من واشنطن: محمود بلحيمر
منذ أن تسلم مقاليد البيت الأبيض في 20 يناير 2025، بدأ ترامب يزف لأنصاره تباشير عهد جديد لأميركا في إطار شعاره المألوف “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”. الأميركيون سمعوا ما يكفي من وعود وشعارات خلال عامين من الحملة الانتخابية لكن الآن حان وقت الأفعال. ترامب بدأ على ما يبدو “ثورة” على الصعيد الداخلي وعلى صعيد علاقة أميركا بالعالم، لكن المائة يوم الأولى كشفت أن ترامب جنى على نفسه دون أن يشعر، أو كما يقول المثل الفرنسي: “أطلق رصاصة على قدمه”!
على خلاف أنصاره في قاعدته الانتخابية المتحمسة جدا حركة “ماغا” (التي تعني لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى) فإن قطاعا واسعا من الناس لم يأخذوا وعود ترامب على محمل الجد، كزعمه بأنه سينهي الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 24 ساعة وأنه سيحل مسألة تدني القدرة الشرائية للأميركيين حال تسمله مقاليد البيت الأبيض، إضافة إلى مبالغات في مسائل أخرى. لكن يبدو أن ترامب قد فشل في ملف رئيسي شاع أن الأميركيين يعوّلون عليه لإصلاحه وهو ملف الاقتصاد.
التخبط الاقتصادي قد يقود “ماغا” إلى انتكاسة
آخر الأرقام كشفت أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة تراجع بنسبة 0.3% خلال الربع الأول من العام الجاري، وهذا لأول مرة منذ عام 2022. نحن أمام انتكاسة بالنسبة لترامب رغم محاولته إلصاقها بتبعات سياسات سلفه جو بايدن الذي غادر البيت الأبيض قبل ثلاثة أشهر. لكن ترامب لا يستطيع إخفاء التداعيات الكارثية الأخرى لقراراته الاقتصادية على الأميركيين الذين بدأوا يشعرون بالقلق بالفعل. فغالبية الأميركيين يعيشون الضغط الاقتصادي وغلاء المعيشة وحين يشعرون أن الضغط بدأ يشتد مرة أخرى فسيترجمون ذلك لتصويت عقابي في الانتخابات القادمة، وأقربها انتخابات تجديد أعضاء الكونغرس في نوفمبر 2026.
حاليا يملك الجمهوريون أغلبية بسيطة في مجلس النواب (218 نائب جمهوري مقابل 215 نائب ديمقراطي) تمنح ترامب ما يحتاجه من دعم، كما يسيطر الجمهوريون أيضا على مجلس النواب، غير أن هناك توقعات بأن الجمهوريين سيخسرون هذه الأغلبية إذا ما تواصلت التداعيات السلبية لسياسة إدارة ترامب على الأميركيين.
هناك رقم آخر غير سار لترامب وفريقه وهو نسبة التأييد الشعبي المتدنية جدا خلال المائة يوم الأولى لرئاسته؛ وهي الأدنى لرئيس أميركي خلال نحو 8 عقود، وفق استطلاعات رأي نشرتها وسائل إعلام أميركية مختلفة. فوفق استطلاع رأي أجرته صحيفة “واشنطن بوست” وشبكة “إي بي سي نوز” ومؤسسة “إيبسوس” فإن 39% فقط من الأميركيين يؤيدون أفعال الرئيس ترامب. وحتى شبكة “فوكس نيوز” المؤيدة عادة لترامب فقد حملت له أخبارا سيئة عندما كشفت أن نسبة التأييد لترامب لم تتعد 44%. وفي استطلاع آخر أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” وجامعة “سيينا” وصف 66% من المستطلعة اراؤهم ولاية ترامب الثانية بالفوضوية.
لماذا هذه النتائج وبهذه السرعة؟ رغم أن ترامب ورث اقتصادا مستقرا وسائرا نحو التعافي من تداعيات وباء كورونا؛ فمعدل البطالة كان في شهر يناير في حدود 4.1%، والتضخم نزل من 9.1% إلى 2.7%، في حين يطمح الاحتياطي الفدرالي الأميركي لكي يتراجع إلى 2% بما يسمح له باجراء تخفيضات جديدة لمعدل الفائدة، علما أن الاحتياطي الفدرالي خفّض معدل الفائدة ثلاث مرات منذ خريف العام الماضي بمجموع نقطة مئوية واحدة، وكان يأمل في المضي في تخفيضات جديدة في حال تحسّن أداء الاقتصاد. لكن القرارات المتسرعة وغير المدروسة لترامب قلبت المعادلة ورهنت تلك التخفيضات.
