الوعي المطابق من الجمود إلى الحركة.

د. عدنان عويّد

عندما قرأت كتاب المفكر الراحل ياسين الحافظ : (الهزيمة  والأيديولوجيا المهزومة) منذ عشرين عاماً ونيف, أدهشني عمقه الفكري, واستشرافه للمستقبل, وأسلوب طرحه ورقي مفردات الكتاب وتراكيبه التي تناولها, بيد أن ما لفت انتباهي في هذا الكتاب من الناحية الفكريّة, هو بحثة في ما سماه بـ (الوعي المطابق), وهو الوعي الذي يرفض الأيديولوجيا الجموديّة التي تعمل على ليّ عنق الواقع للتوافق معها حتى ولو استخدم حاملها الاجتماعي العنف من أجل ذلك. الأمر الذي حرضني حقيقة أن أشتغل على موضوع “الوعي المطابق”, ليصدر لي كتاب عام (2006), بعنوان” (الأيديولوجيا والوعي المطابق). (1). توسعت فيه كثيرا في هذا الاتجاه مبيناً معنى الأيديولوجيا وسياقها التاريخي وأهدافها وحواملها الاجتماعيين, والفرق ما بينها وبين الوعي المطابق.

ونظراً لأهمية الوعي المطابق من الناحية المنهجيّة والفكريّة من جهة, على اعتباره وعيّاً جدليّاً يربط ما بين الواقع والفكر, هذا الرابط الذي يقر بأن هناك تأثيراً متبادلا بينهما, فكل منهما يؤثر بالآخر ويتأثر به ويغنيه, وبأن الواقع في كل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة هو من يحدّد بداية طبيعة الفكر وأنساقه, بيد أن هذا التحديد ليس ميكانيكيّاً, أي إن الواقع لا يعكس الفكر كما تعكس المرآة الأشياء, وإنما يقوم بتحديد ملامحه العامة ليترك الفكر عبر (حوامله الاجتماعيّة) التي أنتجته أن ينمو نمواً مستقلاً نسبياً, ليتشكل منه بعد وصوله إلى مرحلة النضج والتبلور أنساقاً معرفيّةً عديدة سياسيّة وفنيّة وأدبيّة وغير ذلك من أنساق تطغى عليها الصفة العلمية, يتعامل معها الإنسان ويوظفها أثناء إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة. ومن جهة ثانية تأتي أهميّة الوعي المطابق وضرورة تمسكنا به اليوم لما يعانيه الواقع من تخلف في كل مستوياته الماديّة,حيث غلبت عليه صفة التشرذم والتخبط والتناقضات والصراع, حيث انعكس كل ذلك التخلف على المستوى الفكري أيضاً الذي لم يعد قادراً اليوم عبر حوامله الاجتماعيّة على تحليل الواقع المعيوش وكيفيّة التعامل معه والنهوض به. وبناءً على هذه المعطيات, سأعرض في هذه العجالة بعض سمات وخائص الوعي المطابق  كما رأها “ياسين الحافظ” وكما أراها أنا في كتابي (الأيديولوجيا والوعي المطابق) وهي:

1- التمسك بمنهج فكري واضح الأهداف أو مطابق للأهداف المراد تحقيقها في تنمية المجتمع وتقدمه. فاليوم نحن أمام مناهج فكريّة عديدة تنوس ما بين الماديّة والمثاليّة, بل رحنا نلمس أو نعيش في الحقيقة فكراً مثاليّاً مفارقاً للواقع, وإن حاولنا مقاربته فهو يتعامل كثيراً مع الشكل دون المضمون, الأمر الذي ترك المواطن يعيش حالة من الانفصام والغربة في الفكر والممارسة معاً, ففي الوقت الذي يطلب منه التمسك بالفضيلة في صيغتها المثاليّة على سبيل المثال, نجد أن دعاتها يغفلون في تفكيرهم التفكير والممارسة فضيلة ” القانون” الوضعي, ومتمسكين بفضيلة  ماضويّة, خيم عليها الالتزام بممارسة طقوس شكليّة في اللباس والمظهر الشخصي على حساب الجوهر وخاصة عند أصحاب التيارات السلفيّة, في الوقت الذي نجد فيه قسوة تخلف الواقع على هذا الإنسان في لقمة عيشه وحرية تفكيره وشعوره بإنسانيته.

