نمرٌ وأسدٌ بين الأفكار والقوة الغاشمة!

بكر أبوبكر

عندما انطلقت المقاومة الفلسطينية الحديثة عام 1965 كانت فكرة الدولة الدولة الديمقراطية الواحدة على أرض فلسطين هي المسيطرة، وذلك في ظل هدف القضاء على الفكر الصهيوني الاستعماري العنصري ومقومات كيانه، وما مثل وعيًا مبكرًا بالتفرقة بين الفكرة والكيان الحامل وبين الناس، رغم اختلاف فعل الوسيلة عن منطلق الفكرة لزمن البدايات. ولربما كان هذا الوعي المبكر هو ما جعل الفلسطينيين لاحقًا أكثر حساسية فيما يتعلق بالانسان والشعب وخدمته وحمايته، وإن بعد تجارب عنيفة ألمت بهم كان آخرها كارثة 7 أكتوبر2023م (كارثة كما أسماها القيادي في حماس د.أحمد يوسف بالنتيجة وليس السبب).
بعد سلسلة من الاخفاقات تبنت القيادة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات فكرة الدولة على أي مساحة من فلسطين، ثم ما كان من أمر الدولة الفلسطينية بحدود العام 1967والاعترافات العالمية، وذلك وعيًا بمستويات القوة، ورسوخ الوجود الإسرائيلي في فلسطين! وهو الوجود الذي أقرّه الرئيس الامريكي “وودرو ولسون” إثر موافقته على إعلان بلفور 1917 فالتقت العقليتان الاستعماريتان (بريطانيا وأمريكا) مع الحركة الصهيونية كما التقى فكر العنصرية البيضاء التي حملت الحضارة للعالم الهمجي أو البربري حسب ادعائها، مع تأصيل هرتسل لذات الفكرة حين افترض أنه بصهيونيته يقدم نفسه ممثلًا للحضارة البيضاء في مواجهة الهمجيين والبرابرة!؟ أي نحن العرب.
مع تواضع أهداف المقاومة أو الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح، فيما أسماه المعارضون تنازلات، نهضت الحركات الاسلاموية لتفترض بقيادة حماس تفرّد نهجها الممسوح بشيء من القداسة المتوهمة! وابتعاده عن القائم التسووي فهي البديل الذي لا مثيل له! وذلك بمرحلة الانتفاضة الاولى 1988م، وما تلاها، فأخفقت أكثر مما كانت الحال مع المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. الى أن تمسكت هي بالدولة الفلسطينية بحدود العام 1967 ولكن بعد فوات الأوان، فيما فعلته من استجلاب عديد الحروب إثر افتكاك غزة بالقوة من الشقيق-العدو 2007م حتى وقعت الكارثة وسقطت الأفكار وذابت الأهداف مع النواح والصراخ وربما اليأس والاحباط من البعض، ومع الألم العميق مما يحصل في فلسطين اليوم وعبر بوابة غزة-النكبة الثانية الكبرى.
تلتقي اليوم الفكرتان ما بين تلك الوطنية الفلسطينية ضمن العمق العربي، وتلك الاسلاموية في حلم دولة فلسطين على المتاح على الأرض، ومع اختلاف القادة وحالة الشيخوخة العقلية وتمزق المشارب وانعدام القدرة على اللقاء الجامع تشتتت القدرة الفلسطينية التي أضيف اليها منذ الطوفان/المباغتة فقدان الوعي وعدم القدرة على نقد الذات أو المراجعة أو تقديم الشعب على الحزب، والتمسك بالخرافات الدينية كما الحال مع تعملق النزق والكِبر لدى هؤلاء يمينًا واولئك يسارًا.
التقى منطق القوة مع أساطير التوراة في عقل اليمين الإسرائيلي بقيادة “نتنياهو” لاسيما والدعم الصهيوني-المسيحي-الغربي المتجذر للكيان، والدعم الاستخرابي (الاستعماري) منذ التأسيس للفكرة حتى اليوم فها هو “نتنياهو” يطعّم صواريخه بقُبلات ذات متفجرات فتاكة وبآيات من التوراة تؤكد على منطق القداسة والقوة الظالمة معًا. فها هي حرب “السيوف الحديدية” ضد غزة منذ العام 2023 تنطلق مع الصاروخ الموجّه بالذكاء الالكتروني مع التوراة ليقتل الجميع، إذ تقول توراته “فَيَحْمَى غَضَبِي وَأَقْتُلُكُمْ بِالسَّيْفِ، فَتَصِيرُ نِسَاؤُكُمْ أَرَامِلَ، وَأَوْلاَدُكُمْ يَتَامَى” ـ سفر الخروج -22: 24 ) وتقول “تَطْرُدُونَ أَعْدَاءَكُمْ فَيَسْقُطُونَ أَمَامَكُمْ بِالسَّيْفِ” ـ سفر اللاويين (26: 7). وكثير من آيات أخرى شبيهة جعلت السيف الذي يقطر دمًا هو مصير الفلسطيينيين في غزة وكل فلسطين، وانتقل نفس المفهوم التوراتي للحرب ضد إيران بعملية “شعب كلبوة” أو “الأسد الصاعد” حيث يذكر سِفر العدد من التوراة “هُوَذَا شَعْبٌ يَقُومُ كَلَبْوَةٍ، وَيَرْتَفِعُ كَأَسَدٍ.لاَ يضطجع حَتَّى يَأْكُلَ فَرِيسَةً وَيَشْرَبَ دَمَ قَتْلَى”!؟
اللقاء الامريكي الصهيوني المتين والقديم أصبح ركنًا في السياسة للحزبين في الدولة التي تحكم العالم حتى الآن (والغد لن يكون بيدها حتمًا، وبلا شك) ومنه استمد العقل اليميني الإسرائيلي قوته، فماذا يريد نتنياهو السلطان الحاكم باسم ملوك اليهود للكيان الحالي؟
1-الهدف المركزي الذي أعلن عنه مرارًا ولم يخجل أو يتواري وراء عبارات مموّهة أبدا هو المنع الأبدي لقيام دولة فلسطين، فلا حماسستان ولا فتحستان ولا سلطة، وبالتالي لا تحلموا بدولة فلسطينية.
