د. صلاح أبو غالي
عندما نقرأ ونحلل المشهد السياسي والعسكري بعمق ، نرى أن سياسة الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية باتت واضحة بأنها “تدمير ممنهج بلا أهداف عسكرية”، يجري تنفيذه بأوامر مباشرة من قيادة الجيش وبدعم من تصريحات سياسيين إسرائيليين ، ويهدف إلى منع الفلسطينيين من العودة إلى مناطقهم بعد الحرب ، بل والتصريح العلني بتهجيرهم إلى خارج غزة والضفة ، وشطب حق العودة وإلغاء وجود الأونروا التي تم تأسيسها بعد نكبة 1948 من أجل دعم ورعاية شؤون اللاجئين الفلسطينيين.
ما يعزز تأكيد هذه الدلالات مجمل الشهادات الميدانية التي صرح بها بعض جنود الاحتلال ومسؤوليه الأمنيين لوسائل الإعلام.
الميدان يكشف الكثير والإعلام يفضح:
جنــود: في شهادات ميدانية أدلى بها جنود يخدمون حالياً في جيش الاحتلال لوسائل الإعلام ، قالوا: إن تدمير البيوت والبنية التحتية في غزة أصبح هدفاً بحد ذاته ، دون أي مبررات عملياتية أو أمنية.
وأكد أحدهم “قادة الألوية والكتائب يقررون تدمير البيوت بناء على ما يرونه مناسباً ، وهناك سائقوا جرافات ومدرعات دمروا في بعض الحالات أكثر من 50 بيتاً في أسبوع واحد فقط”.
وأضاف الجنود أن عمليات الهدم الواسعة تُنفذ تحت شعار أن “المناطق التي تُهدم ستُضم إلى النفوذ الإسرائيلي ولن يُسمح للفلسطينيين بالعودة إليها” ، مشيرين إلى أن التعليمات بهذا الشأن غير مكتوبة لكنها مفهومة ومشجعة من القيادات الميدانية.
مسؤول أمني إسرائيلي كبير “سابق” في تصريحه لوسائل الإعلام: وصف ما يحدث في غزة بأنه “جرائم حرب” ، وقال المسؤول “قد يكون من المشروع هدم بيت اختبأ فيه مخرب ، لكن تدمير البيوت من دون أي سبب أو تهديد مباشر هو شيء آخر تماماً”.
وأكد أن التدمير الواسع للأحياء السكنية يجري بأوامر عسكرية عليا ، مستنداً إلى خطاب سياسي رسمي يبيح مثل هذه العمليات ، مشيراً إلى أن الجيش الإسرائيلي يسيطر حالياً على نحو 35% من مساحة غزة ، أي نحو 129 كيلومتراً مربعاً ، جرى تصنيفها “منطقة أمنية عازلة”.
وكشف المسؤول أن 80% من مباني مدينة رفح دمرت كلياً ، من بين أكثر من 28 ألف بيت كانت تؤوي نحو 275 ألف شخص قبل اندلاع الحرب.
كما جرى تدمير كل المباني في المناطق الحدودية بعمق كيلومتر كامل ، دون وجود أي تهديد فعلي منها على إسرائيل.
ووفقاً للمصدر ذاته ، تجري عمليات تدمير البيوت ضمن “طقوس عسكرية” تشمل خطاباً لقائد اللواء قبل التفجير ، أو إشعال النيران في المنازل ، في مشاهد وصفها بأنها أقرب إلى “استعراض ميداني للقوة”.
لا يزال هدف إسرائيل في الوقت الحالي هو الضغط العسكري لفرض اتفاق على حماس ، وليس عملية تهدف فقط إلى إسقاطها ، لذلك ، وبالتوازي مع تزايد العمل العسكري ، تستمر المحادثات في الدوحة مع حماس.
بشكل عام ، يُناقش حالياً في الدوحة مسارين:
1- مخطط ويتكوف ، الذي يقوم على إطلاق سراح حوالي عشرة مختطفين مقابل وقف إطلاق نار لمدة شهرين ودون ضمانات أمريكية مسبقة.
