معاناة المرأة الفلسطينية في سجون الاحتلال: جرائم صامتة وصمود يكتب بالدم

بن معمر الحاج عيسى

 

في زنازين مظلمة تتناثر فيها أصوات القيود الحديدية، وتختنق الأنفاس تحت وطأة الإهمال المتعمد، تُحاك واحدة من أقسى حكايات الظلم التي قد لا يعرفها العالم إلا عبر همسات نادرة تفلت من جدران السجون الصهيونية. هنا، حيث تتحول الإنسانية إلى رقم في ملفات مغلقة، تُختزل حياة عشرات الأسيرات الفلسطينيات بين جدران تنفيذ العقاب الجماعي، ليس لذنوب ارتكبنها، بل لأنهن فلسطينيات قررن أن يُولدن على أرضٍ ترفض أن تُسلب.

تقبع اليوم ما يزيد عن 40 أسيرة فلسطينية خلف القضبان، منهن أمهات حُرمن من احتضان أطفالهن، وطالبات جُرّدن من كتبهن الدراسية، وقاصراتٌ لم تعرف الحياة إلا عبر نافذة الزنزانة. هؤلاء النساء، اللواتي تحولت حياتهن إلى سردية يومية من الألم، يُجبرن على مواجهة سياسة منهجية تهدف إلى تحطيم إرادتهن، بدءاً من لحظة الاعتقال التي تشبه عمليات الاختطاف. ففي منتصف الليل، تداهم قوات الاحتلال المنازل بعنف، تُكسَر الأبواب، وتُهَشَّم النوافذ، وتُسحَب النساء أمام عائلاتهن وسط صراخ الأطفال، وكأن المشهد مُعد مسبقاً ليكون درساً في الترهيب الجماعي.

ما إن تخطو الأسيرة عتبة السجن حتى تبدأ رحلة العذاب التي لا تلتزم بأدنى معايير القانون الدولي. ففي سجون مثل “هشارون” و”الدامون”، تُحشر النساء في زنازين لا تتسع لأجسادهن، مع حرمانهن من الفراش النظيف، والغذاء الكافي، والهواء النقي. لكن أبشع ما في هذه السجون هو “الطب” الذي تتحكم به إدارة السجون كأداة عقاب. فالكثيرات منهن يعانين من أمراض مزمنة، مثل السرطان وأمراض القلب، لكن الأدوية تُمنع عنهن بشكل متعمد، أو تُقدَّم بجرعات غير كافية، وكأن الاحتلال يريد أن يقتلهن موتاً بطيئاً، دون ضجيج.

أما التحقيق، فهو بوابة الجحيم الثانية. فبحسب شهادات ناجيات، تُجبر الأسيرات على الجلوس في كراسي معدنية مثبتة بالأرض لساعات طويلة، بينما تُسلط أضواء ساطعة على وجوههن، ويُحرمْنَ من النوم لأيام. بعضهن يتعرضن للضرب المبرح على مناطق حساسة من أجسادهن، أو للتهديد بالاعتداء الجنسي، أو بالانتقام من أفراد عائلاتهن. والهدف واضح: انتزاع اعترافات مزيّفة تُستخدم لاحقاً لتبرير تمديد فترة الاعتقال، أو لابتزاز الأسيرات نفسهن لقبول صفقات إطلاق سراح مشروطة.

الطفلات الفلسطينيات أيضاً ليسن بمنأى عن هذه الآلة الوحشية. ففي عام 2022، أُوقفت الطفلة آية (14 عاماً) من أمام مدرستها في الخليل، واقتيدت إلى مركز تحقيق تحتج فيه والدتها: “لماذا تتعاملون معها كإرهابية؟ هي لم تفعل شيئاً سوى الدفاع عن نفسها حين داس جندي على حجابها!”، لكن المحققين لم يستمعوا. في الزنزانة، عانت آية من إهانات عنصرية، وحُرمت من زيارة عائلتها لأسابيع، بينما كانت تسمع صرخات أسيرات أخريات يُعذَّبن في الغرف المجاورة.

الأمومة الفلسطينية، التي يُفترض أن تكون مصانة بحماية القانون الدولي، تتحول في سجون الاحتلال إلى جريمة تُعاقب عليها المرأة مرتين: مرة حين تُفصل عن رضيعها الذي قد يُولد داخل السجن، ومرة حين تُجبر على توقيع أوراق تنازل عن حضانته تحت التهديد. بعض الأسيرات يروين كيف وضعن أطفالهن في زنازين ملوثة، مُكبلات الأيدي والأقدام أثناء الولادة، بينما يحمل الجنود المواليد الجدد بعيداً عنهن بحجة “عدم الأهلية”، وكأن الأهلية تُقاس بغير القيود الحديدية!

لكن وسط كل هذا الظلام، تُولد أصوات مقاومة لا تُقهَر. فالأسيرات الفلسطينيات حوّلن السجون إلى ساحات نضال: يدرسن القانون في زوايا الزنازين، وينظمن إضرابات عن الطعام للمطالبة بتحسين الظروف، ويكتبن الرسائل السرية على أوراق السجائر، أو يَنْسُجنَ أعلام فلسطين من خيوط ملابسهن. إحدى الأسيرات، التي أُطلق سراحها مؤخراً، قالت: “كنا نردد كل ليلة: وجودنا هنا هو دليل أن الاحتلال فشل في كسرنا، وأن ثمن الحرية يُدفع بالدم”.

المجتمع الدولي، للأسف، لا يزال يتعامى عن هذه الجرائم. فالقرارات الأممية تتراكم في أدراج الأمم المتحدة، بينما تُجدد دول كبرى تمويلها العسكري للاحتلال، وكأن دماء الأسيرات جزء من صفقة استعمارية مقبولة. حتى المنظمات الحقوقية التي ترفع تقاريرها تكتفي بـ”القلق العميق”، دون ضغوط فعلية لتغيير الواقع. لكن التاريخ يعلمنا أن الظلم لا يدوم، وأن صرخات الأسيرات، وإن خُنقت اليوم، ستُسمع عالياً حين تسقط أقنعة الزيف عن وجوه داعمي الاحتلال.

اليوم، تحمل كل أسيرة فلسطينية في قلبها جرحاً عميقاً، لكنها أيضاً تحمل حكاية صمود ستُروى للأجيال القادمة. فما يحدث داخل السجون ليس مجرد انتهاكاً لحقوق الإنسان، بل هو جزء من حرب وجودية على الشعب الفلسطيني بأكمله. والمرأة هناك، كالعادة، في قلب المعركة: تقاوم بالصمت أحياناً، وبالصرخة أحياناً، لكنها لا تترك البندقية الوحيدة التي يخشاها الاحتلال: *الإرادة*.

في زنازين الاحتلال، تُكتب الآن أسماء أسيرات لن يُنسيهن التاريخ: فهن لسن أرقاماً في ملفات، بل شعلات تنير طريق الحرية. ولئن صمت العالم، فسيأتي يوم تُحاكم فيه كل الأيادي التي ساهمت في تقييدهن، لأن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تُغيب إلى الأبد.

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً