مركز المستشار للرصد والتحليل:
في هذا الزمان و الظرف القاسي والواقعي في قطاع غزة، لا مكان للمواربة أو التنظير. فالكلمات الصادمة تعبّر عن مرحلة ما بعد الانفجار: مرحلة ما بعد الدولة، وما بعد التنظيم، وما بعد السلاح، وحتى ما بعد العقد الاجتماعي. إنها مرحلة الحطام الكامل – البشري والمؤسساتي والأخلاقي – في قطاع غزة، بعد حرب إبادة شاملة لم تُبقِ على شيء تقريبًا، باستثناء سؤال الوجود نفسه: هل يمكن للناس أن يبقوا؟
1. لم تعد هناك سلطة… ولا حتى وهم السلطة
من يتحدث عن “نزع سلاح”، أو “تنازل عن الحكم”، يتحدث عن كيان وهمي لم يعد له وجود فعلي على الأرض.
* لا توجد بنية أمنية
* لا جهاز شرعي
* لا شبكة خدمات
* لا قدرة على السيطرة أو التنظيم
ما تبقى مجرد فلول تختبئ بين المدنيين، بلا قدرة على المواجهة، ولا حتى على الهروب.
ما كان يسمى “حكم الأمر الواقع” أصبح بلا أمر… ولا واقع.
2. الحرب لم تُسقط البناء فقط… بل أسقطت المجتمع نفسه
ليست المشكلة فقط في الدمار المادي.
بل في تفكك الروابط الاجتماعية تحت ضغط:
* القصف المستمر
* غياب أي مرجعية قانونية
* العنف الداخلي الذي مارسته مجموعات فصائلية ضد أبناء مجتمعها
* والصراع اليومي على البقاء: الماء، الطعام، الخيام، الحماية
الناس اليوم تبحث عن مأوى… لا عن فكرة وطنية، أو تمثيل سياسي، أو راية فصائلية.
3. من ذاكرة السلطة إلى شهوة العنف: خطر الفلول المسلّحة
ما تبقى من “المليشيا” لم يعد مشروع مقاومة، بل بقايا قوة أمنية غير شرعية تحوّلت إلى تهديد داخلي.
* تمتلك سلاحًا خفيفًا
* لا تخضع لأي نظام سياسي
* تختبئ بين الناس
* وتعيش على وهم السلطة السابقة
هذا السلاح لم يعد يُستخدم ضد الاحتلال، بل لترهيب الناس، وتصفية الحسابات، وفرض السيطرة على الموارد والنازحين.
الخطر الآن ليس فقط من الاحتلال، بل أيضًا من انكشاف المجتمع أمام العنف غير المنظم.
4. التوبة السياسية ليست خيارًا… بل ضرورة للبقاء
ما يُطلب من بقايا القيادة السابقة ليس اعتذارًا، بل توبة سياسية وأمنية حقيقية.
* التراجع الفوري
* تسليم ما تبقى من السلاح
* إفساح المجال لدخول قوة شرعية موحّدة
* الاستعداد للمحاسبة الأخلاقية والتاريخية
الاستمرار في وهم “القيادة” وسط الأنقاض جريمة مضاعفة، تُضاف إلى سجل طويل من الكوارث التي بدأت بالانقلاب… وانتهت بالمحرقة.
5. غزة الآن: مجتمع بلا قيادة، وبلا أفق، وبلا أمان
إذا لم يتم التدخل بشكل وطني شامل، فإن غزة تتحوّل إلى:
* معسكر لجوء كبير
* بلا سيادة
* بلا مستقبل
* محكوم بالميليشيا الصغيرة
* تحت رحمة الاحتلال أو أدواته
الحديث الآن يجب أن يكون عن: كيفية إعادة تركيب المجتمع، لا عن تقاسم سلطة لم تعد موجودة.
فمن يبقَ على قيد الحياة، يحتاج إلى دولة، لا إلى رايات فصائل.
لا مجال للتأخير… ولا مفر من الحقيقة
كل لحظة تُهدر في الخطابات والشعارات، تُقابل بمأساة جديدة.
من يرى الواقع ولا يتراجع، يتحمّل المسؤولية كاملة.
ومن يُصرّ على الاستمرار في قيادة ما لم يعد موجودًا، يُكرّس سقوطًا أخلاقيًا وسياسيًا مضاعفًا.
الزمن ليس زمن المزايدة… بل زمن إنقاذ الإنسان. ومن لا يراه، فليغادر المشهد بهدوء.
خطة بلا عودة: كيف تحوّلت حماس إلى أداة وظيفية في مشروع التهجير الإسرائيلي؟
لا شيء أخطر على المشروع الوطني الفلسطيني من لحظة يلتبس فيها الحلم بالمصيدة، والمقاومة بالخدمة غير المقصودة لأجندة الاحتلال. هذه اللحظة تتجلّى اليوم في قطاع غزة، حيث تتقاطع الرؤية الإسرائيلية الأمريكية مع السلوك السياسي لحماس، لتنتج ما يُشبه بيئة مثالية لتنفيذ أكبر عملية تهجير جماعي في تاريخ القضية الفلسطينية منذ نكبة 1948. هذا التحليل يفكك مكونات هذا المخطط، ويطرح تساؤلاً وجوديًا: هل أصبحت حماس، بعد انتهاء دورها الوظيفي، أقرب إلى شريك غير معلن في تقويض المشروع الوطني؟
*لخطوة الأولى: “7 أكتوبر” كذريعة كبرى لحسابات إسرائيل العميقة
الهجوم المفاجئ الذي قادته حماس في 7 أكتوبر 2023، ورغم كونه عملًا عسكريًا بامتياز، إلا أنه وفّر لإسرائيل ذريعة استراتيجية طالما كانت تبحث عنها: ذريعة تجعل من خطاب “الأمن القومي الإسرائيلي” مفتاحًا لغرف التهجير الجماعي وممرًا لتصفية غزة ديموغرافيًا.