هناك احتمالات ضئيلة بشأن التوصل إلى مثل هذا الاتفاق ما لم يسمح بوجود ضمانات حقيقية ورسمية للإنتقال إلى محادثات جادة لإنهاء الحرب والانسحاب الإسرائيلي من غزة خلال أيام الهدنة.
2- صفقة شاملة لإنهاء الحرب ، وهذا التوجه يروج له الأمريكيون ، ويشمل نفي كبار قادة حماس ونزع سلاح الحركة وإدارة عربية لقطاع غزة بدعم أمريكي ، وهو ما يتطابق تماماً مع المبادرة العربية لإنهاء الحرب وإعمار غزة.
ويقدر في الأوساط السياسية أن احتمال التوصل إلى مثل هذا الاتفاق أقل بكثير ، خاصة وأنه يصطدم بلاءات نتنياهو وطموحاته السياسية من وراء استمرار الحرب.
سلاح الجوع والغضب الدولي:
ترى حكومة إسرائيل أن أي مساعدات إنسانية تدخل القطاع ستغذي حماس بالتأكيد وتعطيها الأكسجين ، بينما يقبع رهائنها في الأنفاق ، وعليه يجب استمرار قرار إغلاق المعابر ومنع دخول أي مساعدات لغزة.
ونتاج هذه القرارات التي نتج عنها إغلاق معظم الجمعيات والمؤسسات الدولية مراكز توزيعها للمساعدات بسبب نفاذها من مخازنها ، بل وقيام طائرات الاحتلال بقصف هذه المراكز لتعطيل عملها ، أصبحت غزة بكاملها على حافة الجوع ويحيط بها شبح الموت من كل جانب.
ومع تكشف حقائق كثيرة عما ترتكبه حكومة الاحتلال من إمعان في تجويع أهل غزة ، وقفت إلى جانب ذلك عدة اعتبارات تراكمت معاً بسبب الاحتجاجات الدولية بوجود مجاعة في غزة ، ازداد التخوف من أن تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة حرب ، خصوصاً في ظل قلق إدارة ترامب من الوضع ، والتي هذه المرة لم تكن لتسارع إلى نجدة إسرائيل ، بالإضافة إلى ذلك ، مارس أعضاء مجلس شيوخ جمهوريون مؤيدون لإسرائيل ، ودول أوروبية صديقة ، ضغوطاً كبيرة لإدخال الإمدادات إلى غزة.
وفي حال كهذا ، إن استمر ، كانت إسرائيل ستضطر إلى وقف العملية العسكرية في غزة ، وكانت الحرب ستتوقف ، وما زاد من إرباك حسابات نتنياهو وحكومته هو نية الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” قيادة تكتل دولي يعترف بشكل أحادي بالدولة الفلسطينية ، هذا إلى جانب احتجاج 22 دولة في الاتحاد الأوروبي ضد ممارسات إسرائيل وارتكابها إبادة جماعية وتطهير عرقي واستخدام الجوع كسلاح انتقامي من شعب غزة ، بل صرحت هذه الدول علناً بنيتها قطع علاقتها وفك شراكتها مع إسرائيل ، هذا إلى جانب طلب الرئيس الأمريكي “ترامب” من نتنياهو بضرورة إدخال المساعدات بشكل فوري لمنع مجاعة محققة في غزة ، العهد الذي قطعه على نفسه مقابل اطلاق سراح الجندي الاسرائيلي أمريكي الجنسية “عيدان الكسندر” ، الأمر الذي دفع نتنياهو وشركائه إلى الموافقة الفورية على فتح المعابر ودون تأخير.
ما وراء زيارة ترامب للمنطقة :
كما عادته ، لا يتخلى الرئيس الأمريكي “ترامب” عن فكره الاقتصادي الاستثماري ، وعن رؤيته أن العرب يمتلكون ثروات طائلة ويجب عليهم دفع الجزية مقابل حمايته لهم ، هذا إلى جانب نظرته التوسعية التي تخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية.