2- التمسك بمنهج فكري يتعارض مع النظرة الأيديولوجيّة الدوغمائيّة التي تنظر إلى الواقع على أنه من لونين أسود وأبيض. بينما الوعي المطابق يرى الواقع من الوان متعددة. فالحياة لا تسير على لون رمادي فحسب, فمن اللون الرمادي نستطيع أن نشتق ألوان كثيرة.

3- الوعي الأيديولوجي يرى الحقيقة (الأشياء) مطلقة وثابتة وعلى الواقع أن يرتقي إليها, أما الوعي المطابق فيراها نسبية ومتغيرة وهي في حالة حركة وتبدل وتطور مستمر.

4- الوعي الأيديولوجي يوجد حالة من الانفصال بين شكل الظواهر ومضمونها. أما الوعي المطابق فيرى هناك علاقة جدليّة تأثيريّة بينهما, فالشكل يدل على المضمون كما يقال في المثل الشعبي, ويحدد طبيعة هذا المضمون ومساراته. كما أن الأيديولوجيا تفصل الجزء عن الكل, والداخل عن الخارج, بينما الوعي المطابق يربط بين الأجزاء وبين الدخل والخارج ربطاً جدليا, فعلى مستوى ربط الجزء (فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص…). وعلى مستوى علاقة الداخل بالخراج, فالأفراد والمجتمعات لا تعيش وجوداً ” روبنسيا”, بل هي تتفاعل مع بعضها سلباً او إيجاباً بالضرورة.

5- الوعي الأيديولوجي يعتمد على الحدْس والتقريب والعموميات والشعارات والأفكار المسبقة والذاتيّة والغيبيات. أما الوعي المطابق فيعتمد على الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب وعلى التفاعل, وبالتالي يقدم البرهان.

6- الوعي الأيديولوجي ينطلق من الرغبة والشعور المتعمد لدى حوامله الاجتماعيّة. أما الوعي المطابق فيعتمد على الواقع والمعطيات القائمة.

7- الوعي الأيديولوجي تقريري, والواقع عنده معطى مطلق نهائي ثابت. أما الوعي المطابق فالواقع عنده يقوم على منهج تحليلي, وهو نسبي في معطياته, والواقع يكتشف تدريجيّاً مع تقدم المعرفة البشرية والعلم.

وأخيراً الوعي المطابق: هو سيرورة معقدة وشاقة وجهد مستمر ومتواصل من الاستقراء التحليل والتركيب والاستنتاج والنقد والشك وصولاً إلى المطابقة, مطابقة الوعي مع الواقع المتغير باستمرار. أي هو عملية اقتراب دائم من الواقع والتفاعل معه. ونفي أي صفة للقداسة عن الأشخاص والأفكار, وضرورة الارتباط بالقوى الاجتماعيّة الفعالة المؤمنة بقضية الوطن والمواطن, هذه القوى التي غيبت تاريخيّاً عن دورها الفاعل ومكانتها في هذه الحياة, على اعتبارها هي من يصنع التاريخ البشري, وبالتالي لن يتحقق تحريك هذه القوى وإعطائها دورها التاريخي إلا عن طريق تطبيق الديمقراطيّة والعلمانيّة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة والتشاركيّة, واحترام الرأي والرأي الآخر, والنهوض بالمرأة, وتعميق لدور الفكر المطابق للواقع الرافض لأي فكر جمودي متحجر لا يقر بدور الإنسان ومكانته في صنع تاريخه.

كاتب وباحث من سورية.

d.owaid333d@gmail.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- الكتاب: الأيديولوجيا والوعي المطابق – إصدار دار التكوين دمسق. 2006- ط1.