بمعنى آخر، تحوّل الهجوم إلى نقطة بداية لمشروع خطير، جرى طبخه على نار هادئة في غرف البيت الأبيض وتل أبيب، وكان بانتظار “الشرارة”. وحماس، بحسن نية أو بدونها، قدّمت هذه الشرارة على طبق من نار، دون أن تعي أن كل قذيفة تطلقها، تُقابل بخريطة هندسية جديدة لاقتلاع أهل غزة.
الضغط العسكري ليس لتحرير الرهائن: الهدف تهجير غزة بحجة الصراع مع حماس
يظن البعض أن الضغط العسكري الإسرائيلي يهدف فقط إلى استعادة الأسرى أو القضاء على بنية حماس المسلحة. لكن التحليل الاستراتيجي للخطاب الإسرائيلي، وقرارات الكابينت، والتصريحات الأمريكية – وخاصة في عهد إدارة ترامب الثانية – تكشف عن هدف أعمق: خلق بيئة طاردة تجعل البقاء مستحيلًا، وتُقنع الناس أن “الخروج” هو الخيار الوحيد.
هذه البيئة لا تُصنع فقط بالصواريخ والرصاص، بل أيضًا بالحصار الغذائي، وانهيار النظام الصحي، وتدمير البنية التحتية، وكلها مقصودة لتحطيم إرادة الصمود، وفتح الباب للتهجير الطوعي، الذي يُسوّق باعتباره “خيارًا إنسانيًا”.
الوكالة الإسرائيلية للتهجير: مشروع رسمي لبيروقراطية الترحيل
الحدث الأخطر جاء بإعلان إسرائيل إنشاء وكالة حكومية رسمية متخصصة بتنظيم تهجير سكان غزة، والتفاوض مع الدول المستضيفة، وتهيئة الدعم الدولي لهذا المشروع. ما يحدث اليوم هو تحويل “النكبة” من حالة كارثية فرضتها الحرب إلى نظام إداري، تتولاه الدولة بكامل أجهزتها.
هذا التحول لا يمكن فهمه إلا ضمن رؤية استراتيجية تقوم على مبدأ: لا حل لغزة إلا بتفريغها. وحماس، بإصرارها على البقاء في الحكم رغم الكارثة، تُعطي لهذا المشروع المبررات الكافية.
سلاح حماس: من رمز للمقاومة إلى ذريعة للتطهير
تحوّل السلاح من أداة للدفاع إلى قيد نفسي واستعراضي. في كل مرة ترفض حماس التنازل عن سيطرتها، وتصر على القتال رغم الكلفة الإنسانية الهائلة، تدفع آلاف الغزيين نحو الهروب. هذا السلاح، الذي لطالما وُصف بأنه “سلاح الشعب”، أصبح يُنظر إليه كأداة تُستخدم لفرض السلطة، أكثر من كونه وسيلة للتحرير.
السؤال الأخلاقي هنا: هل يصبح سلاح المقاومة شرعيًا إذا كانت كلفته تهجير شعب بأكمله؟ وهل يجوز التمسك به حتى لو أدى إلى نسف المشروع الوطني برمّته؟
السلطة الفلسطينية والرؤية البديلة: نحو مشروع وطني بلا مليشيات
منذ اللحظة الأولى للنكبة المستمرة، التزمت القيادة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير برؤية سياسية واضحة: وحدة الجغرافيا، وحدة التمثيل، الشرعية الدولية، والدولة الواحدة في الضفة وغزة وعاصمتها القدس.
اليوم، تُطرح هذه الرؤية بوصفها المخرج الوحيد. فالبديل عن حماس ليس فراغًا ولا لجان طوارئ، بل هو استعادة الدولة بمفهومها السيادي والمؤسساتي. فلا مشروع وطني ينجح بدون جيش موحد، وقضاء موحد، وخطاب سياسي لا يحمل في طياته بذور الانفصال.
من يقاوم التهجير فعلًا؟
الصمود لا يُقاس بعدد القذائف، بل بقدرة القيادة على حماية الوجود الفلسطيني، جسديًا ومعنويًا. ومن يرفض أن يغادر الفلسطيني أرضه، لا يجب أن يُدفع إلى مغادرتها تحت القصف أو باسم “المقاومة المستمرة”. المقاومة الحقيقية هي التي تحمي الإنسان قبل أن ترفع الشعارات.
وإذا كانت إسرائيل قد أجادت استغلال وجود حماس كعدو تحت السيطرة، فإن اللحظة التاريخية اليوم تفرض مراجعة شاملة: سقوط حماس في المشروع التهجيري ليس سقوط فصيل، بل سقوط أداة وظيفية انتهى دورها، ويجب أن يُعلن انتهاء المسرحية لصالح دولة تُبنى على الحرية لا على الرماد.
الرسالة الآن إلى كل صانع قرار فلسطيني: حافظ على الإنسان، قبل أن تفكر بالحكم. فالدولة لا تُبنى فوق المقابر، ولا فوق معسكرات اللجوء الجديدة. غزة لا تحتاج إلى راجمات… بل إلى شرعية تستعيد الأرض والكرامة معًا.
وما بعد حماس… إما مشروع وطني شامل، أو مشروع إسرائيلي كامل.
