في لحظة تبدو فيها الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط كما لو أنها تخضع لعمليات “إعادة صهر” عنيفة، تتوالد الأسئلة الكبرى حول ما إذا كانت المنطقة تتجه نحو حرب شاملة تتجاوز حدود المناوشات بالوكالة، وتلامس صدامات مباشرة بين قوى إقليمية كبرى. فالتشابك الذي يربط الملف الكردي بالتحولات التركية والسورية، ويغزل الخيوط الخفية بين العراق وإيران، ويضع إسرائيل في مرمى حلف ثلاثي غير معلن (إيراني – سوري – لبناني)، يترافق مع انسداد الأفق في مفاوضات طهران وواشنطن. في قلب كل ذلك، يتبدى قرار حزب العمال الكردستاني بالانسحاب من بعض مشاهد المواجهة بوصفه حجر دومينو إضافي قد يفتح مسارًا جديدًا للصراعات لا يقل خطورة عمّا سبق.
نحو ما بعد الخرائط: الانفجار المؤجل
الشرق الأوسط ليس في مرحلة استقرار هش، بل في مرحلة انهيار صامت لنظام إقليمي لم يولد بعد، وفي ظل غياب هذا النظام تتكاثر الجبهات، وتتداخل الهويات، وتتسع هوة الثقة بين الفاعلين الكبار. القوى الإقليمية تحولت إلى ما يشبه الدول-الجبهات: تركيا، إيران، إسرائيل، وحتى السعودية، تخوض صراعاتها ليس من أجل تحقيق أهداف تكتيكية، بل لتفادي الانهيار الاستراتيجي.
في هذا السياق، تبدو الحرب الشاملة ليس كاحتمال بعيد بل كمنعطف بات يلوح في الأفق، تدفع نحوه ثلاثية: التكلّس الأمريكي، الانبعاث الروسي، والتوغل الصيني الاقتصادي – كل ذلك على أرضية شرق أوسطية رخوة، تعاني من فائض السلاح، وعجز التفاهمات.
الملف الكردي التركي: من التكتيك إلى الاستنزاف الاستراتيجي
تعاني تركيا من مأزق استراتيجي مع الملف الكردي لم تعد أدوات القوة العسكرية كافية لمعالجته. فالإجهاز على الوجود الكردي المسلح في شمال العراق وسوريا لم ينتج سوى عنادًا جديدًا، وتبدلات في التموضع الجيوسياسي. قرار حزب العمال بالتراجع، أو إعادة الانتشار، هو قرار أشبه بإعادة تعريف وظيفة السلاح في الصراع. لم يعد الهدف بناء “منطقة كردية محررة” بل تثبيت “الحق الكردي في الخريطة الإقليمية”.
تركيا التي تعتبر الملف الكردي تهديدًا وجوديًا، تجد نفسها اليوم أمام جبهات كردية متعددة، بعضها بدأ يُبنى على سردية القومية العادلة لا الثورة المسلحة. والخطر بالنسبة لأنقرة، أن هذا التبدل يجعل من القضية الكردية أكثر قبولًا لدى دوائر الغرب، مما يعيد تدويلها لا بوصفها “تمردًا” بل “حق تقرير مصير معلق”.
ومع تراخي قبضة حزب العمال عن المشهد، تنشأ فراغات جديدة قد تملأها قوى كردية أقل تشددًا، ولكن أكثر ذكاء في توظيف الصراعات الدولية لصالح قضيتها. من هنا قد يكون التهديد الأخطر على أنقرة ليس من الكلاشينكوف بل من الخطاب السياسي الكردي الجديد.
الكرد ودمشق: من المفاوضات إلى الحافة
النظام السوري تغيّر فعليًا منذ ستة أشهر، ولم يعد المشهد السياسي في دمشق يحكمه النظام العتيق بذات الصيغة، بل تُدار العاصمة اليوم من قبل سلطة جديدة، تتقدّمها “هيئة تحرير الشام” وأحمد الشرع، بوصفه رأس مشروعٍ يدمج الشعارات الإسلامية ببراغماتية سلطوية، ويعيد تشكيل مركز القرار عبر مقاربة مغايرة للنفوذ، تُمسك فيها الهيئة بمفاصل القرار الأمني والإداري على نحو متدرّج.
في هذا السياق، يبدو موقع الكرد في دمشق على شفا منعطف جديد. فقد تحوّل الملف الكردي من كونه معضلة “محيطية” إلى ورقة تفاوض مركزية تتقاطع فيها مصالح إقليمية متضاربة. وبينما كان النظام القديم يرى في “الإدارة الذاتية” خطرًا مهددًا لوحدة السيطرة الأمنية، فإن النظام الناشئ اليوم ـ رغم خلفيته الإسلامية المتشددة ـ يتعاطى مع الكرد من زاوية مختلفة: لا بوصفهم خصومًا قوميين فقط، بل كفاعل سياسي يحمل وزناً تفاوضيًا في معادلات ما بعد الدولة.
ومع غياب الحسم العسكري، وتراجع الشرعية التقليدية لأي حكم مركزي، تبرز الإدارة الذاتية كأحد آخر أشكال التنظيم المحلي المتماسك في سوريا، وهو ما يجعل منها هدفًا مزدوجًا: شريكًا محتملاً ضمن صيغة ما، وعدوًا بنيويًا يجب تقويضه تدريجيًا. إلا أن البيئة الإقليمية المعقدة، وخصوصًا انسحاب روسيا التدريجي لصالح إيران، تزيد الطين بلة. فإيران، التي باتت الحليف الأوحد للسلطة المتبقية في دمشق، تنظر بعين الارتياب إلى التجربة الكردية، وتراها امتدادًا لمشروع أمريكي–إسرائيلي يستهدف محورها كاملاً.
أمام هذا الواقع، فإن الاحتمال الأكبر لا يكمن في تفاهم سياسي شامل، ولا في حرب ميدانية فاصلة، بل في نمط جديد من الاستنزاف: تآكل تدريجي، تترافق فيه محاولات دمشق ـ بقيادة الهيئة أو بالتنسيق معها ـ مع تغلغل إيراني داخل النسيج الإداري والأمني لـ”قسد”، بهدف تفكيكها من الداخل، ودفعها نحو الاصطدام مع أنقرة أو الانفجار الذاتي، عبر إعادة تنشيط التناقضات العرقية والجهوية والدينية داخل مناطق سيطرتها.
وبين الحواف السياسية المتغيرة، يبدو أن الكرد في سوريا يقفون اليوم أمام معادلة مختلفة تمامًا: معادلة لا تُبنى على ثنائيات واضحة بين “نظام وثورة” أو “حكم ومعارضة”، بل على خطوط تماس غامضة، تتقاطع فيها حسابات النفوذ، أكثر من حسابات الهوية.
العراق وإيران: الدولة المحكومة من الظلال
العلاقة بين العراق وإيران تشهد استقرارًا شكليًا يخفي داخله غليانًا حقيقيًا. فالعراق، منذ اغتيال سليماني، تحول إلى ساحة اختبار بين ثلاث قوى: الدولة، والمرجعية، والفصائل المسلحة. أما إيران، فتحاول الإبقاء على تماسك ما يُعرف بـ”محور المقاومة” انطلاقًا من بغداد، لكنها تصطدم بواقع جيل عراقي جديد بدأ ينظر إلى إيران بوصفها “قوة احتلال ناعمة” لا شريكًا في محاربة الإرهاب.
تخلي حزب العمال عن مشهد المواجهة في جبال قنديل سيترك فراغًا، ستسعى إيران لملئه عبر الفصائل الشيعية الكردية الوليدة، أو عبر تمدد نفوذ الحشد الشعبي في مناطق التماس مع تركيا. هذا التمدد قد يفتح الباب لصدام تركي – إيراني غير مباشر على الأرض العراقية، يشبه كثيرًا “صراع الظلال” الذي بدأ يتشكل في سوريا.
