الخداع الاستراتيجي: كيف جرّت أمريكا وإسرائيل إيران إلى فخ الوجود أو الفناء في ضربة غيرت قواعد اللعبة في الشرق الأوسط؟

بن معمر الحاج عيسى

 

في اللحظات الأخيرة قبل الفجر الإسرائيلي المدوي الذي ضرب إيران في 13 يونيو 2025، كانت الرسائل الأمريكية الرسمية تنضح بالتفاؤل، وكأن واشنطن تريد تهدئة الأجواء قبل جولة المفاوضات المرتقبة في مسقط. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه تحدث عن “فرص تاريخية” للحل الدبلوماسي، فيما بدا كأنه محاولة لإيهام القيادة الإيرانية بأن أي عمل عسكري – إذا حدث – سيكون بعد المحادثات وليس قبلها. لكن هذه كانت الخدعة الكبرى، فبينما كانت طهران تخفّض جاهزيتها العسكرية استجابةً لإشارات التهدئة الأمريكية، كانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تحلق في سماء المنطقة في مهمة ستغير وجه الشرق الأوسط إلى الأبد. الضربة لم تكن مجرد عملية عسكرية تقليدية، بل كانت استراتيجية متعددة الأبعاد تهدف إلى إجبار إيران على خيارين أحلاهما مر: إما الإعلان عن امتلاك السلاح النووي ومواجهة العواقب الدولية المدمرة، أو التراجع وخسارة مكانتها كقوة إقليمية رادعة مع ما يعنيه ذلك من انهيار داخلي محتمل للنظام.

لقد اختارت إسرائيل وأمريكا توقيت الضربة بعناية فائقة، فإيران كانت تمر بأسوأ لحظاتها الداخلية مع تدهور اقتصادي غير مسبوق وانهيار للعملة وتمرد شعبي متصاعد، كما أن النظام كان منقسماً بين جناح “الصقور” الذين يصرون على التمسك بالبرنامج النووي بأي ثمن و”الواقعيين” الذين يفضلون التنازلات مقابل رفع العقوبات. على الصعيد الإقليمي والدولي أيضاً، كانت الظروف مثالية لضربة استباقية، فالعالم كان منشغلاً بأزمات أخرى بدءاً من الحرب الأوكرانية المستعرة وصولاً إلى التوترات في مضيق تايوان، بينما كانت الدول العربية منشغلة بملفاتها الداخلية. في هذا السياق، نفذت إسرائيل ما يمكن اعتباره الضربة العسكرية الأكثر جرأة منذ عملية “أوبرا” التي دمرت المفاعل النووي العراقي عام 1981، لكن هذه المرة على نطاق أوسع بكثير وبأهداف أكثر خطورة.

الضربة الإسرائيلية التي حملت الاسم الرمزي “الأسد الصاعد” لم تستهدف فقط المنشآت النووية في نطنز وأصفهان، بل شملت أيضاً قيادات كبرى في الحرس الثوري الإيراني وعلى رأسهم اللواء حسين سلامي قائد فيلق القدس والجنرال محمد باقري رئيس أركان القوات المسلحة، بالإضافة إلى علماء نوويين بارزين مثل فريدون عباسي دواني ومهدي طهرانجي الذين لعبوا أدواراً محورية في البرنامج النووي الإيراني. هذا النوع من الضربات الدقيقة والشاملة يهدف إلى تحقيق ما فشلت فيه العقوبات والدبلوماسية طوال عقدين من الزمن، وهو شل القدرة النووية الإيرانية ليس فقط من خلال تدمير المنشآت، بل أيضاً من خلال إزالة العقول التي تقف خلف هذا البرنامج.

لكن السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو: كيف ستكون استجابة إيران؟ التاريخ يقول إن النظام الإيراني لا يترك أي ضربة تمر دون رد، لكن طبيعة هذا الرد هي التي ستحدد مستقبل المنطقة. الخيار الأول هو الرد المباشر عبر إطلاق صواريخ باليستية من الأراضي الإيرانية على أهداف إسرائيلية، لكن هذا يعرض إيران لخطر ضربات أمريكية مباشرة قد تكون أكثر تدميراً. الخيار الثاني هو الرد غير المباشر عبر وكلائها في المنطقة مثل حزب الله في لبنان أو الحوثيين في اليمن، لكن هذا النوع من الردود قد لا يكون كافياً لاستعادة الهيبة الإيرانية المهدورة. الخيار الثالث والأكثر خطورة هو الإسراع في البرنامج النووي والإعلان عن امتلاك السلاح النووي بشكل رسمي، وهو خيار قد تجد طهران نفسها مضطرة إليه بعد الضربة الإسرائيلية التي كشفت عن هشاشة قدراتها الردعية التقليدية.

المفارقة الكبرى هنا هي أن الضربة الإسرائيلية التي كان هدفها المعلوم منع إيران من امتلاك السلاح النووي قد تكون العامل الذي يدفعها إلى الإعلان عن هذا السلاح بشكل علني. فبعد أن أصبح البرنامج النووي الإيراني قضية وطنية تجمع كل التيارات السياسية والشعبية خلف النظام، وبعد أن أثبتت الضربة الإسرائيلية أن الترسانة الصاروخية التقليدية لا تكفي لردع العدوان، قد يرى القادة الإيرانيون أن السلاح النووي هو الضمانة الوحيدة لبقاء النظام واستمراره. لكن هذا القرار إن تم سيفتح الباب أمام سيناريو كابوسي حيث تتحول المنطقة إلى ساحة لسباق تسلح نووي قد تشترك فيه دول مثل السعودية وتركيا ومصر، مما يجعل الشرق الأوسط واحدة من أخطر المناطق في العالم.

في المحصلة النهائية، الضربة الإسرائيلية على إيران ليست مجرد حدث عسكري عابر، بل هي نقطة تحول استراتيجية كبرى في الشرق الأوسط. لقد نجحت إسرائيل وأمريكا في جر إيران إلى فخ الوجود أو الفناء، حيث أصبحت طهران أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تعلن عن امتلاكها السلاح النووي وتواجه العزلة الدولية والعقوبات الأشد قسوة، أو تتراجع وتقبل بوضعية الدولة المنكوبة التي فقدت قدرتها على الردع. في كلا الحالتين، المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من عدم الاستقرار قد تطول لعقود، حيث تتهاوى كل القواعد القديمة وتبرز معادلات جديدة تقوم على الردع النووي المباشر. الضربة الإسرائيلية ربما تكون قد غيرت وجه الشرق الأوسط، لكنها بالتأكيد فتحت صندوق باندورا الذي لا أحد يعرف كيف ومتى سيُغلق.