خذ نفسًا عميقًا، وابدأ التفكير خطوة بخطوة.
سقوط الانقلاب وانكشاف الوظيفة: نحو استعادة المشروع الوطني الفلسطيني بقيادة الشرعية
في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها القضية الفلسطينية، ومع اقتراب نهاية واحدة من أكثر مراحل الانقسام خطورة على مصير شعبنا، تبرز لحظة الحقيقة التي طالما نادى بها أبناء فلسطين الأوفياء وقيادتها الشرعية: إنهاء الانقلاب، وسقوط سلطة الأمر الواقع في غزة، لم يعد احتمالًا بعيدًا، بل واقعًا تتشكل ملامحه، ومفتاحه الأساسي هو عودة المشروع الوطني الفلسطيني إلى أصالته ومركزيته.
1. سقوط الانقسام هو سقوط الانقلاب… لا المقاومة
منذ عام 2007، لم يكن ما جرى في غزة حدثًا عابرًا، بل انقلابًا مكتمل الأركان على الشرعية الفلسطينية، وعلى وحدانية التمثيل الفلسطيني التي يجسّدها قرار الشعب وتوافقه عبر منظمة التحرير الفلسطينية.
الانقلاب الذي قادته حركة بعينها لم يكن استجابة لأزمة وطنية، بل محاولة للانفراد بالقرار تحت غطاء ديني وشعبي، تحول سريعًا إلى مشروع شخصي فصائلي معزول عن الإجماع الفلسطيني.
ولذلك، فإن سقوط الانقلاب اليوم لا يُعد استهدافًا لفصيل بعينه، بل تصويبًا لمسار تاريخي خاطئ، وتفكيكًا لمشروع تقسيمي خدم الاحتلال سياسيًا وأمنيًا منذ لحظته الأولى.
2. الانقسام خنجر مسموم في خاصرة الدولة الفلسطينية
منذ لحظة الانقسام، تحوّل قطاع غزة إلى كيان منعزل، محاصر من العدو ومحكوم من الداخل بلا شرعية ولا مساءلة، مما مَكَّن الاحتلال من تفتيت الجغرافيا والسيطرة على الأرض، وفتح المجال أمام مشاريع مشبوهة، إقليمية ودولية، للالتفاف على القرار الفلسطيني المستقل.
وبدل أن تبقى غزة جبهة متقدمة في مواجهة الاحتلال، أُعفي الاحتلال من مسؤوليته كقوة قائمة، واستُبدلت المواجهة بالخطابات، والقرار السياسي بالأنفاق، والصراع التحرري بالصراع الداخلي.
الانقسام لم يكن مجرد أزمة سياسية… بل أداة استراتيجية لضرب الحلم الفلسطيني في إقامة الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، على أساس قرارات الشرعية الدولية.
3. لا مقاومة خارج الشرعية، ولا تحرير بمصادرة القرار الوطني
تتمسك القيادة الفلسطينية بمفهوم شامل للمقاومة، يربط بين النضال السياسي والدبلوماسي والقانوني، وبين حماية الإنسان الفلسطيني وصون كرامته، باعتبارها أساس المشروع الوطني.
أما من حوّل المقاومة إلى وسيلة للاحتكار، وزج الشعب في معارك غير محسوبة، ثم طالب العالم بحمايته دون أن يلتزم بشروط الشرعية الدولية، فقد انفصل عن روح النضال الوطني، وفتح الباب أمام اتهامات، ومآزق، واصطفافات لا تخدم إلا المشروع الصهيوني.
لا تحرير بلا تمثيل موحّد… ولا مقاومة بلا مساءلة وطنية… ولا دم يمكن المتاجرة به لتبرير استمرار سلطة الأمر الواقع.
4. منطق الدولة لا يقبل الميليشيات، والسيادة لا تُبنى على فُتات الشرعيات
لقد اختارت القيادة الفلسطينية، منذ إعلان الاستقلال وحتى اليوم، أن تبني مؤسسات دولة لا سلطات فصائل، وأصرّت على أن يكون الحكم تحت سقف القانون، لا تحت ظلال السلاح.
لكن ما جرى في غزة أفرز بنية غريبة هجينة:
* جهاز أمني لا يخضع للرقابة
* إدارة تُقصي الآخر
* وعقلية تتعامل مع الشعب كمخزون تعبوي، لا كشركاء في القرار
الشرعية لا تتجزأ، ومن يرفض صندوق الاقتراع، ويرفض الوحدة، ويرفض العودة إلى حضن منظمة التحرير، لا يمكن أن يكون شريكًا في بناء الدولة.
5. سقوط مشروع “دولة غزة” هو انتصار لفلسطين الواحدة
منذ سنوات، يعمل الاحتلال على تمرير خطة ضمنية لتكريس واقع الانفصال، يتم فيه التعامل مع غزة كمشكلة أمنية، والضفة كمساحة للتوسع الاستيطاني، والقدس كعاصمة أبدية له.
وبينما وقفت القيادة الوطنية على خطوط الاشتباك الدبلوماسي والسياسي والقانوني، ورفضت جميع مشاريع تصفية القضية، راحت سلطة الانقلاب في غزة تُدير معاركها الخاصة، تحت وهم “التحرير من غزة”، بعيدًا عن رؤية وطنية شاملة.
اليوم، سقوط هذا المشروع الانقسامي ليس فقط ضرورة سياسية… بل واجب وطني واستحقاق شعبي، يعيد الاعتبار للمؤسسات، ويُعيد قطاع غزة إلى قلب فلسطين الموحدة، لا كموقع للمزايدة، بل كجزء من النسيج الوطني الواحد.
