“حرب بلا منتصر.. كيف ربحت إيران دون أن تنتصر؟”

بن معمر الحاج عيسى

منذ أن اندلعت أولى شرارات التصعيد العسكري المفتوح بين إيران والكيان الصهيوني في الأشهر الأخيرة، توجّهت أنظار العالم إلى هذه المواجهة غير التقليدية التي مزجت بين الحروب المعلنة والضربات الرمزية، وبين الاستعراضات العسكرية والرسائل المشفرة العابرة للحدود. وبينما انشغل المحللون في تتبع نوعية الصواريخ والمسيرات، وعدد الضحايا، وطبيعة المواقع المستهدفة، كانت الحقيقة الكبرى تغيب عن العناوين: لم ينتصر أحد بعد، لكن إيران لم تخسر، بل ربما ربحت أكثر مما خسرته، إن لم يكن سياسيًا وعسكريًا، فعلى الأقل استراتيجيًا ونفسيًا.

ما معنى “الانتصار” في الحرب الحديثة؟

الحديث عن الانتصار في سياقات النزاعات المعقدة كالحرب بين إيران والكيان الصهيوني، لا يمكن أن يُفهم بالمفهوم الكلاسيكي القديم المرتبط بالسيطرة على الأرض، أو القضاء على جيش العدو، أو إجباره على توقيع وثيقة استسلام. في عالم اليوم، وخاصة في الحروب غير المتكافئة أو بين أطراف نووية وغير نووية، بات الانتصار يُقاس بمدى تحقق الأهداف الاستراتيجية الكامنة خلف كل ضربة أو مواجهة، وهو ما فشلت “إسرائيل” حتى الآن في تحقيقه رغم الضجيج الإعلامي والدعم الأمريكي اللامحدود.

فلم تستطع تل أبيب – رغم استهدافها مواقع عسكرية وعلمية حساسة داخل العمق الإيراني – أن تزعزع البنية الصلبة للنظام السياسي في طهران، ولا أن تُضعف إرادته في مواصلة دعم محور المقاومة، أو تجبره على التراجع في ملفات الإقليم، لا في اليمن، ولا في العراق، ولا في سوريا أو لبنان. الأسوأ من ذلك بالنسبة للصهاينة، أن الضربات التي طالت منشآت نووية لم تُحقق النتائج المرجوة، لا على مستوى التدمير الفعلي، ولا من حيث التأثير المعنوي أو الردعي.

المفاعلات النووية… ضربات محدودة في أثرها

عندما استهدفت الولايات المتحدة – بغطاء صهيوني واضح – بعض المفاعلات النووية الإيرانية، ساد الاعتقاد في بعض الأوساط الغربية أن الضربة ستكون قاصمة لظهر البرنامج النووي الإيراني، وأنها ستحرج القيادة الإيرانية أمام شعبها والعالم. غير أن ما تبيّن لاحقًا قلب الطاولة على هذا التحليل.

فالإيرانيون كانوا على علم مسبق بالضربات، ما مكّنهم من إخلاء المواقع الحيوية، ونقل أجهزة الطرد المركزي واليورانيوم عالي التخصيب إلى أماكن آمنة. لم تسجَّل أي كارثة إشعاعية، ولم يتوقف النشاط النووي بشكل نهائي، وهو ما يعني أن الضربة كانت رمزية أكثر منها عملية، بل ومحدودة في أثرها العسكري.

ثم إن البرنامج النووي الإيراني، شأنه شأن باقي البرامج النووية في الدول الكبرى، لم يكن يُنظر إليه كسلاح للاستخدام في الميدان، بل كورقة ردع وتحقيق توازن استراتيجي، ووسيلة لفرض الاحترام والندية. وبالتالي فإن إصابة منشأة أو اثنتين، لا تنزع من إيران قدراتها ولا تُخرجها من المعادلة النووية. فالبرنامج ليس بناءً واحدًا، بل شبكة متكاملة من البحوث والمعارف والمختبرات والكوادر، وهو ما تدركه طهران جيدًا وتُراكمه منذ عقود.

