هل تتراجع الفرنسية في المغرب؟

خديجة نجاح

في زحمة التحولات العميقة التي يشهدها العالم، وما تفرضه تحديات العولمة من تغيرات على مستوى التواصل والحياة بشكل عام، يواجه المغرب تحديات، بموقعه الاستراتيجي كنقطة تلاقٍ تجمع بين التأثيرات العربية والعمق الإفريقي والانفتاح على أوروبا مما أسهم في تشكيل هويته الثقافية ومنحه طابعا من التميز والتفرد، ورغم هيمنة اللغة الفرنسية في فترة الاستعمار وما بعدها، تظل اللغة العربية الرابط الجامع بين المغاربة مما يمنحها دورا مركزيا في الحفاظ على الهوية المغربية، في الوقت ذاته الذي يشهد فيه المغرب انفتاحا متزايدا على اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة العلم والتكنولوجيا مما يخلق تساؤلات حول مستقبل اللغة العربية وتأثير العولمة في الهوية الثقافية للبلد.

اللغة في المغرب كأداة للصراع بين الأصالة والحداثة:
في بلاد الأدارسة والمرابطين تشكل اللغة مجال صراع داخلي بين الحفاظ على التراث الثقافي والهوية الوطنية من جهة، وبين الانفتاح على تقنيات العصر الرقمي باعتماد تقنيات جديدة تواكب التطور، والانفتاح على لغات أخرى من جهة أخرى، وبين سندان الأولى ومطرقة الثانية تحضر لغة المستعمر كإرث من ماض مظلم يسعى المغاربة للتحرر منه، استكمالا لتحررهم السياسي بتحقيق تحررهم الثقافي واللغوي.

وهنا تحضر أسئلة تفرض نفسها على الجميع. كيف يمكن للغة العربية أن تظل حصنا منيعا يحمي الهوية الوطنية للمجتمع المغربي ويصون خصوصيته في ظل المتغيرات التي تفرضها عليه العولمة؟ وهل يستطيع في خضم التحدي الرقمي التوفيق بين الأصالة والحداثة في آن واحد؟

المقاومة الوطنية في المغرب: التعريب كأداة للتمسك بالهوية الثقافية:
منذ بزوغ فجر الاستقلال، كان التعريب حجر الزاوية في النضال ضد الاستعمار، في حين كان الاستعمار يسوق للفرنسية على أنها نافذة على الحضارة وانفلات من قبضة التخلف. كانت سياسة التعريب جزءا أساسيا من المشروع الوطني، حيث اعتبرت قوى المقاومة أن الدفاع عن اللغة العربية هو دفاع عن الهوية الثقافية ومدخل لتحقيق الاستقلال الحضاري، ورغم أن اللغة في المغرب يغلب عليها سمة التعدد والتنوع بين اللغة العربية التي يتكلمها حوالي 99% من السكان، وتعبيرات خمسة متنوعة للأمازيغية يتكلمها حوالي 25% من السكان، إضافة لتكلمهم بالعربية بحسب الإحصاء الأخير للسكن والسكنى الذي جرى نهاية 2024، إلا أن اللغة العربية تظل الحامل الرئيس للثقافة والموروث التاريخي للبلد، ولهذا فإن الحفاظ عليها يظل رديفا للحفاظ على الهوية الجامعة والموحدة للمغاربة على اختلاف مشاربهم.

اللغة في الشوارع والمؤسسات: مرآة التحولات المجتمعية:
لا تقتصر تجليات التحول اللغوي في المغرب على الجانب الأكاديمي والثقافي فحسب، بل تمتد إلى الشارع والحياة اليومية للمواطنين، إذ يظهر هذا التحول بشكل واضح في العديد من اللافتات ولوحات الإعلانات التي بات أصحابها يفضلون استخدام العربية أو الإنجليزية بدل الفرنسية، وكذلك الشأن بالنسبة للوحات التشوير خاصة في المدن الكبيرة حيث أصبحت تكتب باللغات: العربية والأمازيغية والإنجليزية متخلية بذلك عن الفرنسية. ونلمس هذه التغييرات الثقافية والاجتماعية على الأخص عند فئة الشباب الذي يسعى إلى تطوير ذاته واستثمار آليات التواصل المتاحة أمامه للانفتاح على عوالم وفرص أرحب وأوسع.

