على استكمال مسارها الإقليمي.

واستكمالاً لمسار التلويح بقوة الردع الإيرانية التي هُزمت أمام إسرائيل، لوّح بزشكيان بأنه ليس مهماً قصف المنشآت النووية لأن إيران لديها العقول التي تقوم ببنائها ثانية، وهو ربما يرغب في التقليل من شأن أية ضربة أميركية أو إسرائيلية، ومع ذلك فهناك رأي سائد في أن القضية ليست قصف المنشآت النووية بقدر ما ستكون تداعيات تأخير قدرة إيران على بناء قدراتها النووية والعسكرية مرة أخرى وإحداث قلاقل اقتصادية واجتماعية في الداخل، لأن واشنطن وتل أبيب تدركان أن المعرفة النووية الإيرانية أصبحت محلية، ومن ثم فإن الهدف هو أن تحول إيران سوريا ولبنان إلى مسرح للعمليات العسكرية.

وربما يكون في هذا التصور مبالغة على اعتبار أنه موجه للداخل في إيران ومن ثم إثارة نوع من التخوف من الاضطرابات الاجتماعية، وأن الهدف هو الأمن القومي الإيراني والسلطة الإيرانية، في حين يدرك صناع القرار الإيراني أهمية بلادهم الوظيفية بالنسبة إلى إسرائيل، فالتوترات التي تحدثها طهران للأمن القومي العربي بمثابة ورقة تسطيع إسرائيل توظيفها دائماً للحصول على مكاسب إقليمية وأميركية، كما أنه لا يوجد طرف إقليمي أو دولي يبتغي رؤية إيران مفككة تنقسم كل مكوناتها السكانية إلى دويلات أصغر أو تدخل في خضم حرب أهلية، لأن تداعياتها ستترك آثارها في الأمن والاستقرار الإقليمي.

* نقلا عن ” اندبندت عربية”

تابعنا عبر: