في خطوة تصعيدية غير مسبوقة، أقدم الكيان الإسرائيلي على قصف ميناء بندر عباس الإيراني، في رسالة نارية تتجاوز حدود التحذير، وتضع الخليج والمنطقة برمتها على صفيح ساخن من التوتر والانفجار المحتمل. الميناء، الذي يُعد أحد أهم المرافئ الاستراتيجية في الخليج، لم يكن هدفًا عسكريًا عاديًا، بل رمزًا للقوة الإيرانية المتصاعدة، ومركزًا عسكريًا ولوجستيًا بالغ الأهمية، ما يجعل استهدافه بمثابة إعلان حرب غير مباشر، يُنذر بعواقب كارثية على الجغرافيا السياسية والأمن الإقليمي.
ميناء بندر عباس لم يعد مجرد نقطة بحرية للتجارة والنفط، بل أصبح خلال السنوات الأخيرة قلعة عسكرية حقيقية. إيران كثّفت من حضورها العسكري هناك، وأقامت قواعد صاروخية تحت الأرض، منصات دفاع جوي متطورة، أنظمة رادار ورصد، وحتى مراكز قيادة بحرية عالية الجهوزية. الموقع يُشرف مباشرة على مضيق هرمز، شريان النفط العالمي، ويُعد عقدة استراتيجية تربط إيران بالخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، وهو ما يجعله هدفًا مغريًا لكل من يسعى لكبح جماح طهران وعرقلة تمددها البحري.
الضربة الإسرائيلية لبندر عباس ليست مجرد عمل عسكري معزول، بل تأتي في سياق التصعيد المفتوح بين طهران وتل أبيب، حيث تخشى إسرائيل من التمدد الإيراني البحري، ومن التحالفات العميقة التي تبنيها طهران مع قوى آسيوية كبرى، وعلى رأسها الصين وروسيا. لكن الأخطر أن الضربة تمّت في منطقة شديدة الحساسية، ما يعني أن أي رد فعل إيراني قد يُشعل فتيل حرب شاملة في الخليج، خاصة إذا ما استهدفت طهران القواعد الأمريكية أو المصالح الغربية في المنطقة، أو لوحت بورقة إغلاق مضيق هرمز، وهو ما تلمّح به منذ سنوات كخيار استراتيجي لا يُستبعد.
استهداف بندر عباس هو رسالة إسرائيلية مزدوجة: أولًا، رسالة ردع موجهة لإيران في خضم تصاعد الصراع الإقليمي، وثانيًا، رسالة للولايات المتحدة، بأن إسرائيل قادرة على فرض قواعد الاشتباك وفق مصالحها، حتى ولو جرّ ذلك واشنطن إلى مستنقع جديد. لكن هذه المغامرة قد تأتي بنتائج عكسية، خاصة وأن إيران ترى أن ضرب أحد أهم موانئها السيادية هو تجاوز لخطوطها الحمراء، واعتداءٌ يستدعي ردًا بحجم الكرامة العسكرية والسيادة الوطنية.
القصف يُعيد طرح أسئلة ملتهبة: هل تحرّك إسرائيل تم بموافقة ضمنية أمريكية؟ وهل تُراهن تل أبيب على جرّ إيران إلى رد فعل عسكري مباشر يُبرر التدخل الغربي الواسع؟ أم أن تل أبيب، التي تخشى تنامي القدرات الإيرانية البحرية، تحاول كسر الطوق عبر ضرب القلب قبل أن تشتد العضلات؟ في كل الحالات، إيران لن تقف مكتوفة الأيدي. بندر عباس ليس موقعًا هامشيًا، بل بوابة الردع الإيراني، وخط الدفاع الأول في مواجهة الأسطول الخامس الأمريكي، والنقطة التي تتقاطع فيها الجغرافيا مع السيادة، والهيبة العسكرية مع العمق الاستراتيجي.
الميناء، الذي كان في الماضي مجرد مركز تجاري، بات اليوم واحدًا من أبرز مواقع الانتشار البحري الإيراني، ومركزًا لتخزين صواريخ بحر-بحر، ومنصات هجومية قادرة على إغراق السفن وتهديد الملاحة في هرمز. وهو أيضًا جزء من مشروع جيوسياسي أكبر، تُراهن عليه طهران لربط الداخل الإيراني بالسواحل الباكستانية والعُمانية، كبديل آمن في حالة نشوب نزاع بحري. لهذا، فإن قصفه لا يمكن أن يمر مرور الكرام، خاصة في ظل التصعيد المستمر في سوريا والعراق وغزة ولبنان.
بندر عباس لم يُقصف فقط بالصواريخ، بل ضُرب في رمزيته ووزنه واعتباره، وفي صلب عقيدة الردع الإيرانية. والردّ، كما تشير كل المؤشرات، سيكون من ذات العيار، وربما من نفس البحر. وإذا ما قررت إيران أن تضرب مصالح إسرائيل في البحر الأحمر أو في الخليج، فإن المنطقة ستدخل مرحلة جديدة من الاشتباك المفتوح، لا تُبقي ولا تذر.
ما بعد قصف بندر عباس ليس كما قبله. إيران الغاضبة، الحذرة، المتأهبة، قد تجد في هذا العدوان مبررًا لإعادة صياغة معادلات الردع، وربما للذهاب أبعد من ذلك، نحو فرض وقائع جديدة في مياه الخليج. أما إسرائيل، فهي تدرك أنها أشعلت فتيل نار لن تنطفئ بسهولة، وقد تكون أول من يحترق بها إذا قررت إيران أن الوقت قد حان للانتقال من الاحتواء إلى الانفجار.
في بندر عباس، تتقاطع خرائط النار والبحر. وهناك، بدأت حرب لا صوت لها… لكن صداها سيرتد في كل ركن من هذا الشرق الذي لا يعرف الهدوء.