تراجع للهيمنة الفرنسية وانتصار للغة الضاد:
أظهرت نتائج البحث الوطني حول الرابط الاجتماعي الذي نشره المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية مؤخرا فيما يتعلق بتفضيلات المغاربة للغة القراءة، تراجعا كبيرا للغة “موليير” مقارنة بالسنوات السابقة حيث تراجعت من 63.5% عام 2016 إلى 22% في الإحصاء الأخير، بينما تفوقت عليها اللغة الإنجليزية بـ36.9%، في حين حظيت اللغة الأمازيغية، وهي اللغة الرسمية الثانية للبلاد حسب الدستور، بنسبة 5%. حيث أكدت نتائج البحث أن 73% من المغاربة يفضلون القراءة بلغة الضاد، وبهذا تكون لها الأولوية على اللغات الأخرى جميعها، مما يؤكد أن الشباب المغربي ما زال وفيا لهويته المغربية وعمقه الثقافي الحضاري، رغم التحديات التي تفرضها العولمة.

المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي: نموذج للمقاومة اللغوية:
في سياق علاقة المغاربة باللغة العربية يستحضر الجميع شخصية المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي قاوم الاستعمار وتصدى لمشروعه الهيمني سياسيا وثقافيا معا، حيث وضع نظاما أساسيًا لما يعرف بجمهورية الريف المغربي، جمهورية كان يروم من خلالها تحرير منطقة الشمال وجعلها قاعدة لمقاومة الاستعمارين الفرنسي والإسباني بهدف تحرير المغرب بأكمله، وحرصا منه على ترسيخ الهوية الثقافية للأجيال القادمة، عمل الخطابي على نهج سياسة التعريب في التعليم، حيث ذهب إلى منع الأساتذة داخل الأقسام الدراسية من شرح الدروس باللهجة الريفية (البربرية كما كانت تسمى حينها قبل انتشار مصطلح الأمازيغية نهاية القرن العشرين)، أو التحدث إلى التلاميذ أو فيما بينهم بغير العربية، وكان الهدف حسب قوله: “حتى يقع النفع سريعا إن شاء الله وتظهر الفائدة ويتم المقصود”، والمقصود هنا هو غرس اللغة العربية بقواعدها السليمة في عقول النشء الصغار من أبناء شمال المغرب، وقد ورد ذلك في مخطوط قديم قام الأستاذان عبد الرحمن الطيبي والحسين الإدريسي بتحقيقه، واختارا له عنوانا: “التربية والتعليم في برنامج محمد بن عبد الكريم الخطابي”.

هذا المخطوط يكشف مدى ارتباط المقاومة المغربية بقضية اللغة واعتبار التعريب أداة لمقاومة الهيمنة اللغوية والثقافية للمستعمر الذي حاول التفرقة بين المغاربة بإصداره لما يعرف بالظهير البربري الذي اتحد الجميع في المغرب للتصدي له دفاعا عن لغة الضاد، ورفضا لفرض الفرنسية لغة المستعمر.

من المغرب إلى إفريقيا تراجع الفرنسية وصعود الهويات المحلية:
بات واضحا في السنوات الأخيرة أن دولا إفريقية أخرى غير المغرب شهدت تراجعا كبيرا من حيث استخدام اللغة الفرنسية، إذ شكل قرار قادة تحالف دول: مالي، النيجر وبوركينافاسو انسحابهم من عضوية المنظمة الدولية الفرنكوفونية ضربة موجعة لفرنسا الاستعمارية التي كانت تعدّ اللغة سلاحها الناعم داخل القارة السمراء. قرار كهذا يعجل بانفلات المنطقة من قبضة يدها بعد فترة طويلة من الاستعمار والاستغلال لثروات هذه الدول وطمس لهويتها الثقافية والحضارية، ورغم الإكراهات التي قد تواجه الدول المنسحبة من المنظمة الفرنكفونية إلا أن لهذا الانسحاب أثرا إيجابيا من ناحية تعزيز الهويات المحلية لهذه المناطق، والتخلص تدريجيا من بقايا الاستعمار الآسن.

وفي النهاية
ما بين إرث الماضي وتحدي العولمة الرقمية يبقى التحدي الأكبر بالنسبة للمغاربة كيفية الجمع بين الحفاظ على أصالتهم وانتمائهم الثقافي والحضاري بتعزيز دور اللغة العربية، وبين الانفتاح على الحداثة بتعلم لغات العصر واستثمارها فيما يعود بالنفع على الإنسان وعلى الوطن، لذا يعد الانفتاح الكبير للشباب المغربي على اللغة الإنجليزية، والإسبانية بدرجة أقل، وابتعادهم التدريجي عن الفرنسية مقدمة لفتح آفاق كبيرة أمام الثقافة المغربية والعربية للتطور والانتشار.

كاتبة وصحفية من المغرب

عن موقع الجزيرة نت