6. الاستقرار وإعادة الإعمار لا يكونان إلا من خلال الشرعية
نُدرك حجم المأساة الإنسانية التي يمر بها قطاع غزة، ونعرف أن رفع المعاناة وإعادة الإعمار أولوية وطنية وإنسانية، لكننا نُصرّ على أن الحل لا يمكن أن يأتي عبر أطراف خارج إطار الشرعية الفلسطينية.
المال الإغاثي لا يصنع دولة، والممرات الإنسانية لا تبني سيادة، ولا يمكن لأحد أن يُعيد إعمار غزة على حساب المشروع الوطني.
القيادة الشرعية وحدها، وبالشراكة مع المجتمع الدولي، تملك القدرة على توحيد الجهود، وضمان أن تكون إعادة الإعمار مقدّمة لتعزيز الدولة، لا لتكريس الانقسام.
7. المصالحة ليست تسوية… بل تصحيح للمسار الوطني
الحديث عن “المصالحة” لا يجب أن يُفهم بوصفه تنازلًا أو تقاسمًا للسلطة، بل استحقاقًا وطنيًا لإعادة الأمور إلى نصابها.
ولذلك، فإن أي ترتيبات قادمة يجب أن تستند إلى العودة الكاملة إلى مظلة منظمة التحرير، والاحتكام إلى القانون، والالتزام بمرجعية واحدة للقرار السياسي والعسكري، تحت قيادة واحدة، كما أقرها شعبنا ومؤسساته التمثيلية.
سقوط الانقلاب هو بداية النهوض بالمشروع الوطني
ليست القضية أن تسقط حماس كتنظيم، بل أن ينتهي مشروع الانقسام الذي مكّن الاحتلال وأضعف الشعب.
عودة غزة إلى حضن الشرعية هي بوابة الدولة، ومن دونها سيبقى الاحتلال يراهن على الفوضى والانقسام.
أما القيادة الفلسطينية، فإنها ماضية في طريق التحرير عبر التمثيل، والشرعية، والصمود السياسي، لا المغامرات.
وستظل متمسكة بثوابتها، وفي مقدمتها:
* الدولة الفلسطينية المستقلة
* عاصمتها القدس
* وحق العودة
* وقرارات الشرعية الدولية
* ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات
هذا هو الطريق، ولا طريق غيره.
قراءة سياسية واقعية في انهيار المعادلة الوطنية الفلسطينية بعد حرب غزة 2025
في المشهد الفلسطيني اليوم، لا مكان للرومانسية السياسية.
فما يجري لا علاقة له بـ”التحرير” كما يُروَّج، ولا بصيغة “الانتصار” كما يُقال، ولا حتى بـ”الصمود الأسطوري” كما يُتغنى.
نحن أمام لحظة حاسمة تتطلب تحليلاً جافاً وواقعياً، بلا عاطفة، وبلا شعارات، وبلا تجميل.
ولعلّ أكثر ما يميز هذه اللحظة أن إسرائيل لم تنتصر وحدها، بل ساعدها خصومها – عن قصد أو دون قصد – في إنجاز ما عجزت عنه لعقود: تحطيم المشروع الوطني الفلسطيني من الداخل، وإعادة صياغة الصراع بما يخدم استراتيجيتها الطويلة الأمد.
1. حرب بلا أهداف وطنية: متى فقدت “المقاومة” المعنى؟
بدأت الحرب الأخيرة كما بدأت سابقاتها: قصف، صواريخ، مشاهد مأساوية، ومقاومة مسلّحة ترفع سقف التحدي.
لكن سريعاً، تكشّف أن ما يحدث لا يشبه السابق؛ فـالاشتباك الذي قُدّم كمعركة شرف وكرامة، سُحب من تحته أي مضمون وطني جامع:
* لا برنامج سياسي.
* لا جبهة وطنية موحدة.
* لا غطاء شرعي فلسطيني.
* لا أفق تفاوضي أو تحرري.
ببساطة، كانت الحرب تُدار بصيغة “ردّ الفعل” دون رؤية، و”التمترس المسلح” دون مآل.
وهنا تحديداً، بدأت حماس – من حيث تدري أو لا تدري – بخدمة الرؤية الإسرائيلية لصراع مدجّن يمكن ضبطه والتحكم به.
2. تثبيت الانقسام: “غزة حماس” مقابل “ضفة السلطة”
لعلّ أحد أعظم إنجازات إسرائيل خلال العقدين الماضيين كان إعادة تعريف فلسطين بوصفها كيانين:
* أحدهما مقاوم ومحاصر.
* والآخر منسق ومُعزول.
ورغم خطورة ذلك، نجحت إسرائيل في تمرير هذه المعادلة عبر أدوات محلية:
* حماس رسّخت نفسها كسلطة أمر واقع في غزة.
* وبالمقابل، جرى تقزيم السلطة الوطنية إلى كيان إداري لا يملك سلطة حقيقية في مواجهة الاحتلال
النتيجة؟
تحوّلت فلسطين إلى ملفين:
* ملف أمني في الضفة.
* وملف إنساني في غزة.
وهذا تمامًا ما كانت إسرائيل تحتاجه: تفكيك وحدة الساحة الفلسطينية تمهيدًا لتفكيك قضيتها بالكامل.
3. تسليح الانفصال: من المقاومة إلى الأداة
عندما تتبنى حركة مقاومة خيارًا عسكريًا دون مظلة سياسية واضحة، ودون إجماع وطني، فإنها تُحرم من شرعية الإنجاز حتى وإن نجحت ميدانيًا.
