السياسي – متابعات
الأهم، أن تبدأ باكراً، وأن يكون مسارك صحيحاً، وأن تتحلى بالصبر وعدم التسرع في إطلاق الأحكام، وأن تركن إلى العلم والخبرات السابقة، لأنه دون المعرفة الدقيقة والدائمة، لن تستطيع عائلات أطفال “طيف التوحد” و”فرط الحركة وتشتت الانتباه” الولوج إلى الجادة القويمة، وسيكون التيه مصيرهم، ما ينعكس سلباً على حياة وسلوكيات الأبناء، ويؤخر تطورهم المعرفي!
الرحلة صعبة، فيها بضع عثرات، وفيها فخاخٌ عديدة، وستبتل عيناك من الخيبات، ويضيق صدرك، ولكن كل ما سبق أمور طبيعية جداً، فلا تقلق، الأخطاء يجب ألا تصير جبالاً، وبعضها ضروري من أجل عدم تكرارها، ولا يلومن أحد نفسه، لأن الحيرة تنتاب العائلات، فجميع الأمهات والآباء يريدون الأفضل لأبنائهم، لكنهم يفقدون البوصلة أحياناً، كون ثقل المهمة أكبر بكثير مما يعتقد من لم يقبض على يديه جمر “التوحد”!
كلمة السر هي: التدخل المبكر الصحيح والصبر! عندما تعمل العائلات على وضع الأبناء في برامج تعليمية – سلوكية في وقت باكر من أعمارهم، فإن تفاعل الطفل واستجابته وتحسنه، كل ذلك يكون أسرعَ.
للأسف الشديد، كثر لا يجيدون اختيار المكان المناسب، فتضيع سنوات من أعمار الأبناء دون الفائدة المرجوة، ولذا فالاستشارة لدى المختصين الصدوقين، وأيضاً البحث الشخصي الدؤوب، وعدم الاستسلام للمعلومة السهلة المعلبة والرائجة، هو ما يمكن أن يرشد ذوي الأطفال إلى المكان المناسب.
أيضاً، هنالك حقيقة مرة: مراكز قليلة في الخليج العربي تلك التي لديها كفاءة عالية، وبرامج مبنية على أسس علمية، ولحسن الحظ، فإن إمارة دبي، بها عدد منها، وواحد من هذه المراكز بحسب تجربتي الشخصية، لديه من الكفاءة والمهنية والصدقية الشيء الكثير.
صاحبة هذا المركز سيدة إماراتية فاضلة، ابنها لديه “طيف توحد”، ومن التجربة الشخصية جاء “المشروع” صادقاً ومتجهاً صوب الهدف مباشرة، لتؤسس هذا المركز وترفده بخبرات في حقول عدة تتيح للأطفال الحصول على احتياجاتهم في تدريب: صعوبات التعلم، تأخر النطق، فرط الحركة، وتنمية مهارات الإدراك، إضافة لجلسات مكثفة يعمل فيها الأخصائيون على تطوير مهارات التتبع والإصغاء والتركيز المرتبطة بالدماغ والجهاز العصبي!
حملت الخطة الدراسية التي أعدها فريق المركز إلى صديق مختص أثق به، أعجبه المنهج المتبع، وقال لي: أتمنى أن يكون لديَّ مركز مثله، لأن خطة العمل مصممة وفق احتياجات كل طفل، وليست مجرد خطوط عامة تطبق على الجميع، وهنا النقطة التي على العائلات التنبه لها، أن تكون هنالك خطة تعليمية مصممة خصوصاً لتلبي احتياجات طفلهم المباشرة، وتحل المشكلات التي لديه، وتنمي مهاراته.
أضف لذلك، هنالك روح العطاء لدى المعلمات والأخصائيين، فهم يتولون عناية الأطفال بمحبة غامرة، وهذه نقطة مهمة، لأنه إذا كان الهدف مادياً بحتاً، أو قدم التدريب بطريقة جافة ودون عاطفة متبادلة بين فريق العمل والطفل، فإن النتائج ستكون قاصرة، بل ربما سلبية!
المركز هو محطة، تتلوها المدرسة، وهنا رحلة شاقة نحو الحصول على مقعد دراسي، خصوصاً أن عدد المدارس التي تقدم برامج متطورة لأطفال “التوحد” قليلة في الوطن العربي، كون كلفتها المادية عالية، وتحتاج لخبرات عديدة، فضلاً عن أن برامج “الدمج” ليست جميعها تناسب كل الأطفال، فهنالك فروقات فردية، وبعضهم يحتاج إلى التدرج قبل الذهاب إلى الفصول النظامية.
كي لا تكون رحلة البحث على غير هدى، عملت على سؤال من سبقوني في التجربة، وزرت بشكل مباشر العديد من المدارس، وتفحصت فصولها وبرامجها، وأيضاً استفدت كثيراً من المعلومات التي تقدمها “هيئة المعرفة والتنمية البشرية” في دبي. فمن يقرأ التقارير السنوية التي تصدرها “الهيئة” يمكنه تكوين تصور شامل، إن أحسن المرء تتبع التفاصيل والمقارنة بين المدارس.
هذه التقارير توفر معلومات جمة عن البيئة المدرسية، ومستواها الأكاديمي، وأيضاً مدى قدرة كادرها التعليمي على فهم احتياجات أطفال “التوحد”، دون أن تغفل وضع مقترحات للتطوير. كما تصنف المدارس وفق معايير علمية محددة، تطبق على الجميع.
أبعد من ذلك، ومن تجربة شخصية، كان تعامل “هيئة المعرفة” غاية في المهنية والمودة والاهتمام. حينما تواصلت معهم، أخذوا ملاحظاتي على محمل الجد، ووجدت منهم التفاعل والتواصل والاستجابة الإيجابية.
هنالك جهود كبيرة تبذلها “هيئة المعرفة” وهي تحتاج لأن تتكامل مع القطاعين الحكومي والخاص، لأن نسب أطفال “طيف التوحد” و”فرط الحركة وتشتت الانتباه” في تزايد لأسباب مختلفة – تحتاج مقالاً مستقلاً.. ومن هنا، فإن الطلب مرتفع والمقاعد محدودة، خصوصاً أن هنالك عائلات تأتي من دول مختلفة إلى دبي، بهدف إدخال أبنائهم المراكز والمدارس المختصة.
إن أطفال “طيف التوحد” متميزون، ومن حقهم علينا جميعاً أن نفهمهم ونثق بهم أولاً، ونفخر بهم، ونعطيهم حقهم الطبيعي في مستقبل مزدهر آمن ومتقدم، لأنهم يمتلكون من الذكاء والمهارة الشيء الكثير.