إيران وإسرائيل: طريق بلا عودة
انتهت مفاوضات فيينا (وما بعدها) عمليًا، وكل الأطراف تعرف ذلك. الولايات المتحدة أدركت أن إيران ليست مهتمة باتفاق نووي بقدر اهتمامها بتثبيت نظامها داخليًا من خلال صناعة “الخطر الخارجي”. بالمقابل، إيران تدرك أن العودة إلى الاتفاق لن تُنقذ اقتصادها دون رفع منظومة العقوبات الأعمق، وهو ما ترفضه واشنطن.
هذا الانسداد يفتح الباب أمام المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب، والتي خرجت بالفعل من الظل، وبدأت تتمأسس عبر الضربات السيبرانية، واستهداف القادة، وقصف البنى التحتية. الحرب هنا ليست احتمالًا، بل واقعًا يُدار تحت سقف محدود. لكن سقف المواجهة قد ينهار في أي لحظة، خاصة مع اقتراب إيران من “نقطة اللاعودة” في برنامجها النووي.
تخلي حزب العمال: نهاية مرحلة أم بداية حرب جديدة؟
التحول الأخير في تموضع حزب العمال الكردستاني قد يُفهم بوصفه لحظة انتقالية من جيل الصراع المسلح إلى جيل النضال السياسي، لكنه أيضًا قد يُقرأ بوصفه مناورة تكتيكية للانسحاب نحو الداخل وإعادة تشكيل الذات، لا الانكفاء.
فالحزب الذي خبر الخيانات والتحولات والخذلان الدولي، يعلم أن إخلاء المساحات لا يعني التخلي عن الأدوار، بل إعادة صياغة الوظيفة. ما بعد هذا التراجع قد يحمل صعود تيارات كردية شابة، أكثر براغماتية، أقل أيديولوجية، وأكثر قدرة على مخاطبة العالم بلغة الحقوق لا الثورة. هذا التحول هو ما تخشاه تركيا أكثر من السلاح.
سيناريوهات الاستشراف
1. الحرب الكبرى المؤجلة: جبهات متعددة (إسرائيل – إيران، تركيا – قسد، إيران – السعودية، العراق – الحشد)، قد تنفجر مع تزامن انهيارات اقتصادية أو تغييرات سياسية مفاجئة.
2. الانفجار الداخلي الإيراني: في حال تصاعد الغضب الشعبي الإيراني، قد تلجأ طهران لتصدير الأزمة نحو الخارج، ما يعني تصعيدًا فوريًا في العراق وسوريا ولبنان، ومواجهة مباشرة مع إسرائيل.
3. التدويل المتسارع للملف الكردي: مع غياب “البندقية المتمردة” لصالح “الدبلوماسية الكردية الجديدة”، قد نشهد تحولًا استراتيجيًا يجعل القضية الكردية حاضرة في المنابر الدولية بشكل أوسع.
4. انقسام النظام الإقليمي إلى أقاليم نفوذ محمية: مناطق كردية شبه مستقلة، مناطق شيعية خاضعة للحشد، مناطق سنية ممولة خليجيًا، وجبهات إسرائيلية مفتوحة على الجبهة الشمالية.
الإستنتاجات الأخيرة
نحن لا نقترب من الحرب فقط، بل نعيش تمهيداتها اليومية. الشرارة لا تأتي دومًا من طلقة، بل من تفاهم سقط، أو حليف انسحب، أو هوية تنهض بعد قمع طويل. الشرق الأوسط، مرة أخرى، يعيد كتابة تاريخه بلغة الدم، والرهان الوحيد الباقي: هل سيكون هناك من يقرأ هذا التاريخ قبل أن يتحول إلى قدر؟
المصدر : فريق الجيوستراتيجي للدراسات