رواية جبل التاج لـ مصطفى القرنة

مهند طلال الاخرس

جبل التاج رواية لمصطفى القرنة تقع على متن 280 صفحة من القطع المتوسط وهي من اصدارات دار كفاءة المعرفة للنشر والتوزيع سنة 2024 .
رواية تتحدث عن سيرة مدينة [عمان] في اخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر من خلال استعراض سيرة قدوم الشركس اليها ودورهم في بناء الحياة الاجتماعية والثقافية والوطنية والاهم دورهم الذي اصبح احد مرتكزات التنوع الحضاري لعمان وسماتها الدائمة ، هذا الدور الذي جعل من الشركس احد اركان الدولة الاردنية الناشئة عبر محطات ومخاضات كبيرة وتاريخية كان للشركس دور هام وفاعل فيها، بصفتهم جنود اشاوس خارجين لتوهم هم واباهم من حرب مريرة في بلادهم القفقاز، وثانيا بسبب تملكهم وتفوقهم الحضاري اصلا، وثالثا بسبب علاقتهم المتينة مع الدولة العثمانية الحاكمة آنذاك لبلاد الشام والهلال الخصيب ومنها طبعا الاردن وعمان بالذات والتي شكلت [جبل الخريطة (التاج) والنظيف والقلعة ووادي الرمم والقويسمة والسيل] وعين غزال ووادي السير مسرح احداث الرواية وفضائها الذي تنسج منه خيوط حكايات الرواية.
في هذه الرواية يمررنا القرنة على البوم السنين فينجح باطلاعنا على تسلسل الحياة الطبيعي في جبل التاج وتطورها من الحياة في المُغر، إلى مراحل بناء سكة الحديد الحجازية واثرها على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ثم يلتقط كثيرا من الصور التي تظهر طبيعة الحياة وقسوتها، كما نجح بنقل المعاناة وظروف الحياة، مع نجاحه المسجل بنقل تفاصيل وارهاصات ونكبات تلك الفترة؛ فنجده قد نجح في الرواية بتسجيل وتوصيف الكوارث الطبيعية كالفيضانات والسيول والزلازل والجراد وشح الموارد والحروب، وشيوع الأمراض كمرض الملاريا، والكوليرا.
هذا بالاضافة الى نجاحه بنقلنا لمشهدية الحدث في جبل التاج فيصف لنا المساجد، كمسجد: العُمري والشهيد، ووصف الآلات الموسيقية كالناي وسيارة مطحنة الشرايط، وحياة الشركس وعاداتهم وتقاليدهم خاصة بالزواج والجندية…
يسير بنا مصطفى القرنة عبر صفحات الرواية كمن يسير في بستان راقبناه منذ الصغر فكبرنا معا، فكبر البستان ونمى زرعه على مرأى من اعيننا؛ لكن القرنة كان اجملنا وافضلنا الذي نجح بالتقاط اللحظة والعيش فيها حتى تمكن من ترجمتها الى حكاية عبر صفحات هذه الرواية ليقدم لنا رواية [زمكانية] تعيد احياء وتقديم سيرة عمان المدينة والانسان ايام الدولة العثمانية والانتداب الانجليزي وصولا للاستقلال وتعريب الجيش الاردني…
وكما احسن القرنة بعمله الروائي هذا التقاط اللحظة وتحويلها الى رواية، فقد احسن ايضا تلك اللغة الرشيقة والسلسة التي كتب بها الرواية ، حتى انه كان حريصا علينا من ان نتوه في غياهب التاريخ فحاول ان يمسكنا بتلابيب الرواية وشخوصها منذ البداية، ولكنه زيادة في التحرص وزيادة التشويق في الحبكة؛ نجح في مراده اكثر حين اباح لنا على ظهر الصفحة 149 بما يُمكننا من الامساك بلسان الراوي [البطل] ينال ابن سلطان والذي استشهد في بلغاريا وطالت غيبته، والذي قامت العجوز ديسانا بتربيته في جبل الخريطة، وتزوج من السيده تامبر وانجبت تالبي الابنة وازر وادمر الابنيين…
فيستذكر لنا سيرة ابائه واجداده …فسيتذكر سيرة اباه وجده كيف قاتل مع الشركس هناك في بلاد القفقاز، وكيف دافع عن مضيق باكسان، كما يستذكر العديد من مظاهر تلك الحرب الغائرة بالذاكرة كجرح لا ينسى، فيستذكر كيف بُقرت بطون النساء، وكيف كان المشهد المأساوي لهروب السفن التركية في البحر الأسود. ثم يعود بذاكرته نحو جبل التاج/الخريطة، وتحديدا إلى حي الشركس، حيث يرصد التغيرات التي مرت عليه وصولا لتاسيس مدرسة الاشرفية على انقاض النادي الانجليزي، دون ان يغفل الى الاشارة عن دور هذا النادي وماهي الاحداث والالعاب والدسائس التي كانت تحدث وتجري وتحاك فيه …
