تكتيك الإغراق الإيراني: صواريخ …إستنزاف الدفاعات….

بن معمر الحاج عيسى

في قلب التصعيد المتفاقم بين طهران وتل أبيب، وبينما تتجه المنطقة نحو حافة الانفجار الإقليمي، تلوح في الأفق فرضية مثيرة للجدل تتداولها دوائر عسكرية واستخباراتية إسرائيلية وغربية: هل تعمّدت إيران، وبكامل وعيها الاستراتيجي، استخدام صواريخ باليستية تعتمد على الوقود السائل – الأبطأ والأقل دقة – في هذه المرحلة الحساسة من المواجهة؟ وإذا صحّت هذه الفرضية، فما المغزى من العودة إلى ترسانة صاروخية تُعدّ من جيل الأمس، بينما تمتلك طهران في جعبتها صواريخ أكثر تطورًا وسرعة ودقة، تعتمد على الوقود الصلب ويمكن إطلاقها في لحظات؟ الإجابة عن هذا التساؤل لا تكمن في ميزان القوة النارية فحسب، بل في فن استنزاف القوة المضادة، وتفكيك منظومات الردع عبر تقنيات غير تقليدية، تبدأ بالتكتيك وتنتهي بالتخطيط بعيد المدى. إن ما أقدمت عليه إيران مؤخراً من إطلاق صواريخ من طراز “فتح 1” – وهي صواريخ متوسطة المدى تعمل بالوقود السائل – لا يمكن اعتباره مجرد خطوة ميدانية معزولة، بل يُقرأ ضمن استراتيجية متكاملة لإغراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وتحويل الأنظمة الاعتراضية المتقدمة إلى فخ مالي وتكتيكي يلتهم موارده الخاصة. فرغم أن هذه الصواريخ توصف بـ”البطيئة” و”القديمة”، إلا أن تكلفتها المتواضعة – والتي لا تتعدى عشرات آلاف الدولارات – تتحول إلى عبء ثقيل على الجانب الإسرائيلي، الذي يجد نفسه مضطراً لاعتراضها باستخدام أنظمة متطورة وعالية الكلفة مثل “حيتس” و”آرو”، وهي أنظمة وُجدت لاعتراض تهديدات باليستية ذات قدرات تدميرية عالية. لكن المفارقة الصادمة أن اعتراض كل صاروخ إيراني “متواضع” يكلف إسرائيل ما قد يصل إلى ملايين الدولارات، وهو ما يؤسس لدوامة مالية ولوجستية غير متكافئة، قد تدفع المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى إعادة النظر في قواعد الاشتباك نفسها.

بحسب تقارير استخباراتية نشرتها “وول ستريت جورنال”، فإن المخزون الإسرائيلي من الصواريخ الاعتراضية المتقدمة يكفي بالكاد لأسبوع في حال استمرار هذا النمط التصعيدي، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات حرب استنزاف دفاعية لم تعد مجرّد هاجس نظري، بل واقع يجري اختباره ميدانياً. فإيران، عبر “تكتيك الإغراق المنظومي” أو ما يُعرف بمصطلح (Saturation Tactic)، تلجأ إلى إطلاق موجات متزامنة من صواريخ منخفضة الكلفة والدقة لإرهاق المنظومات الدفاعية، ودفعها إلى استهلاك ذخائرها بوتيرة لا يمكن مجاراتها إنتاجياً أو مالياً. هذا التكتيك لا يهدف فقط إلى استهداف أهداف عسكرية، بل إلى خلق حالة من التردد والارتباك في قرار إطلاق المضادات، وهي حالة نفسية بقدر ما هي عملياتية، تجبر القيادات الميدانية الإسرائيلية على الاختيار بين المخاطرة بترك بعض الصواريخ تمرّ، أو استنزاف مخزون الدفاعات سريعاً في هجمات غير قاتلة تماماً. وكما وصف الأمر “توم كاراكو”، مدير مشروع الدفاع الصاروخي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS): “لا يمكن لأي دولة، حتى إسرائيل، أن تعترض الصواريخ بشكل مستمر وعلى مدار الساعة… المسألة تتطلب توازناً دقيقاً بين الردّ والتريث”. ومن هنا تبدأ الحرب النفسية، حيث تتحول كل صفارة إنذار في تل أبيب أو حيفا إلى اختبار للقرار العسكري والسياسي، وكل صاروخ إيراني متواضع إلى معضلة مالية وتقنية أمام نظام الدفاع الإسرائيلي.

اللافت أن إيران لم تلجأ حتى اللحظة إلى صواريخها الأكثر تطوراً مثل “سجّيل” و”خرمشهر 4”، والتي تعمل بالوقود الصلب وتُعرف بقدراتها العالية على المناورة والانطلاق السريع، ما يجعل اعتراضها مهمة شبه مستحيلة. ويبدو أن طهران تحتفظ بهذه الورقة الثقيلة لمرحلة لاحقة، ربما تُفتح فيها أبواب الجحيم الإقليمي بالكامل، سواء عبر دخول الولايات المتحدة على خط الاشتباك المباشر، أو انهيار فعلي لقدرات الردع الإسرائيلية. هذا التدرج في استخدام القوة يعكس ما يشبه “الهندسة الاستراتيجية” في إدارة الحرب، حيث تبدأ المعركة بالأسلحة التي تبدو ضعيفة في الظاهر، لكنها تؤسس لمنظومة إنهاك طويلة المدى، تُهلك العدو في استعداده ودفاعه وإنفاقه، قبل أن تُسدد الضربة الكبيرة في اللحظة المناسبة.

في المقابل، لا تزال إسرائيل تتبنى خطاب “الجاهزية الشاملة”، معلنة استعدادها لكافة السيناريوهات، لكنها تمتنع عن التصريح بحجم ما تبقى في مستودعاتها من ذخائر الاعتراض. هذا الصمت لا يُفسَّر فقط باعتبارات أمنية، بل قد يكون مؤشراً على قلق فعلي من فقدان السيطرة على زمام المبادرة إذا استمر هذا النسق من الهجمات المتزامنة. ومع ازدياد تهديدات حركات المقاومة الفلسطينية باستهداف مراكز حيوية مثل حيفا وتل أبيب، تبدو الجبهة الداخلية الإسرائيلية مرشحة لمزيد من الهشاشة، وسط تآكل بطيء للثقة الشعبية في جدوى “القبة الحديدية” ومنظومات الردع.

في هذا السياق، لا يمكن النظر إلى استخدام إيران لصواريخ الوقود السائل كخطوة مرتجلة أو خيار الضرورة، بل كجزء من مناورات ذكية تعكس فهماً عميقاً لمعنى الحرب الحديثة، حيث تتحول “كثافة النيران الرخيصة” إلى عنصر ضغط استراتيجي يتجاوز تأثيره اللحظة الميدانية، ليضرب عمق قدرة الخصم على التحمل. إن هذه المعركة، التي تدور في الظاهر بين الصواريخ الباليستية والمضادات الجوية، هي في جوهرها معركة اقتصادية نفسية هندسية، تستهدف التوازنات الدقيقة التي تُبقي الحروب محدودة، والردع قائماً. وإذا استمرت إيران في هذا النهج، فإن كل منطقة الخليج قد تجد نفسها في قلب العاصفة، حيث يصبح السلاح الأثقل هو الذي لم يُطلق بعد.