تحت أزيز الطائرات الإسرائيلية المسيّرة التي عادت لتحلق في سماء بيروت بعد توقف دام نحو أسبوعين، يصعب التوصل الى أدلة قاطعة تربط بين وقائع الميدان اللبناني، العسكري والسياسي، وبين المفاوضات الأميركية الإيرانية التي تستعد لجولة جديدة، في مسقط نهاية هذا الأسبوع، تسبقها، كالعادة، عاصفة من التهديدات بعظائم الأمور، التي تدعم صدقيتها وجديتها وتعزز فرص وصولها الى النهاية السعيدة المرجوة من قبل طهران وواشنطن وغيرهما الكثير من العواصم.
مدخل البحث عن هذه الأدلة، يفترض التأكيد على أن كل ما شاع، في أعقاب إعلان الرئيس دونالد ترامب العودة الى طاولة التفاوض مع إيران، عن أن إسرائيل غير مطمئنة أو غير راضية أو غير راغبة في نجاح تلك المفاوضات، بل هي ستعمل على تعطيلها، هو كلام خيالي ليس له أساس على أرض الواقع. الأرجح ان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فوجئ بتوقيت الإعلان لا أكثر. لكن الثابت وبناء على تجارب عديدة سابقة، فإن نتنياهو، وأي زعيم إسرائيلي آخر مهما كان نفوذه في واشنطن، لا يجروء على مخالفة قرار أميركي يعكس المصالح الاستراتيجية الأميركية، بل ينحني وينفذ من دون إعتراض او جدال، مثله مثل أي مسؤول عربي أو غربي، تلقى القرار وإلتزم به فوراً.
وقد استدعي نتنياهو على عجل الى البيت الأبيض لابلاغه شخصيا بالقرار، الذي لن يكون له تأثير على مجريات حرب غزة، التي تتولى واشنطن وتل ابيب ادارتها من خلال غرفة عمليات عسكرية واحدة، منذ السابع من أكتوبر العام 2023، كما أن القرار لا يستدعي أي تغيير في خطط الحملة العسكرية الأميركية المتصاعدة على اليمن، بل هو يتطلب المزيد من التأهب العسكري الإسرائيلي على جبهة لبنان، وسوريا، لعل وعسى ! .. مع أن إيران التي قبلت بلا تردد الدعوة الأميركية الى التفاوض الجديد، لم تبد أي تحفظ، ولم تطرح أي مطلب أو أي شرط مسبق، على أي من جبهات الاشتباك المفتوحة، التي غادرتها طهران تباعاً، بالاكراه كما في سوريا، أو بالتسليم كما في اليمن.
وهو ما يعني أن طهران التي ظلت على الدوام تتوسل التفاوض والتفاهم مع أميركا، وظلت لعقود طويلة ماضية، تستخدم أذرعها العربية كأدوات للتأثير على المفاوض الأميركي، والإسرائيلي ضمناً، هي التي قدمت هذه المرة التنازلات الأكبر من نوعها للعودة الى طاولة المفاوضات، بأمل أن تفك الحصار الخانق عن نظامها السياسي والاقتصادي والمالي. بداهة القول بأن طهران تخلت تماماً عن جميع حلفائها العرب الذي تعرضوا وما زالوا يتعرضون لعملية تصفية شاملة، لا تبنى فقط على نتائج الحملة العسكرية الأميركية الإسرائيلية الأعنف منذ غزو العراق العام 2003. ثمة تغيير جوهري في رؤية إيران لذلك المدى العربي الذي كان ملعباً لها، ثم صار عبئاً عليها ، قبل ان يصبح في أعقاب طوفان الأقصى الفلسطيني وتسلل صواريخ حزب الله والحركة الحوثية، تهديداً لأمنها الداخلي الذي أخترقه الاميركيون والإسرائيليون أكثر من أي وقت مضى.
لا مجال للشك، في أن طهران تذهب الآن الى المفاوضات مع واشنطن، مجردة من تلك التحالفات والأسلحة التي نشرتها في بعض البلدان العربية، وأتاحت لبعض الرؤوس الإيرانية الحامية ادعاء السيطرة على أربعة عواصم عربية للمرة الأولى منذ زمن ملك فارس الأول قورش الكبير، قبل الميلاد بخمسمائة سنة. وهو ليس مجرد استسلام إيراني أو تسليم بالهزيمة أمام الحملة الأميركية الإسرائيلية، التي تسبب بها الحلفاء العرب، ذوو الرؤوس الحامية أيضاً، بقدر ما هو أول إيذان عملي بنهاية تجربة عمرها من عمر الجمهورية الإسلامية في إيران، التي لم تكن صادرتها واستثماراتها في المنطقة العربية مجدية أو مؤثرة، لا على المستوى السياسي والاقتصادي ولا طبعا الديني.
لعلها نهاية تلك المغامرة التاريخية التي خاضتها إيران طوال 45 عاماً مع العرب جميعاً، خصوماً وحلفاء..وكان حصادها مخيباً.
بيروت في 17 / 4 / 2025
