حين يُضرب قلب إيران النووي: رد الفعل الإيراني وخيارات النار في مضيق هرمز

بن معمر الحاج عيسى

في لحظة فارقة من التصعيد الجيوسياسي، خطت الولايات المتحدة خطوة بالغة الخطورة حين وجّهت ضربة مباشرة إلى منشآت إيران النووية، مُعلنةً بذلك دخولًا صريحًا في مرحلة جديدة من المجابهة المفتوحة. هذا التطور لم يكن مجرد عمل عسكري عابر، بل جاء كمفصل استراتيجي يُعيد خلط الأوراق في منطقة مضطربة أصلًا، ويفرض على طهران تحديًا وجوديًا يستدعي ردًا على مستوى الكارثة. فهل ستلجأ الجمهورية الإسلامية إلى غلق مضيق هرمز، شريان الطاقة العالمي؟ أم ستُفضّل استراتيجية أقل صخبًا لكنها لا تقلّ تأثيرًا مثل تعطيل نظم الملاحة البحرية؟ وهل المنطقة والعالم مستعدان حقًا لتحمل عواقب الخيارات الإيرانية المفتوحة على الاحتمال الأخطر؟

الضربة الأمريكية، التي استهدفت بدقة مواقع حيوية في فوردو ونطنز وربما منشآت أخرى تحت الأرض، لم تكن فقط رسالة قوة، بل محاولة مبطّنة لإخضاع إيران عبر تدمير ما تعتبره “سيادتها النووية”. لقد رأت طهران في هذه الضربات إعلان حرب فعلية، يتجاوز كل الخطوط الحمراء التي لطالما رفعتها في وجه الغرب، وبخاصة واشنطن وتل أبيب. وما إن انتشرت صور الدخان المتصاعد من المنشآت النووية حتى بدأت المؤسسات العسكرية الإيرانية في عقد اجتماعات طارئة، بينما خرجت تصريحات من الحرس الثوري تُحذر من رد “مزلزل”، دون أن تحدد شكله أو توقيته.

في هذا السياق، تُطرح بقوة ورقة مضيق هرمز، تلك البقعة الجغرافية الصغيرة التي تمثل عنق الزجاجة للاقتصاد العالمي، حيث يمر ما يزيد عن 20% من تجارة النفط العالمية. إن غلق المضيق أو حتى تهديده يعادل ضغط الزناد على قلب الاقتصاد العالمي. ومن هنا، فإن مجرد الإيحاء بإمكانية عرقلة الملاحة في هذا الممر، يكفي لرفع أسعار النفط إلى مستويات خرافية، ودفع البورصات إلى التهاوي، وإدخال شركات الملاحة في دوامة تأمينات باهظة وتبديل مسارات خطيرة.

لكن هل تذهب إيران فعلًا إلى هذا الحد؟ وهل تُقدم على غلق المضيق كما فعلت في خطابها التصعيدي مرارًا؟ أم تختار خيارًا أكثر “ذكاءً” وأقل مباشرة، عبر استهداف البنية التقنية للملاحة البحرية؟ إن قدرة إيران على التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أمر مؤكد، وقد اختبرته السفن في الخليج أكثر من مرة خلال السنوات الأخيرة، حين تعرّضت سفن تجارية للاختفاء المؤقت من الرادار أو لخلل في نظام التوجيه أدى إلى جنوحها أو ارتباك مسارها.

تكرار هذه التجربة بشكل ممنهج ومنسق على سفن الشحن والنفط العابرة في مضيق هرمز قد يكون كفيلاً بشلّ الحركة البحرية دون أن تطلق إيران صاروخًا واحدًا. كما أن هذا الخيار يضع واشنطن وحلفاءها أمام مأزق جديد: كيف يواجهون خصمًا لا يُظهر أسنانه بل يُربكهم إلكترونيًا؟ كيف يمكن حماية السفن من تهديد لا يُرى؟ وإذا استمر التشويش، فإن شركات الملاحة ستُجبر على تعليق المرور مؤقتًا، ما يعني فعليًا تعطيل المضيق بدون غلقه عسكريًا.

إن كارثة كهذه لن تمسّ الخليج وحده، بل سترتدّ على الأسواق العالمية بسرعة صاعقة. أسعار النفط قد تتضاعف في أيام، واحتياطي الطوارئ الأمريكي قد يُستنزف، فيما تعاني أوروبا من تضخم جديد وانهيار في البورصات الكبرى. كما أن توقف أو تأخر شحنات الغاز والنفط قد يربك حسابات الشتاء في عواصم مثل برلين وباريس ولندن، وهي عواصم بالكاد تعافت من أزمات الطاقة التي فجّرها غزو أوكرانيا.

في المقابل، تعرف طهران أن غلق المضيق بشكل صريح يعني إعلان حرب شاملة، وهو ما قد يدفع واشنطن وحلفاءها إلى رد عنيف ومدمر، يشمل ضربات جوية مكثفة، وربما إنزالًا بحريًا في جزر استراتيجية، واستهدافًا مباشرًا لمنصات إطلاق الصواريخ الإيرانية والسفن السريعة التابعة للحرس الثوري. ولذلك، فإنها تميل غالبًا إلى اعتماد سياسة “التصعيد تحت العتبة”، أي ضرب المصالح دون الوصول إلى النقطة التي تبرر حربًا شاملة.

قد نرى، بدلًا من غلق المضيق، موجة هجمات إلكترونية متزامنة مع تشويش واسع على السفن، أو هجمات من مليشيات تابعة لإيران في العراق واليمن وسوريا، لضرب قواعد أمريكية أو مصالح خليجية، أو ربما استهداف ناقلات نفط من خلال طائرات مسيّرة يصعب تتبع مصدرها. كما أن تصعيدًا عبر حزب الله في الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة قد يُستخدم لتشتيت الانتباه وخلط الأوراق أكثر.

لكن رغم كل ما تملكه إيران من أوراق، فإن قرارها النهائي سيظل رهين مزيج معقد من الحسابات: الردع، الكلفة، القدرة، والتوقيت. فهي تدرك أن ردها يجب أن يكون كافيًا لحفظ ماء الوجه وإثبات القوة، لكنه لا يجب أن يجرّ البلاد إلى حرب لا طاقة لها بها في ظل العقوبات والانهيار الاقتصادي المستمر. ولذلك، من المرجّح أن تتدرج طهران في الرد، بدءًا من تعطيل الملاحة الإلكترونية، ثم الانتقال لاحقًا إلى خيارات أكثر صراحة، إذا استمرت الضغوط والضربات.

إن المنطقة تقف الآن على شفير لحظة انفجار، لحظة يتصارع فيها المنطق العسكري مع العقل الاستراتيجي، وتتحول فيها ضربة نووية إلى كرة لهب تمتد من الخليج إلى المتوسط. وسواء أغلقت إيران مضيق هرمز أم اختارت اللعب في الظل، فإن العالم سيدفع الثمن، وستبقى المنطقة رهينة رصاصات لم تُطلق بعد، لكنها معلقة على زناد مشحون بالدمار.