ثم يعود صاحبنا ليؤكد مجددا على صيغة الراوي في ص ١٤٩ كي لا تتوه قافلة الاسترجاع للاحداث والوقائع العالقة بالذاكرة، فنجده يتابع غايته بامساكنا بلسان الروي فيقول:” وهو كما يقول يمكنكم الوثوق بي وبما ساقوله لكم؛ لاني عشت تفاصيل هذه الرواية، وهذه صفحات من حياتي افتخر بها وبما كتبه مصطفى القرنة عني… وانا لست شخصية وهمية، انا رمز القوة الارادة منذ عشت صغيرا في جبل الخريط، يتيما بلا اب ولا ام، ولم تكن هذه الرواية سوى بعض ملامح حياتي التي ستعرفونها حتما فيما بعد… ورايت ان ارحل من هنا عندما بدا الناس بالوفود بكثرة، ولذلك قررت ان اعيش في وحدتي هناك في وادي السير واتمتع بها. ص ١٤٩.
جبل التاج اسم الرواية والباعث الرئيس على كتابتها والذي يشكل عتبه النص الذي ممكننا من خلاله الكاتب من الولوج مباشرة الى احداث الرواية وانتظار وقوع الاحداث بشغف، كل هذا بالزامن مع البدء برسم خطوط الرواية وتأثيثها بعناية …
وبانتظار تفكيك الاحداث وتلاقي خيوط الاحداث، نجح العنوان بان يكون جامعا لخطوط الرواية واحداثها وشخصياتها بهدف جمعها على خشبة مسرح واحد..حتى يكاد المتمعن ان يترأى له مشاهدة النص من على سينما في الهواء الطلق نصبت في اعلى جبل الخريطة [التاج]..
فيقول الكاتب ص ٢٧٥:” لم يعرف الناس في الخارج عن كل هذه الفترة التي مرت، انتبهوا عندما جاءت السلطات المحلية لاعادة تاهيل المبنى القديم وتحويله الى مدرسة جديدة، انها مدرستي التي سوف اقضي فيها بعض حياتي الدراسية، مدرسة التاج الثانوية، لقد كانت الحاجة ملحة للمدرسة في هذه المنطقة بالذات، وهذا ما حدث بالضبط قررت ان اتجول في المكان الذي بقرب بيتنا واشاهده من بعيد،… لقد حضرت متاخرا لاعيد قراءة المكان، وبالتالي اتمكن من سرد هذه الحكاية. وعندما اتذكر هذا يمر بذهني سيدنا سليمان عندما مات ولم يعرف احد بموته الا عندما سقطت عصاه ، وهذا حدث مع النادي؛ فالنادي لم يكن يعرفه احد الاّ القليل جدا ، ولم ينتبهوا له الّ بعد ان مات ، واصبح مدرسة التاج الثانوية.
وهنا جاءت ذروة الاحداث وتصاعدها فيقول الكاتب في نهاية صفحة ٢٧٥:” انتهى كل شيء، هكذا قالوا لي يوم الخميس بدايه اذار 1956 سنقوم باغلاق النادي، لم يعد هناك اي سلطة لنا في هذه الديار، هكذا قال رون غاضبا ودون كلمة وداع حمل اغراضه ورحل”.
الى ان ينهي الكاتب احداث الرواية ص ٢٧٩ باطلاعنا على مصير شخصياته حتى لايبقى معلقا؛ فالمصير هنا كان يجب ان يكون معلوما لانه يرتبط ارتباطا وثيقا بمسيرة البلاد واحوال ابنائها ، فنجده يفول:” رحل الجميع، لم يتبقى احد من ابطال الجبل في جبل الخريطة الذي تحول اسمه الى جبل التاج عندما سكنه ضابط كبير وطلب تغيير اسم الجبل الخريطة الى جبل التاج، واجيب طلبه. والى ذلك رحلت مطيعة الى جبل الجوفه احد جبال عمان، ورحل ينال الى وادي السير”.
” وعندما اغلق نادي الانجليز رحل جمشيد -ابن محمود القادم من الهند- الى مدينه الرصيفة، ورحل رون الضابط الانجليزي الذي تقاعد، وغادر الى لندن ليعمل في نادي جولف هناك، وبعد سبع سنوات على اغلاق ذلك النادي ورحيله، تحول الى مدرسه التاج الثانويه المدرسة التي احبها الكاتب..” والتي الهمته كتابة هذه الرواية.
صاحبنا الروائي مصطفى القرنة في تحفته هذه يقدم لنا سيرة مروية لعمان قبل تأسيس الامارة، لكن الاهم انه يقدم لنا مروية هامة جدا لمن يريد كتابة تاريخ المدينة بعين العاشق والمحب.
صاحبنا مصطفى القرنة في هذه الرواية سار على درب كثيرون من عشاق مدنهم والذين يدونون حكاياتها بين دفتي كتاب ليغدو دليلا سياحيا للمدينة وتاريخها، وهذا ما ذهب اليه الكاتب التركي العالمي اورهان باموق في روايته البديعة متحف البراءة…

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً