العراق : شعلة البصرة السامة – دخان قاتل يهدد آلاف الأرواح

السياسي – في الوقت الذي توفّر فيه حقول النفط في جنوب العراق مصدر الدخل الرئيس لخزينة الدولة، تتحول حياة آلاف المواطنين، ولاسيما في محافظة البصرة، إلى صراع مرير مع الأمراض المزمنة، وعلى رأسها السرطان.

ووفقا لتقرير صحيفة “لوموند” الفرنسية، فإن مشاغل الغاز المصاحب لاستخراج النفط  لا تنطفئ ليلًا أو نهارًا، حيث يتصاعد دخان قاتل يلوّث الهواء والماء، ويهدد الأرواح.

ومع ازدياد أعداد المصابين بالسرطان عامًا بعد آخر، تبرز تساؤلات ملحّة عن كلفة هذا الثمن البيئي والصحي المدفوع مقابل العوائد النفطية، في ظل صمت حكومي وشبه غياب للرقابة البيئية.

كارثة صامتة تحرق الجنوب
سائق في شركة نفط البصرة ويبلغ من العمر 32 عامًا، أصبح شاهدًا حيًا على هذه الأزمة الصامتة، حيث شُخّص بإصابته باللمفوما قبل عامين، بعد أن فقد والده بالمرض نفسه.

ويقول: “السرطان هنا أصبح شائعًا كالبرد… رأيت أطفالًا يدفنون قبل آبائهم”.

مشهد لم يعد نادرًا في محافظة البصرة التي باتت سجلاتها الصحية تتكدّس بحالات مشابهة.

البصرة تختنق تحت اللهيب

كما كشف تقرير ميداني نشرته الصحيفة أن السرطان بات جزءًا من الحياة اليومية لسكان البصرة.

في عام 2020، أعلنت وزارة الصحة العراقية عن تسجيل 2,339 إصابة جديدة، لكن تقريرًا داخليًا سُرّب من هيئة الصحة في البصرة ونشرته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) كشف عن رقم يفوق 8,500 حالة خلال العام نفسه.

الخبراء يُرجعون السبب إلى ظاهرة “التحريق”، أي حرق الغاز الطبيعي المصاحب لاستخراج النفط، وهي ممارسة تلجأ إليها شركات النفط لتعويض غياب البنى التحتية اللازمة.

وتشير بيانات دولية إلى أن العراق أحرق ما يقرب من 18 مليار متر مكعب من الغاز في عام 2023، ليصبح ثالث أكبر دولة عالميًا في هذا المجال.

وتطلق عمليات الحرق  مواد شديدة السمية مثل البنزين، المصنفة كمسرطن محتمل بحسب منظمة الصحة العالمية.

في منطقة العرادة القريبة من مشاغل شركة “لوك أويل” الروسية بحقل غرب القرنة-2، يغادر العمّال مواقعهم تحت سماء ملوثة بالدخان، فيما تغمر ألسنة اللهب الواجهة البرتقالية لمنازلهم كل مساء.

في البصرة، حيث يسكن أكثر من 3 ملايين نسمة، أصبح الهواء المشبع بالغازات مسرحًا يوميًا للروليت الروسي، بحسب تعبير الأهالي.

ورغم أن القوانين العراقية تفرض إبقاء مسافة 10 كيلومترات على الأقل بين المصافي والمناطق السكنية، فإن هذه اللوائح تبقى حبرًا على ورق، في ظل استمرار توسّع المنشآت النفطية قرب البيوت دون رادع.

وتجسد قرية نهر بن عمر، الكارثة بأشد صورها، حيث وثق رئيس البلدية، بشير الجابري، أكثر 300 حالة سرطان منذ عام 2012، ما يشكل نحو 15% من عدد سكان البلدة.

وبينما ترفض الشركات النفطية والحكومة الربط بين التلوث وهذه الإصابات، يشير الجابري إلى أن أطباء الأورام باتوا يسألون عن موقع السكن قبل الأعراض، ما يعكس إدراكًا مبكرًا للعلاقة البيئية.

ورغم تمكن الجابري عام 2014 من انتزاع تعويض رمزي من شركة نفط البصرة – بقيمة 300 دولار للمصاب الواحد – فإن تلك الخطوة لم تكن سوى نقطة في بحر الألم المستمر.

كما سجلت القرية خلال ستة أشهر فقط، 85 إصابة جديدة، ما يؤكد تسارع معدلات المرض دون تحرك فعلي من الجهات المعنية.

-وعود حكومية مؤجلة ومعاناة بلا أفق

بدورها، أعلنت الحكومة العراقية في عام 2022 عن خطة وطنية لدعم عائلات المصابين بالسرطان، شملت تقديم منح مالية وأراضٍ مجانية، ما أثار آنذاك موجة أمل لدى سكان الجنوب.

لكن، وبعد مرور أكثر من عامين، لا تزال هذه الوعود تراوح مكانها دون تنفيذ.

صحيفة “لوموند” الفرنسية نقلت عن سكان البصرة أن أكثر من 7,800 طلب دعم ما زالت معلقة، وسط إنكار رسمي مستمر لحجم الكارثة.

من جانبه، قال والد طفلة توفيت بسبب اللوكيميا: “وعدونا بأن نحصل على الدعم، لكننا لم نحصل حتى على كلمة عزاء”.

-النفط مقابل الأرواح.. معادلة غير عادلة
وأوضح تقرير الصحيفة الفرنسية أنه رغم إقرار بعض المسؤولين السابقين بوجود رابط بين نشاط النفط وانتشار السرطان، عادت وزارة الصحة مؤخرًا لتؤكد عدم وجود تأثير مباشر، المفارقة أن النظام الصحي المحلي يعتمد في تمويله على دعم شركات النفط نفسها، ما يضع علامات استفهام حول استقلالية الرعاية الطبية.

وفي الوقت الذي تمثّل فيه صادرات النفط أكثر من 90% من إيرادات الدولة، تبقى أرواح آلاف العراقيين في الجنوب عرضة للخطر، وسط تجاهل حكومي وصمت رسمي خانق.