ومن أجل الظهور بأنه رجل السلام ، أطلق تعهداته بضرورة وقف الحرب في غزة وإدخال المساعدات فوراً ، إلى جانب أهدافه بإنجاز التطبيع العربي مع إسرائيل ، لإطفاء الصراع المشتعل في المنطقة ، لأن ذلك يصب في خدمة أفكاره التوسعية الإستثمارية ، كيف لا وقد عاد حاصداً تريليونات الدولارات واستثمارات عربية طائلة في الاقتصاد الأمريكي ، ما يضمن له منع الركود التصخمي في الاقتصاد الأمريكي “السيناريو الأسوأ الذي لا يتمناه أحد في دولته”.
ومن أجل تحقيق أحلامه بالحصول على جائزة نوبل للسلام نظير إسهامه في وقف الحرب بغزة ، تحرك بقوة ضغط ناعمة على إسرائيل خلال زيارته للمنطقة ، علها تتجاوب مع أهدافه ، دون فقد دعم اللوبي الصهيوني الذي دعم حملته الانتخابية ، وأخذ يتناغم مع فكرته لتحويل غزة إلى ريفيرا الشرق الأوسط وأن تكون منطقة حرية واستثمار ، والتي تتقاطع مع أهداف إسرائيل بتهجير أهل غزة وتحويلها لمنطقة استثمار مستقبلية أيضاً ، كيف لا وسواحلها تعج بآبار الغاز ، تلك الثروة التي أسالت لعاب الطرفين للحصول عليه ، إلى جانب كون غزة منطقة ساحلية بشواطئ رملية ذهبية وطقسها معتدل ما يجعل منها قبلة سياحية واستثمارية بامتياز.
ما وراء الحقيقة ” رفض نتنياهو وقف الحرب”:
نتنياهو يحاول حالياً تسويق مظهر من “الانتصار” للرأي العام الإسرائيلي ، بما يبرر إبرام الصفقة المؤقتة ، وربما يساعده على إبقاء شركائه من اليمين المتطرف –بن غفير وسموتريتش– ضمن الائتلاف الحكومي في هذه المرحلة.
مخطط ويتكوف ، الذي من المفترض أن يُنفذ على مدار نحو شهرين ، وبموافقة حماس عليه ، قد يتيح لنتنياهو عبور دورة الصيف في الكنيست بسلام ، والتي تنتهي في 27 يوليو.
وفي مثل هذا السيناريو ، سيبقى الائتلاف الحكومي قائماً على الأقل حتى بداية دورة الشتاء في نهاية أكتوبر 2025 ، ما يعني أن الانتخابات الإسرائيلية المقبلة لن تعقد قبل ربيع 2026 الأمر الذي يسعى نتنياهو جاهداً وبقوة لتحقيقه.
هذه هي الأولوية القصوى والشغل الشاغل لنتنياهو في الوقت الراهن ، بينما تبدو باقي الاعتبارات ثانوية بالنسبة له.
النتيجـــة:
وسط كل هذا الإرباك للساحة السياسية ، والتباين الواضح والفج للتصريحات الإعلامية الإسرائيلة الممنهجة والمعدة مسبقاً لخدمة آلة الحرب والتدمير ، والتي تصطدم بالمطالبات الدولية بضرورة إدخال المساعدات ووقف الحرب ، وبين الجمود والتصلب في اللاءات السياسية التي يقودها نتنياهو ورفاقه المتطرفين من الائتلاف الحاكم ، يتكشف لنا حقيقة ما يخطط له نتنياهو ، بل يسوف ويماطل حتى يحقق غاياته من هذه الحرب.