لكن في حالة حماس، لم يكن غياب المظلّة فقط، بل أيضًا التحوّل التدريجي من مقاومة إلى “أداة ضبط محلي” للقطاع.
* في كل تهدئة، كانت تلعب دور “الضامن” لأمن الحدود.
* في كل جولة، كانت تخرج بمكاسب موضعية لا تُصرف سياسيًا.
* ومع الزمن، تكرّس وضع غزة ككيان منعزل قابل للاحتواء والسيطرة.
بعبارة أكثر صراحة:
حماس – من حيث تدري أو لا تدري – ساهمت في تحويل القطاع إلى ساحة قابلة للتفريغ والتجويع والعزل، دون أن تتمكن من كسر المعادلة أو تغيير قواعد اللعبة.
4. خطاب “النصر” كغطاء للكارثة
لا توجد مقاومة بلا خسائر، هذا مفهوم.
لكن الأخطر هو حين تُستخدم الخسارة كمدخل للتهليل، والكارثة كدليل على النصر، والدم كأداة دعائية.
ما يجري اليوم هو تسويق لدمار القطاع كأيقونة صمود، دون أن يتبع ذلك أي مراجعة سياسية، أو اعتراف بالأخطاء، أو حتى مسؤولية عن فشل التكتيك والمآل.
يتم تصوير الصمود في وجه الإبادة كعلامة نصر.
في حين أن الواقع يقول: لا دولة تحققت، ولا مشروع حُمي، ولا شعب نجا
هذا الخطاب، بقدر ما يُخدّر الجمهور، يُخفي حجم التورط في معادلة الاستنزاف التي تفتك بكل ما تبقى من عناصر الصمود الحقيقي.
5. خدمة المشروع الإسرائيلي الكبير: دولة بلا شعب، وشعب بلا دولة
منذ سنوات، تعمل إسرائيل على مشروع استراتيجي ثلاثي الأركان:
1. تصفية فكرة الدولة الفلسطينية بالكامل
2. دفع الفلسطينيين نحو الانفجار الذاتي
3. تحويل غزة إلى “كابوس إنساني” قابل للتفريغ والتهجير
وفي ظل غياب وحدة القرار الفلسطيني، وغياب الرؤية السياسية عند حماس، ووجود سلطة بلا أدوات فعلية في الضفة، بات المشروع الإسرائيلي أقرب إلى الإنجاز من أي وقت مضى.
كل الأدوات التي كانت تُفترض أنها دفاع عن القضية، أُعيد توظيفها – بطريقة مأساوية – في تعزيز ملامح “إسرائيل الكبرى” التي لا تواجه مشروعًا مقابلًا.
خاتمة باردة كما الواقع: السياسة لا تعترف بالنوايا
في السياسة، لا يُقاس الفعل بنية صاحبه، بل بما أنجزه فعليًا، وأين أوصل شعبه.
ولذلك، فإن حماس، رغم خطابها النضالي، أسهمت – موضوعيًا – في تفكيك المشروع الوطني الفلسطيني، سواء من خلال سياساتها، أو من خلال خطابها، أو من خلال تصرفها كسلطة لا كحركة تحرر.
وإسرائيل، التي لا تملك لا رحمة ولا مهادنة، استغلت ذلك حتى الرمق الأخير… ثم قررت كنس الورقة عندما انتهت صلاحيتها.
في النهاية، كل من لا يفكر استراتيجيًا، سيفكر عنه العدو… وسيرسم له الدور… ثم ينهيه، دون حتى أن يُمنح فرصة الوداع.
“نهاية المهمة”: تفكيك هندسة الاستخدام الإسرائيلي لحماس من “عدو مشاغب” إلى “وظيفة مستهلكة”
كيف انتهت صلاحية الدور الوظيفي لحماس… ولماذا تسير الحركة نحو الخروج كأداة استُخدمت؟
في لحظة هي الأخطر منذ تأسيس حركة حماس، وأمام ركام غزة الذي يزداد ارتفاعًا، لا تبدو معركة اليوم مع الاحتلال فقط، بل مع الوعي الذي يُراد صناعته حول من انتصر، ومن خرج، ومن استخدم من.
التحليل السياسي العميق لا يمكن أن يتجاهل حقيقة باتت واضحة: إسرائيل نجحت في استخدام حماس كأداة داخلية لتفكيك البنية الوطنية الفلسطينية، والآن بعد انتهاء المهمة… تُرسم ملامح النهاية التدريجية للحركة بصيغة الخروج الوظيفي.
1.من التنظيم المقاوم إلى العدو القابل للإدارة : كيف صاغت إسرائيل مشروعها؟
منذ نشأة حماس، سعت إسرائيل إلى خلق بديل لحركة وطنية جامعة بقيادة منظمة التحرير.
جاءت الفكرة في ثمانينات القرن الماضي:
* استخدام البُعد الديني كبديل عن السياسي
* تحويل الصراع من وطني تحرري إلى صراع داخلي–فصائلي
* إضعاف وحدة القرار الفلسطيني عبر تعدد “المرجعيات”
وبالفعل، تحولت حماس من تنظيم مقاوم إلى “عدو يمكن التنبؤ به والسيطرة على نطاق فعله”، وهو ما تسميه دوائر صنع القرار الإسرائيلي بـ “عدو تحت السيطرة” (Controlled Opposition).