من العمق الإيراني إلى العمق الصهيوني

في المقابل، أظهرت إيران أن يدها طالت قلب “إسرائيل”، وأن زمن الردع من طرف واحد قد انتهى. لقد وجّهت إيران ضربات بصواريخ ومسيرات متطورة، لم تعد تستعملها فقط عبر حلفائها ووكلائها، بل باتت ترسلها مباشرة، باسمها وتوقيعها وصوتها، إلى المنشآت الحيوية داخل الكيان الصهيوني، وهو ما مثّل اختراقًا غير مسبوق في قواعد الاشتباك.

هذه القدرة على نقل المعركة إلى العمق الصهيوني تمثل تحولًا نوعيًا في معادلات الردع، ورسالة صريحة بأن طهران لا تهاب المواجهة، وأنها قادرة على استخدام أدواتها دون وسطاء. وهذا ما أعاد تشكيل صورة إيران لدى شعوب المنطقة، ولدى الحلفاء والخصوم على حد سواء، كقوة إقليمية كاملة السيادة على قرارها، وتمتلك أدوات الرد الحاسم إن اقتضى الأمر.

ماذا عن الخسائر البشرية والعلمية؟

لا شك أن إيران فقدت بعض القيادات الميدانية، وربما علماء في مواقع مختلفة، وهذا ثمن معروف في الحروب. لكنّ الدولة التي راكمت تجربة طويلة في الصراع المفتوح مع الغرب، وفي إعادة إنتاج النخب والكفاءات، لا تقف على اسم أو قائد واحد. فمادامت إيران تمتلك “الوصفة” العلمية والتقنية، ومادامت قادرة على تصنيع ما تحتاجه بنفسها دون اعتماد على الخارج، فإن تعويض الخسائر – وإن كان موجعًا – يظل واردًا.

الضرر الحقيقي لأي دولة ليس في مقتل الأشخاص، بل في انكشاف البنية التحتية أو ضياع سر المعرفة. وهذا لم يحدث، بل على العكس، يبدو أن إيران خرجت من المعركة أكثر دراية بعيوب منظومتها، وأقدر على سدّ الثغرات، وتطوير وسائل الرد، وهو ما يعني أن كل ضربة تعرضت لها تحولت إلى درس في التجربة والاستعداد.

الموقع الإقليمي بعد الحرب

ربما لم تُحقق إيران نصرًا عسكريًا صارخًا يمكن الاحتفال به في ساحات طهران، لكنها بالتأكيد خرجت من المواجهة وهي أكثر حضورًا في معادلات المنطقة. لقد رسّخت موقعها كفاعل إقليمي لا يُمكن تجاهله، وكقوة تتقن الجمع بين أدوات الردع والتهديد، وبين أوراق السياسة والدبلوماسية.

لقد أثبتت طهران أنها ليست دولة معزولة كما يُروج البعض، بل هي رأس في محور واسع يمتد من اليمن إلى لبنان، وأن قوتها ليست في الصواريخ فقط، بل في الإرادة، والبنية العلمية، والقدرة على الصمود والتجدد. وهذا ما لم تنجح “إسرائيل” ولا واشنطن في كسره، رغم كل الضغوط والعقوبات والتهديدات.

ختامًا

لقد كانت الحرب الأخيرة اختبارًا لإيران، ومحاولة لكسر هيبتها وضرب قدراتها من الداخل، لكنها تحولت إلى فرصة لتأكيد الذات، وإعادة ضبط قواعد الاشتباك، وإثبات القدرة على البقاء والمواجهة في آن. وبذلك، فإن إيران لم تنتصر بالمعنى العسكري التقليدي، لكنها بالتأكيد لم تُهزم، وربما ربحت من حيث لا يتوقع خصومها: ربحت الموقع، وربحت الوقت، وربحت معادلة الردع الجديدة.

إنها حرب بلا منتصر… لكن إيران خرجت منها أقرب ما تكون إلى النصر الاستراتيجي.