على أي حال ، إذا لم تحرك إسرائيل الخطوط الحمراء التي وضعتها بنفسها منذ البداية ، فستبدو الصورة قاتمة ومربكة للمشهد السياسي والعملياتي ، لذا قيل إسرائيلياً بأنه إذا لم تقر حماس بالاتفاق المؤقت المطروح “اتفاق ويتكوف” قبل مغادرة ترامب ، فستشن إسرائيل عملية “عربات جدعون” لاحتلال مناطق كبيرة وواسعة من قطاع غزة وطرد أهلها منها ، وسيكون مصيرها كما حدث برفح ، والسيطرة الدائمة عليها ، ولن يكون هناك من سبيل لإيقافها.
والآن ، ولتأكيد جديتها ، وزيادة الضغط على حماس ، وبعد مغادرة ترامب ، تحركت آلة الحرب بالفعل وانتقلت للمرحلة الثانية من خطة “عربات جدعون” ، وبدأ تهجير مناطق كبيرة وواسعة من قطاع غزة ، يرافقها عمليات قصف وتدمير واسعة بالمدفعية والطائرات بكافة أنواعها ، والمفاوضات باتت تراوح مكانها ، ولا يوجد أي اختراق حتى اللحظة ، وإسرائيل تتعنت برفض أي موافقة على تعهد مسبق بإنهاء الحرب ، وعلى الجانب الآخر يبقى موقف حماس كما هو نتاج ذلك ، بأنها لن تفرط بورقة سياسية استراتيجية “ورقة الرهائن” والتي تضمن لها تحقيق إيقاف الحرب وانسحاب الاحتلال من غزة بشكل كامل وفتح المعابر وإعمار غزة.
الخاتمـــة :
في الوقت الذي تحاول فيه حماس الحصول على ضمانات دولية جدية لإنهاء الحرب وانسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة ، وفتح المعابر لادخال المساعدات الغذائية والأدوية والوقود وإعادة إعمار غزة ، وخاصة ضمانات أمريكية صريحة ومكتوبة ، إلى جانب ضمانة الوسطاء “مصر وقطر” ، بما في ذلك قرار من مجلس الأمن بهذا الخصوص ، تحاول إسرائيل التخندق خلف شروطها لإنهاء القتال “بضرورة إنهاء وجود حماس بغزة وتسليم سلاحها ومغادرة قادتها لقطاع غزة ، وعودة جميع الرهائن الأحياء منهم والأموات” الأمر الذي يعني لنتنياهو تحقيق “النصر المطلق” مدعوماً بذلك بسموتريتش وبن غفير ، حيث رحلة البحث عن صياغة مُرضية تتيح له الدخول في مفاوضات حول شروط وقف القتال “صفقة مؤقتة” دون الالتزام مسبقاً بإنهاء الحرب والإنسحاب الكامل من غزة ، الأمر الذي يتيح له العودة للقتال مرة أخرى ، وهو ما يتقاطع مع حقيقة هروبه للأمام ، ويدلل بوضوح على أنها حرب سياسية بلا نهاية لخدمة مصالح نتنياهو بخلق فرصة جديدة في الانتخابات القادمة بمشاركة ائتلافه الحاكم وترفع من أسهمه ولو على حساب دماء الشعب الفلسطيني ، الأمر الذي يدفع إلى تصلب حماس ورفض كل ذلك ، لأن فاتورة الدماء والبناء باتت كبيرة فوق الوصف في غزة ، وعليه تبقى الحرب تراوح مكانها وتحرق كل شيء ، ما لم تحدث مفاجأة كبرى بتحول دراماتيكي في الرأي الأمريكي والدولي من داعم لإسرائيل إلى مناهض لها ، وقطع المساعدات عنها ، وضاغط قوي عليها في مجلس الأمن ، وظهور وحدة موقف عربي حقيقي وضاغط دولياً من أجل وقف النزيف والإبادة في غزة ، ما سيجعل نتنياهو يرضخ وينزل عن الشجرة التي اعتلاها من أجل تحقيق أطماعه السياسية في المنطقة ، وتتقاطع مع أفكاره ومعتقداته الميسيانية والتي في جلها تخدم الصهيونية وأطماعها بإقامة إسرائيل الكبرى “مملكة داوود”.
تحقيقات 180