2. تمكين وظيفي متعمّد: سلطة في غزة… ومعزولة عن القرار الوطني
منذ الانقسام عام 2007، لم تعترض إسرائيل فعليًا على بقاء حماس في الحكم في غزة، بل سهلت بقاءها بشكل غير مباشر:
* عبر اتفاقات تهدئة متكررة
* عبر ضبط مساحات التصعيد
* عبر غض الطرف عن بناء منظومة أنفاق
* وعبر تحييد القطاع سياسيًا عن الملف الفلسطيني العام
الهدف لم يكن تمكين حماس من النصر، بل إعادة إنتاج غزة ككيان منفصل وظيفي، تتم إدارته عبر أداة يمكن احتواؤها أمنيًا، وتوظيفها سياسيًا.
وهكذا تحولت حماس إلى ما يمكن تسميته: “المُقاوم المُراقَب” أو “المعارِض الذي يحتاجه العدو”.
3. الحرب الأخيرة: نهاية الدور أم نهاية الغطاء؟
في حرب 2023–2025، دخلت إسرائيل في أوسع عملية تدمير للقطاع، لكنها لم تُخفِ نيتها: تغيير البيئة السياسية، لا فقط العسكرية.
وفي قلب هذه العملية، كان الهدف الأساسي:
* إنهاء الدور الوظيفي لحماس بعد استهلاكه
* تصفية الحاضنة الاجتماعية التي كانت تحفظ شرعيتها
* وخلق بيئة “ما بعد حماس” جاهزة لفرض ترتيب جديد دون قتال
إسرائيل لا تسعى بالضرورة لقتل كل قادة حماس، بل لإخراج الحركة من المشهد كفاعل، وإبقائها كذكرى سياسية مأساوية.
4. السردية الأخيرة: محاولة حماس للهروب من الاعتراف… عبر إنتاج “بطولة الضحية”
مع تصاعد الإبادة في غزة، تعمل الحركة عبر خطابها الإعلامي على تثبيت سردية جديدة:
* “لقد انتصرنا لأننا لم نُهزم نفسيًا”
* “العرب خانونا، وليس العدو هو من أسقطنا”
* “خرجنا مرفوعي الرأس… لأننا صمدنا”
هذا الخطاب ليس فقط تبريرًا للخروج، بل هو محاولة لإبقاء الهيمنة الرمزية على الساحة الفلسطينية، رغم انتهاء المهمة الفعلية.
هنا نُسجل ما يمكن وصفه بـ: “مسرحة الخروج الوظيفي”
أي: تحويل نهاية الدور إلى عرض درامي يحافظ على صورة البطل، رغم أن النص انتهى.
5. * العقل الإسرائيلي يُعلن: المهمة اكتملت… والملف يُغلق
التحليل الصهيوني اليوم لا يركز على “الانتصار العسكري” فقط، بل على نجاح “التحكم بساحة العدو” لعقود:
* تم احتواء غزة دون حل
* تم تفكيك وحدة المشروع الوطني
* تم تحويل أكبر ساحة نضال إلى “جبهة معزولة يسهل قصفها متى لزم”
* تم خلق كيان بديل أفقد م.ت.ف حضورها في وجدان الشباب
والآن، بعد أن أصبحت التكلفة أكبر من الفائدة، تقرر المؤسسة الإسرائيلية إنهاء الملف: ليس بالقصف وحده… بل بـنزع “الشرعية الداخلية” عن بقاء حماس في الواجهة.
6. الرسالة إلى الوعي الفلسطيني: من استخدم من؟ ومن خان من؟
السؤال اليوم لا يجب أن يكون:
* هل خان العرب حماس؟
* أو هل خانت حماس شعبها؟
بل الأهم:
* هل خُلق الدور منذ البداية ليُستخدم… وتم استخدامه حتى النهاية؟
* وهل كانت الدماء التي سالت وقودًا لمشروع “إدارة الاحتلال بواسطة الخصم المحلي”؟
الجواب المؤلم هو: نعم، لقد انتصر المشروع الإسرائيلي جزئيًا، لأنه هندس عدوه، واستخدمه… ثم قرر ركنه جانبًا.
لا تسقطوا في فخ “بطولة المستهلك”
حماس اليوم تُحاول النجاة من لحظة النهاية عبر إعادة تشكيل الوعي:
* لا كحركة خسرت مشروعها
* بل كـ”بطلة أُخرجت من الميدان بمؤامرة”
* لكن الحقيقة الأعمق أن الحركة أُنهِكت لأنها استخدمت… واستخدمت لأنها خرجت عن المشروع الوطني الشامل.
ومن لا يتعلّم من هذه اللحظة، سيُعاد استخدامه… حتى يُستهلك من جديد.
استراتيجية ما بعد النكبة الثالثة: الدور الوظيفي لحركة حماس في رسم مصير المخيمات في الضفة والشتات
في لحظة سياسية تتجاوز منطق المعركة العسكرية، تُعاد صياغة المشهد الفلسطيني من جديد، لا فقط بالقصف والاجتياحات، بل أيضًا من خلال التحولات البنيوية في وظيفة الفاعلين داخل الساحة الفلسطينية.
ومع تزايد المؤشرات على أن ما يحدث يتجاوز حربًا على غزة أو الضفة، تبرز ملامح مرحلة جديدة يُعاد فيها تعريف الوجود الفلسطيني – وبشكل خاص مصير المخيمات – كجزء من معادلة سياسية أمنية تستهدف تصفية الهوية الوطنية عبر الأدوات الداخلية قبل الخارجية.
في قلب هذه المعادلة، تقف حركة حماس بوظيفتها الأمنية والسياسية، لا بوصفها مقاومة، بل كأداة وظيفية صُنعت لتخدم أهدافًا إسرائيلية بعيدة المدى، وفي تناقض مباشر مع الرؤية الوطنية التي تتبناها منظمة التحرير الفلسطينية، القائمة على حماية المخيمات، وتثبيت حق العودة، وصون رواية اللاجئ كشاهد تاريخي لا يمكن شطبه.
