العشائر السورية ومسارات تفاعلها مع الأحداث الأمنية

 مهيب الرفاعي

لم تكن العشائر السورية يوماً عنصراً هامشياً في تركيبة المجتمع السوري، بل شكّلت على مدار قرون شبكة متداخلة من الولاءات والانتماءات التي استوطنت البادية والفرات والجنوب السوري، وكان لها دوماً حضور واضح في السياسة والإدارة، ثم لاحقاً في الأمن والعسكرة. غير أن هذا الدور اكتسب طابعاً استثنائياً منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث تحوّلت العشائر من مكونات اجتماعية إلى فاعلين سياسيين وعسكريين. وبعد سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، صعدت العشائر إلى واجهة المشهد السوري كقوى منظمة تسعى إلى تأطير وجودها ضمن ترتيبات ما بعد الصراع.

سابقًا، عمد نظام الأسد منذ أيام الأسد الأب إلى احتواء العشائر السورية ضمن شبكة الزبائنية السياسية، عبر سياسة تقوم على منح الامتيازات لبعض الشيوخ، وإهمال أو تحييد البعض الآخر. الهدف الأساسي كان تحييد العشائر كمصدر للسلطة البديلة، وضمان ولائها من خلال الإدماج المقيد في مؤسسات الدولة، لا سيما البرلمان و”مجلس الشعب”، والإبقاء على بعض الزعامات الرمزية تحت السيطرة الأمنية المباشرة والاستفادة منها لضبط الحدود والبادية ضد أي عمليات تهريب لسلاح خارج يد الدولة .

وقد نجح النظام نسبياً في استخدام بعض الشيوخ واجهات محلية للسياسات القمعية أو أدوات للتعبئة وقت الحاجة، خاصة في مناطق مثل دير الزور، الرقة، الحسكة، والسويداء. لكن هذا النجاح لم يكن شاملاً، إذ بقيت العشائر تحتفظ ببنية اجتماعية مستقلة نسبياً عن الدولة، ما جعلها قابلة للاشتعال بمجرد تغير الظروف السياسية.

العشائر بين الولاءات للثورة ونظام الأسد   

مع اندلاع الثورة السورية، تحركت كثير من العشائر، خصوصاً في منطقة الفرات (العكيدات، البقارة، الجبور)، نحو دعم الحراك الشعبي. وبرز وجهاء محليون لعبوا أدواراً مفصلية في تنظيم المظاهرات وحماية المحتجين. لاحقاً، انخرط أبناء العشائر في تشكيلات الجيش السوري الحر والفصائل الإسلامية، سواء من خلال تشكيل كتائب عشائرية خالصة (مثل “لواء أبناء الفرات”، “كتائب البقارة”)، أو الانضمام إلى تشكيلات إسلامية وجهادية.

ومع تصاعد القتال وازدياد الفوضى، برزت انقسامات داخل العشائر بين موالين للنظام ومعارضين له، أحياناً ضمن العشيرة الواحدة. واستغل النظام هذه الانقسامات لشراء الولاءات من جديد، مسلحاً بعض الوجهاء ومانحاً إياهم سلطات أمنية محلية، فيما بات يُعرف لاحقاً بـ “جيش العشائر”.مع بداية التدخل الروسي في 2015، واستعادة النظام زمام المبادرة العسكرية في عدة جبهات، بدأ الأسد وإيران في التركيز على المناطق العشائرية، خاصة بعد انحسار تنظيم داعش. فظهر ما يُعرف بـ “جيش العشائر” الذي ضم مقاتلين من عشائر كبرى مثل العكيدات، البقارة، البوسرايا، والجبور. تبدو أهم سمات هذه المرحلة وجود العشائر ضمن الوظيفة الأمنية حيث كُلف جيش العشائر بحماية ضفتي الفرات الغربية، ومهاجمة مناطق “قسد” شرق الفرات، وتلقواالدعم الإيراني والروسي ليشمل دعم مادي وتسليحي وتنسيق مع الحرس الثوري، مع بروز الوجهاء في المصالحات المحلية حيث لعب شيوخ العشائر أدواراً في تسويات “المصالحة” في القلمون، درعا، الغوطة، ودير الزور. لكن رغم ذلك، ظلت الثقة بين النظام والعشائر هشة، خاصة أن الكثير من شيوخ العشائر احتفظوا بعلاقات مع الأردن والعراق، ورفضوا التبعية الكاملة لطهران.