2-لا ينفك نتنياهو وجمهوره قولًا وفعلًا عن ترويج أنهم رُسُل الحضارة الأوربية في المنطقة الهمجية! فيصبح أي فعل إبادة وقتل وإفناء مما يحصل (وكما حصل من الاستخراب الأوربي/الاستعمار) قابل للتبرير فالمقتولين هم همج وحيوانات وصراصير، ما خلقوا الا لخدمة الحضاري الأوحد ببشرته البيضاء وعقله العنصري.
3-لا نووي في المنطقة لغير الإسرائيلي! فحيث تدير وجهك لا يحق لك امتلاك النووي حتى السلمي منه، لذا قد يمتد قوس الهيمنة الى باكستان شرقا ومثله غربًا، فلا ضير في ذلك مادام الإسرائيلي (الأسد الذي لا يضطج حتى يشرب دم قتلى!) يخوض حرب وجوده، كما يضع في أذن كل إسرائيلي وغربي موالي من الساسة، دون الشبيبة العالمية الصاعدة.
4-الهدف القريب هو تحقيق الهيمنة على المحيط الإسرائيلي باتفاقات ابراهام التوراتي (غير النبي إبراهيم عليه السلام، وحاشاه) فيصبح الانصياع والذيلية قاعدة من قواعد التعامل مع الإسرائيلي، ويصبح التمدد الصهيوني مقبولًا والتوسع مفهومًا والهيمنة لذيذة ومحبّبة! مادام الخنوع أصلًا من الأصول.
5-الهدف المركزي الآخر لديه وكل اليمين سواء الإسرائيلي أو الأمريكي، ومن قبله الانجليزي أبقاء المنطقة العربية والاسلامية متفتتة خاضعة للأجنبي بالقوة الغاشمة من جهة، وبالإغراءات من جهة، وبتحقير اللغة والأصل القومي والديني، وبإفقاد الأمة عقيدتها وفكرها الحضاري النهضوي، وتدميرها بالعقل الاستهلاكي اللذّوي بعيدًا عن أي هدف جامع، لاقومي ولا إسلامي ولا مسيحي-مشرقي ولا حضاري.
يذكر الكاتب أميل أمين بمقال اليوم 21/6/2025م أنه “لن تصبح “إسرائيل” قوة مهيمنة، ما دامت تهرب إلى الأمام، وتحاول تجاهل القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني الذي يشكل قرابة نصف الأراضي التي تحتلها عسكرياً.” ويذكر الكاتب أنطوان شلحت بكتاب سابق له أن عقيدة نتنياهو في فلسطين هي “عقيدة اللاحل” مما ذكرناه أن لادولة فلسطينية في قاموسه قط، وذلك بكتاب أصدره عام2015 وما يتسق مع كتاب نتنياهو الأول “مكان تحت الشمس”عام 1993م، حيث حلمه بتهويد المنطقة هو حلم مركزي يترافق مع عقلية القوة الغاشمة والتهجير، وأن كل أرض فلسطين هي أرض نتنياهو! وأن العربي والفلسطيني هو العدو أينما كان، مما يفعله منذ ولايته الأولى حتى اليوم.
الفلسطينيون والامة-معًا حيث لا انفصام قط لمن يجهل أو يتوه أو يؤسر للغرب-نحتاج لعصيرعقول ناهضة وثرية ومبدعة وشجاعة (يلبسُ فيها الكُمَاةُ/الأبطال جلود نمر، كما يقول الشاعر دريد بن الصمة أحد صناديد العرب) لم تلوثها تهديدات الظالمين ولاحطّمتها تخويفاتهم وقوة الدعاية النفسية بجبروت المعتدي وسطوة الأسد الإسرائيلي. إنه القابل للهزيمة من أمة النمور حين تكون السرعة والمناورة وسيلتها، أو حين استخدام ذكاء النمر العربي الجريء والمقدام، والحضاري بالمنطقة بوحدة فصيلته القادرة على دحر ذاك الوحش العنصري “المضطّجع يشرب دم القتلى”.