1. من صناعة العدو إلى توظيفه: حين تتحوّل الخصومة إلى أداة أمنية
لم يكن ظهور حركة حماس في نهاية الثمانينيات نتيجة فراغ نضالي، بل نتيجة هندسة أمنية إسرائيلية أرادت خلق عدو داخلي يمكن التنبؤ بسلوكه والسيطرة عليه، في مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية التي راكمت حضورًا سياسيًا وقانونيًا دوليًا متماسكًا.
منذ البداية، كانت العلاقة غير المباشرة بين إسرائيل وحماس قائمة على الاستخدام الوظيفي:
* إبقاء الساحة الفلسطينية منقسمة
* خلق نموذج إسلامي سياسي لا يعترف بالشرعية الدولية
* تشويه السردية التحررية القائمة على القانون الدولي
تحوّلت حماس بمرور الوقت من “البديل الإسلامي” إلى “الأداة الأمنية”، ومن لاعب ميداني إلى فاعل مدجّن ضمن استراتيجية طويلة المدى هدفها ضرب المشروع الوطني الفلسطيني من الداخل.
2. المخيمات تحت النار: صراع بين من يريد طمسها ومن يراها شاهدًا على النكبة
منظمة التحرير الفلسطينية لم تتعامل مع المخيمات كمناطق سكنية فقط، بل كذاكرة حية ورمز سياسي وحقوقي.
المخيم هو الدليل القانوني والإنساني والسياسي على جريمة التهجير القسري التي ارتُكبت بحق الشعب الفلسطيني عام 1948. لهذا، حرصت القيادة الفلسطينية دائمًا على:
* إبقاء المخيمات على قيد الحياة
* دعم اللاجئين اجتماعيًا واقتصاديًا
* ترسيخ المخيم في الوعي الأممي كعنوان لحق العودة والتعويض وتقرير المصير.
لكن مقابل ذلك، تقوم إسرائيل – بشكل مباشر وغير مباشر عبر أدواتها – باستهداف هذه المخيمات عسكريًا، أو تفريغها سياسيًا، أو شيطنتها إعلاميًا.
اليوم، نشهد تحولات خطيرة تُظهر كيف أن حماس، بوظيفتها الحالية، تُسهم في إعادة تعريف المخيم لا كموقع مقاوم، بل كساحة فوضى، وانقسام، وعبء سياسي.
3. فصل الشتات عن القضية: كيف تخدم حماس استراتيجية شطب حق العودة؟
المخيمات في الشتات، سواء في لبنان أو سوريا أو الأردن، لم تكن فقط منفى، بل كانت ولا تزال تجسيدًا لفكرة أن النكبة مستمرة، وأن العودة حق لا يسقط بالتقادم.
منظمة التحرير عملت لسنوات على إبقاء هذه المخيمات ضمن الوعي السياسي والوطني الفلسطيني، ومنعت محاولات توطين اللاجئين أو شطب صفتهم القانونية كلاجئين.
لكن الدور الذي تلعبه حماس – سواء بالتصريحات أو الممارسات – يصب في خانة فصل الشتات عن المشروع الوطني، من خلال:
* تجاهل المخيمات في الشتات كجزء من الجغرافيا السياسية
* إسكات أي خطاب يطالب بتثبيت حق العودة خارج غزة
* التعامل مع مشروع الدولة كمساحة سلطوية ضيقة، لا كمشروع تحرير وطني
وهنا، يظهر الدور الوظيفي الحقيقي: التمهيد التدريجي لشطب قضية اللاجئين من الطاولة الدولية، تمهيدًا لإعادة هندسة الحل بما يتوافق مع الرؤية الإسرائيلية – لا الفلسطينية.
4. لماذا تستهدف إسرائيل المخيمات؟ ضرب الذاكرة قبل الجغرافيا
ليست المخيمات هدفًا عسكريًا لأن فيها مقاومة فقط، بل لأنها تمثّل نقيضًا وجوديًا للرواية الصهيونية.
كل مخيم هو تذكير يومي بأن إسرائيل دولة قامت على أنقاض شعب آخر، وبأن العودة لا تزال حلمًا حيًا.
لكن ما يُخطط له اليوم ليس تدمير المخيم كحيّ سكني، بل كرمز.
وما يقوم به الاحتلال من اجتياحات متكررة، واعتقالات، وهدم منازل، ليس إلا جزءًا من استراتيجية تفريغ هذه المساحات من قدرتها على الاستمرار كشاهد على الجريمة.
وفي هذا السياق، يصبح دور حماس غير بريء:
* حين تنشغل بإدارة السلطة داخل غزة، وتترك الضفة للمواجهة المنفردة
* أو حين تُسهم في عسكرة المخيمات دون حماية سياسية
* أو حين تشتبك مع القوى الشعبية بدل أن تحتمي بها
فإنها – بوعي أو دون وعي – تُكمل ما بدأته إسرائيل: شطب المخيم من المعادلة الوطنية الجامعة.
5. بين برنامج م.ت.ف والوظيفة غير المُعلنة: تناقض لا يمكن التستر عليه
برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، المعترف به أمميًا، يقوم على ثلاثة ثوابت:
* العودة.
* التعويض.
* تقرير المصير .
هذه المبادئ وُثّقت في قرارات أممية متكررة، واعتُمدت كأساس لأي حل دائم.
