أبناء القضبان: دماء تُساوم وحُرّاس الذاكرة في صفقة الأسر الفلسطينية

بن معمر الحاج عيسى

في زنزانةٍ لا يتسع أفقها إلا لصراخ صامت، يكتب الأسير الفلسطيني رسالته الأخيرة على ورقة سجائر مُهرَّبة، بينما تتدلى صورة طفله المولود أثناء اعتقاله على الحائط المتآكل.

هذا المشهد لا يخص أسيراً واحداً، بل هو جزء من سرديةٍ جماعية يعيشها أكثر من *10 آلاف فلسطيني* خلف قضبان إسرائيل، حيث تتحول الأجساد إلى عملةٍ في صفقات تبادلٍ يختلط فيها الأمل بالدم، والذاكرة بالسياسة.

منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحولت غزة إلى مسرحٍ لصراعٍ وجودي، لكن خلف الكواليس، تدور معركةٌ أخرى: معركةٌ تُقاس بعدد الرمق الأخير في عروق الأسرى، وورقة المساومة الأخيرة في ملفات المفاوضات.

من بين آلاف الأسماء المعلقة على جدران السجون، تبرز شخصياتٌ تحمل سيراً تكاد تكون أسطورية.

المحرر *نائل البرغوثي، الذي أمضى 44 عاماً – أي ثلثي عمره – خلف القضبان، لم يعد مجرد أسير، بل تحول إلى “عميد” يُجسِّد فكرة الصمود المطلق. أُطلق سراحه عام 2011 في صفقة شاليط، لكن إسرائيل أعادت اعتقاله بعد ثلاث سنوات، وكأنها تُعلن أن “الحريّة المؤقتة” جزء من لعبةٍ قاسية.

زوجته **أمان نافع، التي قضت 10 سنوات في السجن بتهمة التخطيط لعمليّة انتحارية، تصف لحظة عودته إلى الزنزانة: *”عاد وكأنه لم يغادر.. السجن صار وطناً ثانياً لا يُغادَر”.

هذه السيرة لا تختلف كثيراً عن مسار *عبد الله البرغوثي*، المُلقب بـ”أمير الظل”، الذي حُكم عليه بـ67 مؤبداً لاتهامه بتصنيع أحزمة ناسفة حوَّلت مطاعمَ إسرائيلية إلى جحيم. رغم ذلك، يصرُّ رفاقه على أن اسمه يجب أن يكون في صدارة أي صفقة، لأن إطلاق سراحه يعني انتصاراً للذاكرة الفلسطينية على آلة القمع الإسرائيلية.

لكن اللعبة السياسية لا تعترف بالأساطير. فإسرائيل، التي تحتجز جثثاً لشهداء فلسطينيين كـ”رهائن أموات”، ترفض حتى اليوم الكشف عن العدد الحقيقي للأسرى المرضى والمصابين بأمراض عضوية ناتجة عن التعذيب. *محمد شمالي*، أسيرٌ مُحرَّر، يروي كيف كان الحرّاس يُجبرونهم على شرب الماء من مرحاض الزنزانة، بينما يُحرمون من العلاج الطبي حتى في حالات السرطان. في المقابل، ترفض حماس الكشف عن مصير العشرات من الرهائن الإسرائيليين، الذين يُشتبه بأن بعضهم قضى تحت القصف خلال الحرب الأخيرة. هذه المعادلة المعقدة – حياة مقابل حياة، موتى مقابل موتى – تضع العالم أمام سؤالٍ أخلاقي: هل تُقاس قيمة الإنسان بعدد الأعوام التي قضاها في الأسر، أم بعدد الضحايا الذين يُنسب إليهم؟

الواقع يقول إن المفاوضات تدور في دوائر مفرغة. ففي فبراير 2025، أرجأت إسرائيل الإفراج عن 620 أسيراً فلسطينياً بحجة أن حماس “لم تُظهر الجدية الكافية” في تسليم الرهائن، بينما ردت الأخيرة باتهام تل أبيب بـ”اختلاق الأزمات لتفريغ الاتفاقات من مضمونها”. الخيط الرفيع الذي يجمع الطرفين يبدو أشبه بشبكة عنكبوت: كل حركة زائدة قد تُنهي التوازن الهش. لكن خلف هذه المناورات، تكمن مصالح متشابكة: فالحكومة الإسرائيلية، بقيادة *بن غفير، تخشى من ثورة جماهيرية إذا أفرجت عن أسرى كُبار مثل **حسن سلامة* (المحكوم بـ48 مؤبداً بتهمة تفجيرات 1996)، في حين أن حماس تُدرك أن أي تنازل قد يُضعف رصيدها كـ”حركة تحرير” في عيون الفلسطينيين.

وسط هذا الضباب، تطفو على السطح أسماءٌ مثل *مروان البرغوثي، القيادي في حركة فتح المحكوم بخمسة مؤبدات. رغم أنه لا ينتمي لحماس، إلا أن شعبيته العابرة للانتماءات تجعله ورقة ضغط في أي مفاوضات. زوجته **فدوى* تقول إنه “يكتب مذكراته على أوراق التواليت”، بينما يُناقش مع رفاقه في السجن مسودة “اتفاق مصالحة وطني” جديد. هل يكون مروان – العقل السياسي المحبوس – هو جسر الإنقاذ الأخير؟ الإجابة تبدو معلقة بين جدران الزنزانة 14 في سجن هداريم.

المأساة لا تكمن في طول فترة الاعتقال فقط، بل في التفاصيل الصغيرة التي تُذكِّر الأسرى بأنهم خارج الزمن. *سمر، ابنة الأسير **أحمد سعدات* (الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، تروي كيف أنها تزور والدها منذ 18 عاماً خلف زجاجٍ سميك، دون أن تتمكن من لمس يده إلا في أحلامها. أما *علي، نجل الأسير **إبراهيم حامد* (المحكوم بـ54 مؤبداً)، فيقول إنه “تعلم العدّ التنازلي منذ طفولته”، لكن الأرقام كانت تزيد دائماً. هذه الروايات لا تختلف عن معاناة العائلات الإسرائيلية، مثل عائلة *أوهاد بن عامي*، الذي ظهر في فيديو مختطفاً وهو يردد: “أنقذوني”، قبل أن تعلن حماس أنه قُتل خلال القصف.

في النهاية، تتحول صفقات التبادل إلى مرآة تعكس إخفاقات الجميع: إسرائيل التي فشلت في كسر إرادة الأسرى رغم عقود من التعذيب، وحماس التي لم تُحرر فلسطين رغم دماء آلاف الشهداء، والمجتمع الدولي الذي يكتفي بإصدار تقارير إدانة بينما يذوب الأسرى في زنازين لا يعترف بها القانون. ربما تكون *صفقة 2025* – التي قد تُطلق سراح نائل البرغوثي أو عبد الله البرغوثي – مجرد فصلٍ جديد من فصول هذه المأساة، لكنها لن تكون الأخيرة. فكما قال أحد الأسرى المحررين: “كلما أُغلق باب سجن، يفتح الاحتلال ألف باب.. النضال ليس اختياراً، إنه المصير الوحيد”.