في فجر 31 مارس 2025، انفجرت أزمة دبلوماسية وعسكرية غير مسبوقة بين الجزائر ومالي، بعد إسقاط طائرة مسيّرة تابعة للجيش المالي اخترقت المجال الجوي الجزائري قرب تين زاواتين، الحدود المتوترة بين البلدين. لم تكن الحادثة مجرد اختبار لقدرات الجزائر العسكرية، بل كانت الشرارة التي كشفت عن شبكة معقدة من التنافسات الجيوسياسية في منطقة الساحل الإفريقي، حيث تتصاعد أنشطة الجماعات المسلحة، وتتصارع القوى الإقليمية والدولية على رسم خريطة النفوذ في منطقة تُعتبر الأخطر في العالم.
الحكومة المالية، التي تولّت السلطة عبر انقلاب عسكري مدعوم من روسيا، نفت الرواية الجزائرية ووصفت الحادث بـ”العدوان غير المبرر”، بينما ردّت الجزائر بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات المالية، واستدعت سفراءها من الدول الثلاث المتحالفة (مالي، النيجر، بوركينا فاسو). لم تكن الأزمة مجرد مسألة حدود، بل تحوّلت إلى اختبار لمكانة الجزائر كقوة إقليمية تُحاول الحفاظ على دورها التاريخي كوسيط في منطقة تشهد انهيارًا أمنيًا متسارعًا، وسط صعود تحالفات جديدة بقيادة روسيا والمغرب والإمارات، وانسحاب فرنسا التدريجي الذي خلق فراغًا استراتيجيًا.
في خضم هذا التصعيد، برز سؤال مركزي: هل تستطيع الجزائر، التي خاضت حربًا دموية ضد الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، تحويل الأزمة إلى فرصة لتعزيز نفوذها في الساحل، أم أن المنطقة تتجه نحو مواجهة إقليمية أوسع قد تعيد تشكيل تحالفات القارة؟
أظهر إسقاط الطائرة المسيّرة جاهزية الجيش الجزائري، الذي طوّر قدراته الدفاعية في السنوات الأخيرة عبر صفقات سلاح مع روسيا والصين، لكن الحادث كشف أيضًا عن ثغرات في أنظمة الرصد المبكر، وعن فجوة دبلوماسية مع جيرانها الجنوبيين. فمنذ الانقلابات العسكرية في مالي (2020) والنيجر (2023) وبوركينا فاسو (2022)، تحوّلت هذه الدول إلى حلفاء استراتيجيين لروسيا عبر “فيلق فاغنر”، بينما عزز المغرب حضوره عبر استثمارات اقتصادية واتفاقيات أمنية مع بعضها، في إطار تنافسه التاريخي مع الجزائر.
الرد الجزائري السريع بإغلاق المجال الجوي أعاد إلى الأذهان سياسة “اليد الحديدية” التي تعتمدها الجزائر في التعامل مع التهديدات الأمنية، لكنه أيضًا فتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة. فتحالف دول الساحل (المعروف اختصارًا بـ AES)، والذي تقوده مالي، بدأ يتحدث عن تشكيل قوة عسكرية مشتركة مدعومة من روسيا، قد تصل إلى 5000 جندي، ما يهدد بزعزعة التوازنات العسكرية على حدود الجزائر الجنوبية، التي تعاني أصلاً من انتشار الجماعات الإرهابية.
لكن الجزائر، التي تمتلك أطول حدود مع الساحل (قرابة 6,000 كم)، تعوّل على أوراق ضغط أخرى، أبرزها “ورقة الأزواد” – المكون الطارقي في شمال مالي الذي تربطه علاقات تاريخية وثقافية مع الجزائر. فمنذ ثورة 2012 التي قادها الطوارق ضد الحكومة المالية، ظلت الجزائر لاعبًا خفيًا في المفاوضات، مستغلة نفوذها لتحقيق استقرار نسبي. اليوم، قد تعيد الجزائر تفعيل هذه الورقة عبر دعم الأزواد عسكريًا واقتصاديًا، كقوة موازنة لمحاولات الهيمنة الخارجية.
لا تعتمد الجزائر على القوة العسكرية فقط، بل تبني استراتيجية متعددة الطبقات تدمج بين الدفاع والاستخبارات والدبلوماسية الناعمة. تسريع نشر أنظمة الرادارات المتطورة والأقمار الصناعية الخاصة بالمراقبة، وإدخال طائرات مسيّرة محلية الصنع قادرة على تنفيذ عمليات استباقية، هي جزء من هذه الاستراتيجية. إلى جانب ذلك، تخطط الجزائر لإنشاء “منطقة عازلة” على حدودها مع مالي عبر تعزيز الوجود العسكري في مناطق الطوارق، بالتعاون مع قادة محليين.
شبكات استخباراتية في مدن مثل تمنراست وأدرار تتابع تحركات الجماعات المسلحة وحلفائها الإقليميين، مع تعزيز التعاون الاستخباري مع موريتانيا – الحليف التقليدي للجزائر في المنطقة. تفعيل دور الزوايا الصوفية، التي تمتلك نفوذًا روحيًا في دول الساحل، كأداة لمواجهة الخطاب المتطرف، هو أيضًا جزء من هذه الاستراتيجية. فالشيخ محمود ديكور، الزعيم الروحي للطوارق، قد يُستخدم كوسيط لبناء جسور مع المجتمعات المحلية، عبر خطاب يدعو إلى التسامح ويعيد إحياء الهوية الإفريقية المشتركة.
مشاريع البنية التحتية المشتركة، مثل طريق ترانس-صحراء السريع الذي يربط الجزائر بنيجيريا، وخطط لتصدير الكهرباء إلى دول الساحل عبر شبكات جزائرية، تهدف إلى ربط مصالح هذه الدول بالاقتصاد الجزائري. هذه الخطوات الاقتصادية، إلى جانب الدبلوماسية الثقافية، تعزز النفوذ الناعم للجزائر في المنطقة.
رغم هذه الاستراتيجية، تواجه الجزائر عوائق جسيمة. فتحالف دول الساحل المدعوم من روسيا يرى في الجزائر منافسًا استراتيجيًا، وقد يعمل على تقويض نفوذها في المنطقة. المغرب، بدوره، يستغل الفرصة لتعزيز تحالفاته مع دول الساحل، مما يزيد من التحديات التي تواجهها الجزائر.
في النهاية، تُعتبر الأزمة الحالية اختبارًا حقيقيًا لقدرة الجزائر على الحفاظ على نفوذها في منطقة الساحل، التي تشهد تحولات جيوسياسية سريعة. من خلال استراتيجية متعددة الأبعاد تجمع بين القوة العسكرية، الدبلوماسية الناعمة، والاستثمارات الاقتصادية، يمكن للجزائر أن تحوّل هذه الأزمة إلى فرصة لتعزيز دورها كقوة إقليمية رائدة في قلب إفريقيا.