لكن خطاب حماس، وممارساتها، ومواقفها المتقلبة، تُفرغ هذه الثوابت من مضمونها، أو تُقدّم بدائل شعاراتية غير قابلة للتطبيق.
الفرق بين المشروعين واضح:
* مشروع المنظمة يسعى لتثبيت الحقوق على قاعدة الشرعية الدولية
* مشروع حماس يحوّل القضية إلى “نمط إدارة داخلية” يخدم بقاءها كتنظيم، لا مستقبل الشعب ككل
ربما لم يُعلن أحد أن المخيمات ستُلغى، لكن ما يجري على الأرض يقول ذلك بكل وضوح: الذاكرة تُمحى، والرمز يُجرَّد من معناه، واللاجئ يُحوَّل إلى مقيم بلا قضية.
وفي هذه اللحظة الحرجة، على مَن يملكون القرار أن يجيبوا: من يمثل الوجود الفلسطيني فعلاً؟ ومن يدفع المخيمات نحو المصير الذي خُطط لها أن تنتهي إليه؟
مركز المستشار للرصد والتحليل
تفكك داخلي في غزة واحتقان غير مسبوق بين الأهالي وبقايا مسلحي حماس
ما يجري تداوله الآن عن بوادر تفكك داخلي في غزة واحتقان غير مسبوق بين الأهالي وبقايا مسلحي حماس، ليس مجرد إشاعات حرب نفسية – وإن كانت أطراف خارجية قد توظف ذلك – بل هو مؤشر خطير على وصول الأمور إلى نقطة الغليان التي لا يمكن التحكم بها.
دعنا نحلّل هذا التطور بهدوء سياسي وطني ومسؤولية استراتيجية، دون صب الزيت على النار، ولكن أيضًا دون دفن الرأس في الرمال:
1. المقاومة التي تُوجه سلاحها للناس… لم تعد مقاومة
ما يتم الحديث عنه من اشتباكات متفرقة بين الأهالي ومقاتلين سابقين من حماس – إن صحّ – يعني أن الوضع خرج تمامًا من سياق “المواجهة مع الاحتلال” إلى حرب أعصاب داخلية، بين شعب ينهار، وبين عناصر مسلحة تحتفظ بالسلاح بدون وظيفة وطنية واضحة.
* حين يشعر المدني أن التهديد الأكبر لم يعد من طائرات الاحتلال فقط، بل من “حاملي السلاح بيننا”.
* حين يتحول السلاح من حماية الناس إلى إخضاعهم.
* حينها نكون قد دخلنا مرحلة “التحلّل الوطني” التي لا تنفع فيها البيانات ولا الخطب.
2. السيناريو الأسوأ: “حرب داخل الحرب” = مجزرة داخلية
إن اندلاع مواجهة داخل غزة، حتى لو كانت محدودة، سيكون كارثة بكل المعايير:
* سلاح غير مضبوط بين الأيدي.
* احتقان اجتماعي متراكم لـ17 عامًا.
* بيئة خيام ومجاعة وفوضى.
* لا سلطة تضبط.
* لا قانون يُفعل.
وكل طرف لديه ذاكرة مليئة بالثأر والدم
هذا السيناريو هو حلم نتنياهو… وكابوس كل فلسطيني.
3. من 2007 إلى 2025: ذاكرة الرعب ما زالت حيّة
ما جرى عام 2007 – من اجتياح داخلي دموي نفذته حماس ضد الأجهزة الشرعية ومقرات السلطة في غزة – لا يزال حاضرًا في الوعي الجمعي.
الفرق اليوم أن البيئة مختلفة:
* لم تعد حماس قوية.
* الشعب لم يعد صامتًا.
* المجتمع مفكك ومُستنزف.
ومشاهد المذابح ستُقابل بغضب هائل لا يمكن احتواؤه
أي تكرار لمشهد 2007 سيعني حربًا أهلية داخل مخيمات اللاجئين، وهو ما لن يغفره التاريخ لأحد.
4. الآن، إمّا تراجع مسؤول… أو دخول في محرقة شاملة
المطلوب الآن من قيادات حماس، سواء من تبقى في الداخل أو الخارج، إعلان فوري بوقف أي نشاط أمني أو مسلح داخل المخيمات أو بين الناس.
* لا مداهمات.
* لا اعتقالات.
* لا قمع.
* لا تخوين للمحتج.
* وفتح باب تفاهم فوري مع قيادة منظمة التحرير لإعادة الأمور إلى المسار الوطني الجماعي.
5. القيادة الشرعية مطالَبة بالتحرك السياسي – والإنساني – الفوري
نوصي القيادة الفلسطينية الشرعية:
* إصدار موقف واضح يحذّر من انفجار داخلي.
* التواصل مع الأطراف العربية والدولية للضغط لوقف المجازر المحتملة.
* إرسال نداء لأبناء الشعب في غزة للتماسك ورفض الاقتتال.
* تجهيز خطة طوارئ لاستلام القطاع بطريقة تحفظ كرامة الناس
مجازر الداخل أسوأ من مجازر العدو… لأنها تقتل المشروع نفسه
إذا تحول “السلاح المقاوم” إلى “سلاح ضد الشعب”، فهذه لحظة سقوط سياسي وأخلاقي كامل.
من يقف الآن على مفترق الطرق عليه أن يختار:
* إنقاذ غزة… أم إنقاذ وهم السلطة؟
* الحفاظ على الدم… أم الحفاظ على الذكريات؟
وكل قطرة دم تسقط الآن على يد فلسطيني… هي مسمار إضافي في نعش المشروع الوطني، لا في جسد العدو.