بقيت الأمور على حالها حتى اندلعت “انتفاضة العشائر” ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في دير الزور عام 2023 ، بعد اعتقال القائد المحلي “أحمد الخبيل” (الملقب بـ “أبو خولة”). وقد قاد التمرد الشيخ إبراهيم الهفل، أحد زعماء قبيلة العكيدات، وامتد سريعاً إلى عدة مناطق شرق الفرات. كانت أبرز دوافع التمرد هي تهميش المكون العربي في مناطق الإدارة الذاتية الكردية، والاعتقالات والإقصاء الأمني والإداري بحق أبناء العشائر، إضافة إلى الاحتجاج على الفساد المالي والإداري داخل “قسد”.

تدخل نظام الأسد لصالح العشائر وقدّم دعماً غير مباشر، من خلال فتح المعابر المائية لتهريب السلاح، والتنسيق عبر وسطاء عشائريين في البوكمال والميادين، وضخ إعلامي مكثف يؤيد “ثورة العشائر”. ورغم أن التمرد انتهى بانسحاب العشائر من المناطق التي سيطرت عليها، إلا أنه كشف عن قوة العشائر التنظيمية وقدرتها على فرض أمر واقع. حاول النظام حينها استغلال هذه الأحداث عبر الدعم غير المباشر، لتوسيع نفوذه شرقي الفرات. إلا أن تلك الانتفاضة كشفت عن وعي أمني جديد لدى العشائر، حيث لم يعد تدخلها مجرد رد فعل، بل تحوّل إلى محاولة منظمة لفرض واقع محلي جديد.

مع تضعضع سلطة الدولة، بدأت العشائر تؤسس قوى أمنية محلية وتحرس مناطقها بمعزل عن النظام أو “قسد”. كما نشأت علاقات تنسيق عابرة للحدود مع أطراف إقليمية، مثل الأردن والسعودية، في مسعى واضح لتحويل القوة العشائرية إلى أداة حماية ذاتية. هذا التفاعل الأمني لم يكن فقط للدفاع، بل بدأ يأخذ طابعًا سياسيًا ذا أفق أوسع.

على الطرف المقابل، كان هناك جانب من الشعائر الى صف المعارضة حيث انه ومع عسكرة الثورة، تحوّل أبناء بعض العشائر إلى عنصر أساسي في فصائل “الجيش الحر” والجماعات الإسلامية، فظهرت كتائب عشائرية مثل “لواء أبناء الفرات” و”كتائب الجبور”. لاحقًا، ومع صعود تنظيم “داعش”، واجهت العشائر تحديات أمنية قاسية، خاصة بعد تمرد بعض منها (مثل عشيرة الشعيطات)، ما أدى إلى مجازر جماعية بحقها.

وفي ظل عودة النظام للسيطرة على بعض المناطق بدعم روسي وإيراني، استخدم العشائر كأدوات أمنية ضد “داعش” و”قسد”، وشكل منها “جيش العشائر”، معتمدًا على الولاءات الفردية داخل العشيرة الواحدة. بهذا، أصبح التفاعل الأمني للعشائر قائمًا على التكيّف مع موازين القوة، أكثر منه تعبيرًا عن مشروع موحد أو رؤية سياسية خاصة.

سقوط النظام والتنظيم الذاتي

مع انهيار النظام السوري أواخر 2024، وجدت العشائر نفسها أمام فراغ أمني واسع. وسرعان ما تحوّلت إلى قوى منظمة تولّت ضبط الأمن الداخلي في مناطقها. فأسست مجالس أمنية محلية، وشكّلت نقاط تفتيش، وفرضت أنظمة قضاء عرفي لحل النزاعات ومنع الفوضى. تحولت بعض التشكيلات العشائرية إلى أجهزة شرطة محلية، خصوصًا في الرقة ودير الزور وريف الحسكة، وبدأت التنسيق مع المجتمع المحلي للحفاظ على الاستقرار.

هذا التفاعل الأمني لم يكن عشوائيًا، بل اتسم بالتخطيط والقدرة على التعبئة، ورافقته جهود لإقامة علاقات مع الأطراف الدولية والإقليمية لضمان الدعم والشرعية. لقد باتت العشائر، لأول مرة منذ عقود، تُمارس الأمن كوظيفة سياسية، وليس كأداة تابعة للسلطة، ما يجعلها اليوم لاعبًا رئيسيًا في خريطة سوريا الجديدة، لكن تحت ضغط مستمر من تحديات التنافس الداخلي، وتدخلات القوى الخارجية.

ومع تفاقم الوضع في الجبهة الجنوبية، بدأت مناوشات بين العشائر والدروز في السويداء لا سيما في المناطق الشرقية من محافظة السويداء ، مع تبادل الاتهامات بعمليات القتل والتصفية والقصف ضد القرى الدرزية وضد مناطق العشائر لحين تدخلت الإدارة السورية الجديدة والأمن العام لضبط المسألة وإعادة ترتيب الأوراق في المنطقة.