الآن يتحدث الخبراء عن ركود اقتصادي محتمل جدا في أميركا، بتداعيات خطيرة على الأميركيين و على الاقتصاد الدولي أيضا، لأن إضطرابًا عند القوة الاقتصادية الأولى عالميا سيحمل تداعيات إلى القوى الاقتصادية العالمية الأخرى. السبب: “جروح سببها لترامب لنفسه”، كما يقول الأميركيون، من خلال سياسة الرسوم الجمركية العشوائية التي بدأها منذ وصوله إلى البيت الأبيض.
ترامب: يسعى لمواجهة التحدي الصيني لكن الضرر وقع بالفعل
يزعم ترامب أن أميركا تعرضت للاستغلال والاحتيال من قبل شركائها ويرى نفسه الأقدر على القيام بـ”ثورة” تعيد لأميركا زعامتها المهدورة. الأرقام تشير إلى أن أميركا باتت بالفعل تشتري أكثر مما تبيع على عكس الصين. فقد أظهرت آخر الأرقام أن صادرات الولايات المتحدة في شهر يناير الماضي بلغت 164 مليار دولار بينما بلغت الواردات 317 مليار دولار، ما نتج عنه عجز تجاري بنحو 153 مليار دولار. في المقابل جعلت الصين من نفسها “مصنع العالم” بحيث تنتج وتصدّر للعالم أكثر مما تستورد. ففي شهر فبراير الماضي بلغت صادرات الصين 215 مليار دولار، والواردات 183 مليار دولار، محققة فائضا تجاريا بنحو 31 مليار دولار.
دفعُ الشركات للاستثمار في أميركا وإعادةُ جلب “الصناعات المهاجرة” وخلقُ وظائف للأميركيين وجعل أميركا تبيع أكثر مما تشتري ،، هي أفكار تلقى التأييد وسط قطاع كبير من الأميركيين بما في ذلك الخبراء، لكنّ قرارات ترامب شكّلت صدمة قد تعقّد اختلالات الاقتصاد الأميركي. هناك ارتجالٌ ونقصُ احترافية وفوضى واضحة صاحبت قرارات فرض الرسوم ثم إلغائها وتجميدها مؤقتا ثم فرضها على سلع دون أخرى ودول دون أخرى إلخ، وهو ما جعل بعض الخبراء يقولون إن الضرر قد حصل بالفعل، لاسيما مع انهيار الأسواق المالية، وينبغي انتظار تداعيات كارثية على الاقتصاد الأميركي قريبا جدا، من ذلك؛
1/ ترامب أدخل الاقتصاد الأميركي في حالة عدم يقين غير مسبوقة بسبب عدم وجود سياسة واضحة للرسوم الجمركية، وهي حالة يمقتها المستثمرون بحيث لا يمكنهم المغامرة في مناخ اقتصادي تنتقل فيه الرسوم من صفر إلى 145% بين عشية وضحاها.
2/ تكلفة الرسوم الجمركية لترامب سيدفها المستهلكون الأميركيون في نهاية المطاف من خلال الزيادات غير المسبوقة في أسعار السلع المستوردة في الغالب. تشير التقديرات إلى أن رسوم ترامب الجمركية ستكلّف الأسرة الأميركية المتوسطة الدخل مبلغًا في حدود 3400 دولارا سنويا. سيضاف هذا العبء الجديد لأسر تعاني بالفعل من تداعيات التضخم الناجم عن وباء كورونا.
3/ يأمل ترامب في دفع الدول المعنية بالرسوم، لاسيما الشركاء التجاريين الكبار مثل الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والهند والمكسيك، إلى التفاوض وتقديم تنازلات للأميركيين ولاسيما خفض رسومها وشراء مزيد من المنتوجات الأميركية. غير أن هذه الأمنية ليست بالضرورة واقعية لأن هذه الدول تدافع عن مصالحها أيضا ومن ذلك أن الصين تنفي وجود أي مفاوضات مع ترامب لحد الآن رغم زعم البيت الأبيض بوجودها.
4/ يحاول ترامب تبرير تراجع الاقتصاد الأميركي بالقول إنها “مرحلة انتقالية” عابرة سيواجه الأميركيون خلالها بعض الصعوبات لكن سرعان ما سيتم تجاوزها نحو إقتصاد “عظيم ورخاء غير مسبوق”، غير أن تقارير أميركية تشير إلى أن الأسوأ قادم. تتحدث تلك التقارير على أنه سيكون من الصعب العثور على سلع ضرورية للأميركيين في رفوف المتاجر بسبب الرسوم، بحيث أن الشركات الأميركية تتردد في شراء تلك السلع برسوم تبلع 145%. فشركات الشحن تقلص نشاطها المعتاد نحو السواحل الأميركية، وهو ما يعني ندرة وارتفاع غير مسبوق لأسعار سلع مطلوبة في الأسواق الأميركية.
وفي انتظار تعديل ترامب لسياسته الاقتصادية على نحو يجلب استقرارا ورؤية واضحة للمستثمرين وللأسواق العالمية، يبقى أن نقول أن ترامب ينطبق عليه المثل الجزائري الشهير: “راح يكحلها عماها”.